تسارعت في الأسابيع الأخيرة التطوّرات الميدانية في سوريا مع تقدم لافت لـ”هيئة تحرير الشام” ولفصائل المعارضة المسلحة، والتي نجحت في السيطرة تباعًا على أكبر المدن السورية من إدلب في أقصى الشمال ومن ثم حلب ولاحقًا حماة وحمص وصولاً أخيرًا الى دمشق وإسقاط نظام بشار الأسد. حدث كل هذا التقدم الميداني أمام تراجع الجيش العربي السوري، التابع للنظام، والميليشيات الإيرانية الموالية له، وأبرزها “الحزب”، كما تزامن ذلك مع لامبالاة روسية، إن لم نقل موافقة روسية، وعجز وضعف إيرانيين وتأييد غربي وتحديدًا من قبل الولايات المتحدة. مراقبة هذه التطوّرات الميدانية وتسارعها يدفعاننا الى وضعها ضمن سياق الأحداث التي تشهدها كامل منطقة الساحل الشرقي للمتوسط، وتحديدًا الهزائم المتوالية التي يُمنى بها محور إيران ومرتزقتها، من حركة ح. في قطاع غزة، الى “الحزب” في لبنان. كل هذه التطوّرات تدفعنا الى طرح عدة أسئلة جدلية من بينها: هل بدأت فعلاً عملية تطبيق مشروع الشرق الأوسط الجديد؟ ما هو الدور الذي تلعبه الدول الكبرى والدول الغربية والعربية المؤثرة، خصوصًا وأن بعض فصائل المعارضة، وتحديدًا “هيئة تحرير الشام” موضوعة على لوائح الإرهاب الدولية لأكثر من دولة؟ ولكن للإجابة عن هذه الأسئلة وغيرها لا بدّ أولاً من الإحاطة بالجوانب الأساسية لمصالح نظام ولي الفقيه في منطقة الساحل الشرقي للمتوسط، وتحديدًا في سوريا. بعد ذلك، لا بدّ من تناول الدور الرئيسي والمحوري الذي لعبه نظام ولي الفقيه وكما النظام السوري في احتضان الإرهاب ومساندته وتوفير كل الدعم له. وأخيرًا، سنتناول دور الغرب في الصراع مع إيران ومرتزقتها، والذي في سياق هذا الصراع وضعت الولايات المتحدة الأميركية تصورًا لما يُفترض أن يكون عليه الشرق الأوسط الجديد.
بدايةً وفي ما يتعلق بالعلاقة التي تجمع إيران بمنطقة الساحل الشرقي للمتوسط وتحديدًا بلبنان وبقطاع غزة وبسوريا، لا بدّ من العودة الى الأسس الإيديولوجية التي يقوم عليها نظام ولي الفقيه. فبالرغم من الصبغة الإسلامية التي يحملها هذا النظام، فإنه يفتقد لأسس دينية متأتية من صلب وجوهر العقيدة الإسلامية، فهو بالتالي بحاجة لعناصر سياسية-دينية des facteurs politico-religieux يستطيع استغلالها لتدعيم وجوده وتأمين استمراريته. من بين أولى هذه العناصر، الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، فكانت إيران أول دولة إسلامية تُصدر فتوى تقضي بتقديم مساعدات للفلسطينيين. كما تضمن الدستور الإيراني الحديث عن دور الثورة الإسلامية في مساعدات الشعوب المستضعفة ومن بين تلك الشعوب بطبيعة الحال الفلسطينيون، وكل ذلك بهدف كسب تأييد شعبي في الشارع العربي والإسلامي، وتحديدًا السنّي منه، وذلك لاستخدامه في تهديد امن واستقرار الدول العربية. أضف الى ذلك، ونظرًا لافتقاد نظام ولاية الفقيه من شرعية إسلامية ضرورية لاستمراره وتطوره، قام النظام بتحويل المسجد الأقصى في القدس الى الوجهة الأساسية للحج، عبر جعل تحرير القدس الهدف الأسمى في العالم الإسلامي. إلا ان الهدف الحقيقي من وراء ذلك، هو انتقاص ما تكتسبه المملكة العربية السعودية من شرعية دينية لنظامها السياسي من خلال حق تنظيم الحج والإشراف عليه في مكة المكرمة والمدينة المنوّرة. وفي الإطار ذاته، قدم الدستور الإيراني القيّمين على الثورة الإسلامية كمدافعين أقوياء وقادرين عن الدين الإسلامي في مواجهة الغرب الاستعماري وخيانة بعض الأنظمة العربية. ووضعت إيران، وفي السنوات الأولى لانتصار الثورة الإسلامية، أهدافًا منها: السعي من أجل تأسيس حكومة إسلامية عالمية، ونشر الإسلام والدعوة إليه، والتشديد على تأسيس أمة إسلامية واحدة، يكون ولي