لا يستطيع اثنان بعد المسار الذي اتخذته الأحداث في الشرق الأوسط أن يقف على الحياد في مسيرة التحرّر. فمصيبة بعض شرقنا أنّه اتّخذ الحياد حيث يجب أن يكون منخرطًا، وانخرط حيث وجب أن يكون محايدًا. ولعلّ في ذلك نوعًا من السذاجة الاستراتيجيّة في التفكير، أو جهل مطبق نجحت بعض الأنظمة والأحزاب والدّول في إغراق مواطنيها في لججه حتّى تنجح أنظمتها بالحكم. وفي بعض الأحيان، كي لا نقول كلّها، مورس على هذه الشّعوب ما لا يتقبّله أيّ عقل بشري أينما وجد.
لكن ما يجب إدراكه أنّ للتاريخ مسارًا لا يستطيع أن يرسمه الإنسان بجبروته مهما عظم. وذلك لأنّ صانع التّاريخ هو ملك هذا التأريخ. ويعرف تمامًا متى وكيف يتدخّل ليؤدّب الموجود الذي أوجده في الوجود بهدف استمرار هذا الوجود بالذّات. وما بين الواجد والوجود رابط وثيق يقوم على قدرة الواجد بفعل خلق هذا الوجود.
هذه القدرة أناطها الله بالموجود أي الانسان، ليجعله شريكًا في عمليّة الخلق في هذا الوجود. وليستطيع القيام بهذه العمليّة يجب ألا يكون مشدودًا ومقيّدًا ومستعبَدًا، ولا أن يُغلَبَ على أمره غوغائيًّا وعاطفيًّا وتاريخيًّا وخرافيًّا وتخويفيًّا. بل يجب أن يسعى إلى نشدان الحقيقة لأنّها وحدها التي تحفّزه على الفعل الصحيح وتحلّه من عقالاته. والحرّيّة هي الشرط الدّامغ لبلوغ هذه الحقيقة ورؤيتها. والحقيقة بدورها هي شرط هذه الحرّيّة الإنسانيّة، وهي وحدها التي تحرّر. ومن دون التحرّر بقول هذه الحقيقة ليس لنا أيّ أمل على الإطلاق.
عندما قرّر الشعب السوري قول هذه الحقيقة أصبح بالفعل الوجودي للتحرّر شريكًا في عمليّة الخلق هذه. وذلك لأنّه عندما أطلق حرّيّته بلغ الحقيقة. وما بلوغ الحرّيّة المكتملة إلا في أحضان الحقيقة الخالصة. وهذان الفعلان، الإطلاق والبلوغ، يؤلّفان نزوع الإنسان السوري نحو كيانه الأصيل. وهما اللذان شكّلا له سبيلًا للخلاص من خطر الطاغية. وعلى قدر ما يستطيع هذا الشعب كسائر الشعوب، الحفاظ على حرّيّته، وشهادته لهذه الحقيقة الإنسانيّة، على قدر ما يستطيع أن يبلغ قمم التحرّر.
وما لفتني في أحد الفيديوهات التي وصلتني عبر مواقع التواصل الاجتماعي هو تلك اللحظة التي تمّ فيها دكّ أبواب السجون، عندما طلب أحد الثوّار المحرِّرين من معتقل محرَّر أن يخرج إلى الحرّيّة، كيف رفض الخروج وعاد أدراجه إلى زنزانته مطأطئًا رأسه، ظنًّا منه أنّ ما يسمعه غير حقيقيٍّ أو ربّما لأنّه لم يعد يعرف ما هي حقيقة حرّيّته الشخصيّة الكيانيّة الأصيلة في إنسانيّته. هذه الإنسانيّة التي نجح سجّانو مسلخ صيدنايا وغيره بإفقاد معناها لمساجينهم.
حتّى حقيقة الحرّيّة نجح الإجرام بإسقاطها! والمخيف في ذلك أنّ جدران السجن لا تقتصر فقط على المساجين الموجودين داخلها، بل سوريا كلّها كانت سجينة لهذا الفكر التدميري البعيد كلّ البعد من الحقيقة الإنسانيّة القائمة على مبدأ الحرّيّة. فالخشية تكمن في مرحلة ما بعد التحرّر والانتظام.
