في غضون ثلاثة أشهر، تغيّر المشهد اللبناني والإقليمي بشكل جذري نتيجة حدثين مفصليين. الأول، اغتيال نصرالله وما تلاه من خسائر فادحة لـ”الحزب”، دفعته إلى توقيع اتفاق لوقف إطلاق النار والالتزام بالقرارات الدولية. وتمثّل الحدث الثاني بسقوط بشار الأسد المدوي وانهيار منظومة ديكتاتورية حكمت سوريا لأكثر من نصف قرن.
تغيير وجه سوريا أدى أيضًا إلى فكّ ارتباط لبنان مع وصاية فرضها نظام الأسد عليه تحت شعار “وحدة المسار والمصير” واستمرّت مفاعيلها بطرق مختلفة على رغم انسحاب الجيش السوري منه عام 2005.
وسط هذه التحوّلات الجذرية، وُضعت القوى السيادية في لبنان أمام فرصة تاريخية لإعادة بناء هوية وطنيّة مستقلة لبلدهم، تُرسّخ سيادته وقراره الوطني وتحرّره من هيمنة النفوذ الإيراني. ويبرز ملفّ الانتخابات الرئاسية كأوّل اختبار لهم في هذه المرحلة، حيث لا يزال لبنان غارقًا في دوامة الشغور منذ تشرين الثاني 2022، بعد أن فشل المجلس النيابي، غير المتجانس، في التوافق على انتخاب رئيس جديد على مدى اثنتي عشر جلسة.
غير أن مصير جلسة انتخاب رئيس الجمهورية، التي حدّدها رئيس مجلس النواب نبيه بري في 9 كانون الثاني، لا يزال غير واضح المعالم وسط مشهد سياسي متأزم. فمعظم الكتل النيابية ما زالت على اصطفافاتها التي أفرزها برلمان 2022، على رغم التغييرات البسيطة التي طرأت وتمثلت في انبثاق “اللقاء النيابي المستقل” نتيجة انشقاق أربعة نواب عن التيار الوطني الحر، بالإضافة إلى تشكيل تكتل “الإعتدال الوطني”.
وتصاعدت كذلك، المخاوف من استغلال الجلسة لتمرير رئيس يتماهى مع نهج الممانعة، ضمن تسوية مستعجلة تستبق تسلّم الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب مهامه الرئاسية في 20 كانون الثاني 2025.
رئيس يشبه المرحلة
النائب في تكتل الجمهورية القوية غياث يزبك يؤكّد لـ”المسيرة” أن التطوّرات التي بدأت من جنوب لبنان وامتدت عبر سوريا أحدثت تغييرات كبرى على مستوى لبنان والشرق الأوسط وأثبتت صحة مسار “القوات اللبنانية” التي ناضلت على مدى عقود إن في الحرب أو في السلم لإرساء مشروع الدولة.
هذا الواقع الجديد، يضيف يزبك “يجب أن يُترجم عبر انتخاب رئيس جمهورية يشبه المرحلة، رئيس يجسّد تطلّعاتنا ورؤيتنا للبنان السيادي، تمامًا كما كان الشهيد بشير الجميل الذي قدّمناه مشروعًا للدولة وضحّى بحياته من أجلها. مسارنا هذا، الذي استمر لعقود طويلة يثبت أننا متمسكون بثوابتنا في بناء دولة قوية ومستقلة”.
وإذ لا ينفِ أن يكون الدكتور سمير جعجع “رجل المرحلة” الحالية، كونه رمزًا للنضال الوطني والسيادي، لكنه يؤكد أن ترشح جعجع يتوقف على توافق القوى السيادية والكتل النيابية المؤمنة بمشروع بناء الدولة، مؤكدًا أن رئيس حزب “القوات اللبنانية” لن يتهرّب من المسؤولية إذا تطلبت المرحلة ذلك.
في المقابل، يشير يزبك بوضوح إلى أن “القوات اللبنانية” لن تسمح بتكرار تجربة فرض رئيس ضعيف أو رمادي عبر منطق التسويات التي ترضي “الحزب” ومن خلفه المحور الإيراني، ويحذّر من مغبّة دخول بعض الكتل في هذه اللعبة مؤكدًا أنها بذلك “ستتحمّل مسؤولية عزل لبنان عربيًا ودوليًا، وحرمانه بالتالي، من المساعدات والاستثمارات الإنقاذية”.
