“ومضى ذلك الغنيُّ حزينًا لأنَّه كان ذا مالٍ كثير “.
تعود بنا السيرة الأنطونيوسية إلى منتصف القرن الأول الميلادي وترافقنا في استحضار ماضي أجيال الصَّعيد المصري وأريافه وقريةٍ من قراه معروفة بقرية “كوما”، ندخل دارة كبير وجهائها وأعرق وجهاء بلاد الصَّعايدة وهي الدار المرجعية لبني قومه وربعه. السيِّد العمدة مُسجَّى في وسيع بهو صالة دارته وبكره ابنه الأوحد أنطونيوس واقفٌ بحضرة انتقال رأس البيت وسند العائلة إلى ملكوت القائل: “مَن آمن بي وإن مات فسيحيا حياةً أبدية”. الوجه الأبويّ مزيج مِن لونين نقيضين، هو أبيض بنصاعة الحنان والأخلاق والإيمان وأصفر رسمًا لصبغة الموت. أنطونيوس الفتى العشرينيِّ والابن الحزين يتأمّل ملامح أبيه تأمل الزهَّاد لعلامات وجود البشرية وجودًا مختصرًا مؤقَّتًا. أبٌ وابنٌ يتقابلان عائليًا وحياتيًا للمرة الأخيرة والعيون البنوية الدَّامعة تقرأ الرسالة من دون حروف وكلمات، هي رسالة خالق كلّ ما يرى وما لا يرى، ومن ذا الذي يتجرَّأ على إضافة علامة استفهام واحدة على أقدس الرسائل وأسماها وأعمقها سرًا وأعصاها فهمًا على الغافلين عن هذا الذي نتحاشى ذكره طوال خوفنا منه، لكنَّه “يأتي كالسّارق ليلاً ويدهمنا دهم المخاض للحبلى”. دقَّق ابن الفقيد في عيني “أبي أنطونيوس” منتقلاً إلى كامل ملامحه، فلم يكتشف حتَّى في ملمح واحد من ملامح الوالد الثري، أي أثر لذلك الغني الذي مضى حزينًا، لكنَّه عاين في اليدين الوالدية بصمات سخاء يدٍ يمين لم تدع توأمها الشمال أن تعلم بما فعلت وأعطت.
حمل أهالي الجيرة الطيبة ذي الطباع المتطَّبعة بقساوةٍ طبيعتهم وصرامة تقاليدهم نعش كبيرهم وعمدتهم ومرجعيتهم، كأنَّهم يشيِّعون قلوبهم المغسولة بصدق الدمع في عيونهم ونخوة الصَّعايدة وفتوَّتهم يرتجلونهما ارتجالاً. الموكب يسير حتى الباب الأخير وآخر الوداع وعيون الأخ الحنون أنطونيوس تحيطُ أخته الباكية اليتيمة بنظراتٍ تجمع أدقَّ تعابير أعين الأب والأم والأخوة، وقد أمسى لها جميعهم. نهاية ذبيحة المرافقة داخل كنيسة الضَّيعة ورشِّ مثوى الوالد المنتقل برشَّة دعاء: “أذكر يا أنسان أنَّكَ تراب”، لحظتها حلَّ في أسماع وارث أطيان الأموال والعقارات الشاسعة والحارات الموروثة صوتٌ نفَّاذ: “حيث يكون كنزك يا أنطونيوس فهناك يكون قلبكَ”، والقلب الولهان بكنز لا يفنى ألهم قرار التجرُّد المطلق والرَّحيل في إثرِ أولئكَ الذين لا يمتلكون إلاَّ سلَّمًا نورانيًا يتسلَّقون درجاته إلى ما فوق كل هذا الزوال العميم!!
” أنطونيوس الشّاطر”.. يشطر ثروة أبيه الطّائلة وأملاكه المترامية الحدود إلى شطرين، شطرٌ مُحقٌ مُستَحَقٌ يبرِّئ ذمته المرهفة تجاه الشقيقة الغالية وأحقيتها بكامل حصتها من ميراثٍ والديّ يُغني ولد الولد وحفيد الحفيد، أما الشّطر الثاني فقد بدَّده الابن الصَّعيدي الشاطر توزيعًا على الفقراء والمعوزين والمعدَمين وسائر مساكين وأخوة يسوع الصِّغار، ثمّ أوصى أحد أديار البتولات المكرَّسات برعاية أخته ولبَّ قلبه، ثم سلك طريق الأرض البعيدة القصيَّة يتسوَّل من كهوفها مسكنًا ومن أزهار حقولها ثيابًا لروحه، “لم يلبس سليمان الملك كواحدة مثلها”، وأمَّا لجسده فقد اختار الصوت الصامت في البرية ذات الرداء الذي ارتداه الصوت الصارخ في البريَّة، والصَّوتان الحبيسان في نبرة الحق والحقيقة يفتتحان عهد “طريق الرب وجَعلِ سبله قويمة”. أنطونيوس يتوغَّلُ والبوادي العذراء تكشف لناظريه عالمًا بشريًا قائمًا على نقيضين : ادّعاء الخلود وتجاهل يوم الآخرة .من باديةٍ إلى أخرى يمشي ولا تستقرُ نفسه إلى أن يكتشف رواسب التراب في لحمه ودمه وعظمه، ومزايا الرماد في عقول الماديين !!
