اشتاق لبنان لعبق الاحترام ولحضور رئيس للجمهورية “معبّي مطرحو”. 9 كانون الثاني 2025 حصل. ثمانية أعوام والقصر يئن من وجع الكرامة، سنتان وكسور منهما ضجّ بالفراغ المدوي لأن سلطة الميليشيا منعت الاستحقاق الرئاسي، لكن عاد الرئيس الى القصر وارتفع علم لبنان فوق السارية العالية التي تنكز الغيم، وعادت نوافير المياه تُنذر بطرطشة الحياة، عاد الرئيس الى القصر لكن ليس أي رئيس، إذ صار للبنان من غياب عشرات السنين، رئيس رئيس.
منذ التاسعة صباحًا من ذاك الخميس التاريخي، تسمّرنا أمام شاشات التلفزيون ننتظر قدوم النواب الى البرلمان، بعد ليلة صاخبة من التحركات السياسية في الاتجاهات كافة وخصوصًا على جبهة معراب، حتى أثمرت استحقاقًا دستوريًا منتظرًا.
عند الحادية عشرة اكتمل النصاب وبدأت عملية الاقتراع، جوزف عون… ورقة بيضاء… الدستور و…لا اذكر أي هرطقة…
71 صوتًا في الدورة الاولى. “الحزب” انتخب الورقة البيضاء، ونواب باسيل فجأة ومن غياب عشرات السنين، تذكروا الدستور الممزق على زمن عهدهم “العظيم”، فأعادوا له الاعتبار بالأوراق وانتخبوه!!
أجّل الرئيس بري الجلسة لمدة ساعتين، هو الذي كان وعد مرارًا أن النواب لن يخرجوا من البرلمان قبل انتخاب رئيس “والسندويشات ع حسابي”. تفرّق النواب ولم يتناولوا سندويشات على حساب بري، بل توزعوا في بعض المقاهي وفي أرجاء البرلمان، وفي لقاءات صحافية مع الصحافيين عند مدخل مجلس النواب، في حين انصرف نواب الثنائي الشيعي الى لقاءات جانبية قالوا إنها مع السفير السعودي ومع المرشح جوزف عون لحل عقدة الورقة البيضاء تلك.
انتهت فرصة الساعتين، وعاد الجميع الى القاعة وبدأت الدورة الانتخابية الثانية. جوزف عون… جوزف عون… ورقة بيضاء، عدنا الى النغمة السوداء إياها؟! الدستور وما شابه… جوزف عون… وانتهى الاقتراع، فُرزت الاصوات. 99 صوتًا لقائد الجيش، أففف ارتحنا، علا التصفيق. صار للبنان رئيسًا للجمهورية.
بدأ الجد، حان وقت خطاب القسم… يا رب معقول أن يتضمن “جيش شعب مقاومة”؟ هي إذًا نهايات جديدة وليس بدايات، معقول الا يتكلم عن تسليم السلاح للدولة؟! بدأنا نتساءل خائفين. وبدأ الرئيس المنتخب بتلاوة خطابه المدوي باللاءات غير المتوقعة.
لا للسلاح المتفلت، نعم لحصرية السلاح بيد الدولة. يا يسوع هيدا حكي. لا للحدود المتفلتة، لا للمهربين والفاسدين، نعم لحياد لبنان ولتطبيق القرارات الدولية، عهدي أن تبسط الدولة سلطتها على كامل التراب الوطني وخصوصًا في الجنوب… عهدي القضاء النزيه… عهدي أفضل العلاقات مع العرب والمجتمع الدولي… عهدي عهدي ومرت عهود علينا لم نسمع خطابًا مماثلًا من بعد بشير الجميل.
كأن الرئيس المنتخب فجّر قنبلة وطن في قلب الوطن. “اشتقنا يا ريس للوطن” صرخنا له من خلف الشاشات وكأنه يقف معنا. وقف النواب السياديون والمستقلون يصفقون له بحرارة، تمنّع نواب “الحزب” وذاك الباسيل. تربّطت اياديهم فجأة، وكأنهم أصيبوا بشلل اللحظة المدوية فيهم، إذ أصابهم في صميم تواطؤهم على لبنان لسنين طويلة، لم يستوعبوا ما سمعوه، لم يتمكنوا حتى من ممالقة الجو العاصف بالسيادة المطلقة، إذ لم يتعودوا على سماع لاءات ووعود مشابهة، اعتادوا أن يسمعوا خطابات من إعدادهم، خطابات ممجوجة بالذل والتبعية، ومختومة بتلك العبارة القاتلة لسيادة وجيش لبنان “جيش شعب مقاومة”، سمّرهم خطاب القسم بأرض لبنان الآتي على جناح الكرامة، على الانفتاح على العالم كله، على دولة موعودة بالقانون، القانون الذي ما عادوا يعرفون اليه طريقًا الا عبر تهديد القضاء، وقضاة مرتهنون بلا ضمير. لوهلة قلت سينسحب الممانعون المفترضون، ولم يفعلوا، ربما خجلًا، ربما حفظًا لما تبقى من ماء الوجه تجاه وجه لبنان الجريح بسببهم، لا يهم، لا يهم، المهم أننا سمعنا خطاب قسم ظننت لوهلة انه من إعداد قواتي متجذر في حزبه، كي لا أقول الحكيم صراحة، لكثرة ما فيه من لبنان، لبنان يا الله، لبنان قلب الله، أرض الرب، نبع الشهادة والقداسة، عبق الأرز يا لبنان، عبق وطني الحلووو الحر… ولكن لا، تبين أن خطاب القسم من إعداد الرجل اياه، قائد جيش عانى الكثير الكثير من السلطة السابقة ليحافظ على كرامة جيشه ووطنه، فجاء خطابه ثمرة معاناته وأحلامه الكبيرة بعودة الوطن الكبير.
في الإعلام المحلي والعربي، قالوا إنه يوم تاريخي في لبنان! لا لم يكن اليوم هو التاريخي، التاريخي كان انتخاب رئيس لم تفرضه تلك الممانعة البائدة، ولا النظام السوري السفاح، بل اختاره اللبنانيون الأحرار للمرة الاولى منذ نحو نصف قرن ربما. التاريخي هو خطاب القسم الذي، من بعد الشيخ بشير، ما تجرأ رئيس على تلاوة ما يشبهه، لأن من بعد البشير ما عاد لدينا رؤساء، بل موظفون في قصر بعبدا بخدمة الاحتلالات. التاريخي كان عودة ألق الكرامة الى قصر بعبدا من غياب سنين، التاريخي هو الرجل نفسه إذا ما صدق بوعوده للبنان، ولا أظن أنه لن يصدق. ولعل التاريخي في ذاك اليوم المجيد، هو تكريس عودة الدولة وتغييب كامل للدويلة، عاش المقتول من جديد وانكفأ القاتل مرغمًا، ولا أرى مجدًا تاريخيًا أكثر من ذلك. صار للبنان رئيس جمهورية رئيس “معبّي مطرحو… شو حلووو ستكون يا لبنان”.