في السياق، يكشف عن مواصلة “القوات اللبنانية” العمل الجدي مع حلفائها حتى جلسة 9 كانون الثاني “لإيجاد رئيس يحمل رؤية واضحة تتماشى مع مشروع الدولة، وإن لم يكن سمير جعجع شخصيًا، فالأقرب إلى مواصفاته السيادية”، مضيفًا “ما دام لدينا 19 نائبًا، إن وحّدنا جهودنا مع مجموعة من النواب السياديين، يمكننا إحداث التغيير المنشود”.
أما في ما يخص الكتلة السنيّة النيابية وتوجّهها، فيعتبر يزبك أن “ما حدث في سوريا منح أشقاءنا السنّة شعورًا بالعدالة تجاه دم الشهيد رفيق الحريري الذي اغتاله النظام السوري. وأرى أنهم باتوا يمتلكون رؤية واضحة، ولا أعتقد أنهم مستعدون للقبول برئيس رمادي أو بشخص لا يعكس التركيبة الدولاتية في لبنان، والسنّة هم أهل دولة”.
في الختام، يمكن القول إن لبنان يقف اليوم أمام فرصة تاريخية، لعلّها تكون الأخيرة، لإعادة بناء سيادته واستعادة قراره الوطني المستقل. ومع تصاعد التحديّات السياسية والاقتصادية، لا بد من يقظة وطنية فعالة لاستثمار هذه الفرصة بحذر وحكمة.
المعارضة مدعوّة للتحرّك
النائب في كتلة “تجدّد” أشرف ريفي يرى أن التطوّرات الأمنية الأخيرة في لبنان وسوريا وجّهت ضربات قاسية لـ”الحزب”، ما أدى إلى تراجع قدراته العسكرية وتقليص نفوذه. ويضيف ريفي، في حديثه لـ”المسيرة”، أن هذه المستجدات تشكل دليلًا واضحًا على بداية انهيار المشروع الإيراني في لبنان، بعد أن زعمت إيران سابقًا سيطرتها على أربع عواصم عربية، فيما الوقائع الحالية تثبت خروج بيروت ودمشق من قبضتها، وتراجع نفوذها في بغداد وصنعاء.
انطلاقًا من هذا التحوّل، يعتبر ريفي أن الفرصة متاحة اليوم أمام قوى المعارضة الوطنية، بدءًا من حزب “القوات اللبنانية” مرورًا بالكتائب اللبنانية والمستقلين والتغييريين، لبناء دولة حرّة وذات سيادة، تحترم خصوصية مكوّناتها وتعزز التفاعل الإيجابي بينها، باعتبار أن المعارضة تشكل نواة صلبة للمجتمع اللبناني.
ويرى النائب الشمالي أن التحدّي الأكبر يكمن في التحلّي بالتواضع الوطني، لا سيما من خلال التعامل مع الشيعة الذين دفعوا الثمن الأكبر في هذا الصراع، مؤكدًا على ضرورة التوضيح لهم أنهم ليسوا مسؤولين عن المشروع الإيراني الذي لا يشبههم، بل كانوا ضحايا له أكثر من أي مكوّن آخر.
من جهة أخرى، لم ينفِ ريفي احتمال قيام فريق الممانعة بمحاولات لتمرير رئيس يحقّق مصالحه في جلسة 9 كانون الثاني، معيدًا التذكير بما حدث قبل سنوات حين فرض الثنائي شغورًا رئاسيًا دام عامين ونصف، ثم سارع إلى انتخاب ميشال عون رئيسًا للجمهورية قبيل وصول دونالد ترامب إلى رئاسة الولايات المتحدة. ويضيف: “مع عودة ترامب إلى البيت الأبيض، تسعى إيران إلى فرض رئيس تكون لها حصة فيه على الأقل، لعلمها أنها لن تتمكن من تمرير رئيس لصالحها بالكامل كما كانت تأمل”.