كوكب البريّة
ها إنَّك تمضي قدمًا أيها الكوكب السَّاطع زهدًا وسكوتًا وسكونًا وتسبيحًا بهمس الملائكة، تخطو مقدامًا ولمعة برارتِكَ تواكبكَ حتّى آخر أصقاع براريكَ ودنياك، ما كانت مجيئًا عابرًا وزيارةً طارئةً ولا رحيلاً مقرَّرًا سلفًا. مضى 1774 سنة على يوم ولادتكَ وأنتَ يا ربيب الوجاهة ما زلتَ تطيح بدواوين الوجهاء، عزَّة للمنبوذين من الناس ومُحتقرين، وتخرق قوانين جبابرة الأمم تعزيَّةً للمقهورين والمنكسرين والمسحوقين، تواجه أرباب الوثنيات العقائدية والفكرية والأخلاقية والتربوية مُظلَّل المهابة بإسكيم أطلقَ الفرح اللامتناهي على طول مدى براري الملائكيين وقفارهم اليانعة بزنبق وبنفسج الساروفيم والمبرعمَة ببراعم الياسمين والورد والشارون. العقل المستحدث المصنَّع يُبهر ويسحر قطعان الاستهلاكيين والمُستهلكين بأدهش معجزات التكنولوجيا وأشدها تعقيدًا، وأنت ما زلت ميتولوجيا اليونان والإغريق، إلى أسطورةٍ أنطونيوسيَّة الرب كان أول من صدَّقها وصادقها وصدَّق عليها!!
أب الرهبان
جرستُكَ الشهيرة يقِظة متيقِّظة لا تغافلها غفلة ولا تباغتها حنكة وخبرة المجرِّب الدَّاهية الرجيم. جرستُك المعقودة على عصاك العنيدة المعاندة، لها رنين بليغ الصوت والصدى يقرع في فضاء أدياركَ وعلى أبوابها قرعًا مثابرًا يوازي نفير البلاغات العسكرية، ومن مثلكَ يا أنبا مسكونة الزهّاد المتوحِّدين له كبير المَوْنة على عساكر السماء فتهرع إلى أبنائكَ تحيط بهم وبموائد مذابحهم وحصونهم الديرية تحصِّنها بتوصية وصايا ليلة الأسرار: “صوموا وصلَّوا لئلا تدخلوا في تجربة”. أبناؤك يا أبا الرهبان حتى لو أنجذب بعضهم إلى مواكبة قفزات العلم قفزًا يقارب جنون العبقريات العلمية، فأقدموا على قطع علاقات عصرنتهم مع سفارة عصركَ المُحذّر من أخطار ردمِ براري الأغنياء المقتدين باستغنائكَ عن ثروتك ووضع الأقفال على أبواب المحابس للاندفاع العشوائي إلى أبواب الجامعات العامية والإجازات العالية، فإنَّ عروسة الروح وعروستك اليمامة الصَّبية الحاملة بالنَّسر العتيق الأيام، ما زالت تجدِّد نذر طاعتها بحضرة وحضور الزائر السماوي جبرائيل البشير، “ها أنا أمَةٌ طائعةٌ للرب فليكن لي حسب قولك”.. وما زال صديقكَ يوسف الناصرة يجدِّدُ نذرَ عفَّة أهَّلته ليكون العريس المختار لسلطانة العذارى والأب المربِّي ابن الله الآب.. وفقرُك يا أنطونيوس بغالي ثمنه، هو ذاته الذي رفع أليعازر المعدَم إلى أحضان أبراهيم، وأمَّا قروحه التي طالما داوتها كلاب قصر ذلك الغني بلحس ألسنتها، فقد تركها على ضمائر فقراء بخمساتٍ من النجوم، لا يملكون غير مليارات مصارفهم وسبائك فضتهم وذهبهم وأساطيل سياراتهم ومساطيل أزلامهم وزمرّد وياقوت جواهرهم وألماس ثريات قصورهم وآلهة بطونهم!!
لأجل رزمات دنانيره المُكدَّسة في طبقات خزائنه تكديس حرمان وأحزان المُشتهين عضَّة الرغيف، ولأجل ماله الأكثر من كثير، مضى ذلك الغني كسير الإيمان مكسور الرَّجاء حزنًا وقهرًا على خسرانه صفقةً تجاريّة ظنَّ أنها ستكسبه المال والملكوت معًا.. “إن شئتَ أن تكونَ كاملاً، إذهب وبع جميع مقتنياتِك ووزع ثمنه وثروتك على الفقراء والمساكين وتعالى اتبعني”، بتلبيتَك الفورية غير المتردِّدة لهذا النداء العسير يا أنطونيوس، قد مرَّرت الجَّمل من خرم الإبرة وأسقطت يا أبا الرهبان وكوكب البرية قصورًا وعروشًا وأباطرة وإمبراطوريات وفوقهم زملاء “قارون” بالضَّربة القاضية، وكان يسوع بقربك يعاين جهادك ويعزِّيك بوحدتك ويهنِّئك بانتصارك الحاسم على أبالسة منظورين وغير منظورين، ويعلنك يا ابن الملوك هاديًا، حاملي هدايا قداستهم إلى فقير مغارة الرعيان، ومغارتك القزحياوية يا أنطونيوس هي كنز الحياتَين من أعماق وادي المحابس حتى أعلى جبال التطويبات السماوية !!!