فبلدان العالم الواعية كلّها تطلب نشر حرّيّة المعرفة للوصول إلى مبدأ التجرّد في البحث، وحفز الفكر ليتنوّر فينير. وبسجن هذا الفكر وإفقاده حرّيّته، وأمام الواقع الذي لا يزال غامضًا حتّى الساعة، تبقى الحرّيّة ذلك اللباس الجديد الذي أغدق على الشعب السوري بأسره. فهل سيدرك قيمة ما سيرتديه؟ أو هل سيعرف كيف سيرتدي هذا اللباس؟
هذا المستجدّ الذي بات بمتناول الشعب السّوري كلّه سيترك تداعيات على مستقبل سوريا الإنسان. وبالطبع هذا ليس انتقاصًا من كرامة الإنسان السوري المفطور على قيمة الحرّيّة أساسًا. يكفي مراجعة تاريخ هذه البلاد لمعرفة تقديرها لقيمة الحرّيّة. لكن لا نخشى أن لا يستطيع الشعب السوري بسبب المآسي الجمّة التي عاناها طيلة هذه السنين من اللحاق بمصادر النور والعقل والحرّيّة والخلق.
هذه المصادر التي تنبع من الحركات البحثيّة التأليفيّة العميقة الأصيلة التي تديرها حلقات الفكر التي تضمّ المفكرين الذين يتفاعلون فيها معًا تفاعلًا صاخبًا خلاقًا. والهدف من هذه النّهضة الفكريّة المرتقبة يكمن في استعادة القدرة على مجابهة الفكر للفكر، أيّ مجابهة ملؤها المحبّة وسعة الصدر واحتمال الاختلاف ولو كان جوهريًّا، والصبر على الفوارق الأساسيّة. وهذا ما قد يوفّر لسوريا الشعب والديمقراطيّة الجديدة حسن إدارة قائمة على هدف التقارب بنعمة المحبّة وبنور الحقيقة، والاشتراك في الخبرة والرؤية كما في السعي والنشدان.
هذا العقل الذي زاغ في غياهب الظلم والاضطهاد أكثر من خمسين سنة سيجد صعوبة في التحوّل إلى مشعال من الحقّ يحلّ محلّ الظلمة والكآبة والاضطهاد. ليس لأنّه قاصر عن ذلك بل بالعكس تمامًا. لكن إيماننا بأنّ شدّة التّوق لكسر هذا الطوق ستكون الأنموذج المرغوب والمطلوب للوصول إلى دولة سيّدة حرّة في نظام ديمقراطيّ يقوم على صون حقوق الأقليّات، وليس على استبداد جديد للأكثريّة الجديدة على حساب الأقليّات، وحتّى تلك التي كانت سائدة وحاكمة بالجور والاضطهاد.
من هنا، المطلوب في هذه المرحلة قيادة حكيمة تستطيع روحنة الحرّيّة لمنعها من الانزلاق إلى اضطهاد جديد لأناس جدد. وذلك بهدف الوصول إلى جلاء الحقيقة الكيانيّة للشعب السوري المختلف بائتلافه. ولن ندخل في البحث بشكل النّظام الجديد؛ فهذا الأمر متروك حصرًا للشعب السّوري الذي له الحقّ وحده في أن يقرّر كيفيّة إدارة تنوّعه، لتأمين ما هو أفضل لحضارة بلاده، وللمستقبل الذي يريد أن يصنعه.
وبذلك المقدار عينه يتوجب علينا كشعوب مجاورة ومتقاربة تشجيعه لينشد الرؤية الصافية وطنيًّا والنظر الخالص علائقيًّا، ولا سيّما مع جيرانه. وليسعى وراء الحقيقة غاية بنفسها وقيمة بذاتها. وهذه مسألة ليست مستحيلة إن استطعنا تحييد أنفسنا عن اختلافات هذا الشعب الذي قرّر وعرف جزئيًّا كيف يدير هذا الاختلاف.
فللشعب السوري فرادى ومجتمعًا، هو مجد وماض نيّر قبل هذه المرحلة الظلاميّة التي أسقطها. وقد قامت فيها حركات حضاريّة ونشاطات فكريّة ذات صفاء، كانت – على الرغم من ضالّتها في المرحلة الظلاميّة – مجد سوريا الحضاريّ.