وبرسالة واضحة يختم ريفي قائلًا: “نحن مصمّمون على انتخاب رئيس سيادي وملتزمون بتطبيق الإتفاقات التي وقّعها الحزب وحكومته”. ويتابع محذرًا الحزب من أنه سينتهي معزولًا داخل بيئته الضيّقة، إن استمر على عناده في رفض تسليم سلاحه، بعد أن فقد دعم المسيحيين والسنّة والدروز والشيعة الأحرار، موضحًا أنه وبهدف التهرّب من التزاماته، يحاول “الحزب” تحريف بنود الاتفاقات بما يخدم مصالحه، وذلك من خلال الإيحاء بأن نزع سلاحه يقتصر فقط على منطقة جنوب الليطاني، وأنها تتطلب وفاقًا وطنيًا.
الصراع المستمر
من جهته، لا يرى النائب عن بيروت الثانية وضاح الصادق أيّ تغيير في التحالفات السياسية حتى الآن، مشيرًا لـ”المسيرة” أن المشهد السياسي يشهد تباينًا واضحًا بين ثلاث فئات رئيسية: الأولى تشمل الثنائي الشيعي المرتبط بالمحور الإيراني وبعض حلفائهم وكان النظام السوري جزءًا أساسيًا منه. والثانية تتمثّل بالمعارضة التي بقيت ثابتة على موقفها الواضح من اليوم الأول، والملتزمة به في المستقبل.
لكنه يشير إلى احتمال وجود تغيير لدى الفئة الثالثة المتمثّلة بالوسطيين، “الذين كانوا يوازنون بين الأطراف ويضعون قدمًا هنا وأخرى هناك” على حدّ قوله، متوقعًا أن يبدّلوا في مواقفهم إثر انهيار النظام السوري وضعف وضع “الحزب”، وأن يتجهوا إلى مصلحتهم السياسية، ويعيدوا بالتالي تشكيل مواقفهم بما يتماشى مع تراجع النفوذ الإيراني في لبنان.
أما بالنسبة لكتلة “اللقاء النيابي المستقل” التي انبثقت عن التيار الوطني الحرّ، فيرى الصادق أنها لم تغيّر سياستها بشكل جذري، بل يحافظ أعضاؤها على علاقة وطيدة وأكثر من عادية مع الثنائي الشيعي، على رغم عدم اعتبارها تحالفًا بالمعنى التقليدي. مع ذلك، يتوقّع حدوث تغيير في مواقفهم بعد سقوط النظام السوري، لا سيّما وأنهم شكلوا جزءًا من حلف أساسي معه.
وفي ما يتعلق بالملف الرئاسي وجلسة 9 كانون الثاني، يؤكد الصادق أن الأوضاع لا تزال غامضة، ويُشدّد على ثبات المعارضة، منذ ما قبل سقوط بشار الأسد وانهيار “الحزب”، في موقفها الرافض لأي تسوية بشأن إسم الرئيس العتيد، وعدم قبولها إلا برئيس يطبّق الدستور بالكامل ويأخذ لبنان إلى بر الأمان. كما يشير إلى أن الممانعة تضغط للإسراع في انتخاب رئيس ضعيف، يمكنها التحكم بقراراته، وذلك قبل وصول الرئيس الأميركي دونالد ترامب الذي تحمل إدارته خارطة طريق مختلفة للمنطقة.
وعن العلاقة مع “الحزب” وحركة “أمل”، يشير الصادق إلى عدم وجود أي تقارب جدي معهما ويقول “لدينا رؤية مغايرة تمامًا للبنان”. لكنه يعترف أيضًا أن نواب حركة “أمل” و”الحزب” يمثّلون ما يقارب ثلث الشعب اللبناني.
مع ذلك يؤكد أن “جزءًا كبيرًا من الشيعة غير متفق مع توجهات الثنائي، على رغم محاولاته المتكررة لإظهار نفسه كأكثرية مطلقة في بيئته”. لذلك يدعو الثنائي للعودة إلى الواقع اللبناني، والتعامل مع اللبنانيين وفقًا للدستور والقانون والشرعية.
كذلك يشدّد الصادق على أن المحاسبة ضرورية في عملية بناء الدولة، مؤكدًا أن كل من شارك في الإجرام أو سرق من مقدرات البلد لن يمّر من دون محاسبة وسيدفع الثمن.
كتبت ألين الحاج في “المسيرة” ـ العدد 1760
للإشتراك في “المسيرة” Online:
http://www.almassira.com/subscription/signup/index
from Australia: 0415311113 or: [email protected]