منذ اللحظة الأولى التي أبصر فيها اتفاق وقف إطلاق النار النور، وأعقبه مباشرة تحديد رئيس مجلس النواب نبيه بري 9 كانون الثاني موعداً لجلسة انتخاب رئيس الجمهورية مع دعوة البعثات الدبلوماسية إلى جلسة الانتخاب، دخل لبنان في مرحلة جديدة مختلفة كلياً عن سابقاتها، يأمل اللبنانيون أن ترقى لأن تكون الحد التاريخي الفاصل بين لبنان الـ100 عام التي سبقت، والتي كانت مليئة بالحروب والصراعات والتجاذبات، ولبنان الـ100 سنة المقبلة، دولة المؤسسات والقانون والعدالة والمساواة بين كل اللبنانيين.
انتهى الزمن الذي كانت تتحرك فيه فئات لبنانية مع ثورات أو منظمات أو أنظمة خارجية، تستقوي بها على الفئات اللبنانية الأخرى وتستجلب كل أنواع الحروب والنزاعات المسلحة، مما جعل من لبنان ساحة مستباحة لكل طامع أو حاقد يريد أن يُسقط اللبنانيين إلى مستوى الشعوب المقموعة التي كان يتحكم بها.
انتهى زمن الرؤساء الصغار الذين يخضعون لقوى الاحتلال أو قوى الأمر الواقع التي تأتي بهم خدمة لمشاريعها الشريرة. وحتى الأمس، وبكل وقاحة، كان بعض الصغار لا يزال يتملَّق من أجل ألا يبقى إرثه الرث خارج ما تعوَّد أن يتعامل معه على أنه منظومة فساد لا منظومة حكم وعدالة.
انتهى زمن الدويلات داخل الدولة ولن يكون هناك إلا القوى المسلحة الشرعية فقط، التي تتبع القوانين اللبنانية بحذافيرها في التعامل مع الداخل والخارج، والساهرة على تطبيق هذه القوانين على جميع اللبنانيين من رأس الهرم إلى آخر مواطن في الدولة اللبنانية.
ولَّى الزمن الذي يؤتى بصغار النفوس ليستلموا حقائب وزارية، فيجعلوا من وزاراتهم أضحوكة للناس على شاكلتهم، ومغارة علي بابا تبتلع مليارات الدولارات، ولا من يسأل ولا من يحاسب.
اليوم مع الرئيس الجديد للجمهورية اللبنانية، الذي منع الكبير والصغير وكانوا من أقرب المقربين، من التدخل بالمؤسسة العسكرية، كلنا أمل بأن هذا السلوك سيكون السائد في كل مؤسسات الدولة اللبنانية، وأن تكون الكفاءة هي المعيار الوحيد الذي على أساسه يُعيَّن المسؤولون في هذه الدولة.
غالبية اللبنانيين لا تُخفي إعجابها بالرئيس جوزيف عون، ربما كان لدى بعضهم مشكلة مع ما كان يُنسب له من انتماء سياسي في السابق، لكن هذه المشكلة حُلَّت بعد أدائه في ثورة 17 تشرين ورفضه الواضح والصريح والجريء الأوامر بقمع الثورة بالقوة والاصطدام مع الناس.
ثمة إشارات لافتة لدى الرئيس جوزيف عون منذ انتخابه، عدم تعيين أي وقت لتقبل التهاني بانتخابه، وهذا من النوادر إذا لم نقل إنها سابقة لم تحصل من قبل، بالإضافة إلى قيامه بزيارة بكركي بعد انتخابه مباشرة، كما كانت العادة في زمن الرؤساء الكبار، في دلالة على التواضع والاحترام تجاه رئيس كنيسته، إذ كان يمكنه إنتظار أن يأتي البطريرك الماروني لتهنئته في قصر بعبدا.
اللافت أيضاً مغادرة الرئيس جوزيف عون في أولى أيام انتخابه القصر الجمهوري لينام في بيته، عير آبه بالكرسي وبالقصر وبكل الجاه والسلطة، وهذا يعبِّر تماماً عمّا قاله بأن مهمته التي أتى من أجلها هي بناء المؤسسات، في حين أن بعض أسلافه استقدم معه كمية من الألتيكو ليلتصق بالكرسي إلى أبد الآبدين وإستمات ليمدِّد جلوسه على كرسي الرئاسة، تجسيداً لشراهته المزمنة باحتلال هذا الكرسي، غير مصدِّق أنه وصل إلى المكان الذي يستطيع من خلاله أن يسدَّ جوعه العتيق بأبشع الأساليب والطرق.
تبقى التحية الكبرى إلى رئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع، الذي لولا صموده و”القوات” على مدى عشرات السنين في وجه المحتل المجرم، ووقوفهم سدّاً منيعاً أمام تمدد ميليشيات إيران لوضع يدها على كامل لبنان، لكنّا اليوم إما محافظة سورية أخرى أو كياناً تابعاً لولاية الفقيه.