قد يحتاج هذا الشعب إلى مرحلة إنتقاليّة لتساعد هذا التفكير في إجراء عمليّة نقد ذاتي لهذه المرحلة السوداء. ولنا في إنجازات الماضي البعيد حافز لهذا التجديد ودليل على إمكانيّة حدوثه. فعمليّة إطلاق حرّيّة الفكر بحاجة إلى بلورة نهضة فكريّة تقوم على نقيض المبادئ التي كانت تتحكّم بحياة الشعب السوري كلّها. وهذا ما سيشكّل صدمة إيجابيّة عند ولوج عالم الديمقراطيّة في مختلف مراحله. ولكن ذلك لا يمنع من تشجيع عمليّة التجدّد الفكري التي ستقوم على هذه الأسس الجديدة والتي قد تبدو عند بعض الشعب السوري غريبة. وفي هذا السياق يبقى الرهان على العقلاء والحكماء والمتنوّرين.
هؤلاء هم البنّاؤون الساعون وراء الحقيقة المنطلقة من روحنة الحرّيّة لتستطيع أن تبصر وجهها الحقيقي ولا تقوم بتشويهه من جديد في العالم الجديد. وذلك لا يعني بالطبع تحوّل نشدان الحقيقة الإنسانيّة التي استجدّت في سوريا الجديدة، مهما كان شكلها السياسي المرتقب، إلى عمليّة إعتباطيّة سائبة متفلّتة من أبسط القواعد الإنسانيّة؛ وإلّا سيقع الشعب الثائر في شرك السائر في الظلمة من جديد.
من هنا، يجب ألّا يتحوّل الفرح بالحرّيّة إلى فوضى، بل يجب أن تتحوّل هذه الفوضى التي نجح ذلك النّظام الذي أبيد بتزكيتها طيلة ثلاثة عشر عامًا ليستمرّ في بطشه وإرهابه، يجب أن تتحوّل إلى نهضة تنظيميّة نظاميّة قوامها الفكر الديمقراطي الحرّ. وذلك بعيدًا من أيّة أفكار أصوليّة وصوليّة على حساب كرامة الإنسان وحرّيّته الشخصيّة الكيانيّة. وهذا لا يكون إلّا في دولة مدنيّة تحترم الإنسان لإنسانيّته فقط وليس انطلاقًا من مبدأ دينيّ أو ثقافيّ أو حضاريّ أو إثنيّ أو عرقيّ.
وهذا كلّه سيُقاس في المستقبل القريب بمقاييس إعلان محكّات هذه الحقيقة الجديدة للإنسان الجديد الذي نجح بتحرير ذاته بدمائه الذكيّة. فمشروطيّة نجاح هذه التجربة تبقى مرهونة بمدى مقبوليّة هذا الشعب لهذا الفكر الجديد الذي لطالما أنشده وحُرم منه. ولكن الخشية من خطر الاعتباطية في ممارسة الديمقراطيّة التي لا تبرّرها حرّيّة إطلاق الفكر في جوّ مسؤول.
هذا الإقرار بهذه المقاربة يندرج في سياق الخشية الواقعيّة، لأنّ المجهول بالنسبة إلى الإنسان يبقى مصدر خوف وعدم إطمئنان. وهذا بالطبع لا ينطوي على أيّ انتقاص من قدر الإنسان السوري الحرّ. بل هو إقرار بأمر واقع، ودعوة إلى استكماله.
وإذا لم يستطع الشعب السوري تقديس وتقدير قيمة الحرّيّة بعد كلّ هذه العذابات التي عصفت به ينتفي مبرّر بقائه شعبًا واحدًا موحّدًا. عندها وجب البحث في كيفيّة الحفاظ فردانيّة الحرّيّة وسط الاجتماع الشعبي. فعدوّ الشعب السوري هو ذلك النّاظر إليه سياسيًّا لا من وجهة نظر الحقيقة والحرّيّة والفكر. والباغي بقاء هذا الشعب بقاء واقعيًّا سياسيًّا على أسس محض سياسيّة، لا ذلك الذي يبغي بقاءه كيانًا إنسانيًّا وموئلًا للحرّيّة ومعقلًا لكرامة الإنسان. فهل سينجح الشعب السوري بخوض تجربة الحريّة بعد انعتاقه من نير العبوديّة؟
كتب د. ميشال الشَّمَّاعي في “المسيرة” ـ العدد 1760
تحرير النفوس بعد النظام
الشعب السوري أمام امتحان مصيري.. حرٌ وحرٌ وحرُّ!
للإشتراك في “المسيرة” Online:
http://www.almassira.com/subscription/signup/index
from Australia: 0415311113 or: [email protected]