الفقيه على رأسها. لذلك، فإن عملية تأسيس إيران لـ”الحزب” في لبنان تأتي إذًا ضمن المشروع التوسّعي الذي تسعى إيران لتحقيقه في منطقة الساحل الشرقي للمتوسط. ففي حزيران 1982، وأثناء الاجتياح الإسرائيلي للبنان، دخلت مجموعة كبيرة من حراس الثورة الإسلامية الى البقاع، وقاموا، وبعد انشقاقات حصلت في حركة “أمل”، بتأسيس حزب ديني وعقائدي يحمل أفكار الثورة الإسلامية في إيران، هو “الحزب”. وعلى الرغم مما كانت تعانيه بسبب المنظمات الأصولية السنيّة، سمحت الحكومة السورية بتأسيس “الحزب” في مناطق سيطرتها في لبنان نظرًا للعلاقات الجيدة والمتشعبة التي تربطها بإيران. وتعود هذه العلاقة بالزمن الى ما قبل الثورة الإسلامية بقليل، وتحديدًا الى العام 1976 عندما انضمت سوريا، ومن دون أن تدري، الى الجغرافية الدينية الشيعية، من خلال تأسيس المزارات الدينية فيها وتحويلها الى وجهة للحج. لذلك كانت سوريا أول دولة عربية تعترف بأول حكومة بعد الثورة الإسلامية في إيران، كما ونظرًا لحاجة دمشق لتحالفها مع طهران، سمح الاحتلال السوري في لبنان في تنامي قوة ونفوذ ميليشيا “الحزب”، وتحديدًا في البقاع. في المقابل، حصلت سوريا على النفط الإيراني بأسعار زهيدة. كما حصلت سوريا، وفي وقت لاحق، وبعد توقف المساعدات التي كانت تقدمها دول الخليج الى سوريا، بسبب التحالف السوري-الايراني، على بعض المساعدات المالية الضئيلة من إيران.
تزامن نجاح ثورة ولي الفقيه في إيران وتصديرها الى سوريا ولبنان مع توقيع القاهرة لاتفاقية سلام مع إسرائيل برعاية الولايات المتحدة في 25 اذار 1979. فأدى ذلك الى ارتفاع حاد في الانتقادات الإسلامية للإيديولوجيات العلمانية، بل وأيضاً ظهور “أنصار جدد للتراث” من مصدر يبدو غير محتمل: داخل صفوف القوميين والاشتراكيين العرب. فشكّل ذلك دفعًا إيجابيًا للثورة الإيرانية، مما سمح لنظام ولي الفقيه باكتساب شعبية كبيرة الى حدّ ما في العالم العربي. ومن هنا نشأ ما يُعرف، وبفضل الدعم والتشجيع الإيراني، بـ”اليسار الإسلامي”. فبعد الثورة الإيرانية، ظلت الخطوط الفاصلة بين الرؤى السياسية العلمانية والدينية قائمة، وفي بعض الحالات تعمّقت. ومع ذلك، فقد كان من الممكن سماع أصوات أولئك الذين يسعون إلى ربط خيوط الفكر القومي الإسلامي والعربي التي انفصلت وتآكلت في ظل دول ما بعد الاستقلال بصوت أعلى. وفي هذا المجال، لاحظت الباحثة منى أباظة أنه في الثمانينات، وفي أعقاب الهزائم العربية، وبإلهام من انتصار الثورة الإسلامية في إيران، بدأ عدد من المثقفين العرب من اليساريين يعتقدون أنه من الضروري: “إحداث ثورة في الإسلام باعتباره امتدادًا لمشروع قومي”. وقد برز اتجاه جديد بين الاشتراكيين العرب، حيث تحوّل عدد من الماركسيين المعروفين إلى فكرة دينية تقوم على الثورة والتحرير. إن صياغة عبارة “اليسار الإسلامي”، ومحاولة تطوير توليفة بين الاشتراكية والإسلاموية على نحو أشبه بنظريات التحرير في أميركا اللاتينية، يعود الفضل فيها إلى حسن حنفي، أستاذ الفلسفة في جامعة القاهرة، إذ يصف حنفي الثورة الإيرانية بأنها ليست ثورة شيعية فحسب، بل إنها تجسد إحياءً أوسع للإسلام، وهو إسلام ثوري يؤكد على ضرورة الحكم الإسلامي في العصر المعاصر كوسيلة لمواجهة الإمبريالية والصهيونية والتغلّب على استغلال وقمع المسلمين في جميع أنحاء العالم. ويتضمن مشروع حنفي أيضًا نقدًا صريحًا للغرب. ويُصّر حنفي على أن الحداثة الأوروبية لا ينبغي اعتبارها الطريق الوحيد إلى الحضارة، بل مجرد واحدة من عدد من النقاط والمسارات الموازية في التاريخ، بما في ذلك مصر والصين وحضارات أخرى في الشرق القديم. إن النظر إلى الدين والثقافة من منظور عالمي، كما يرى حنفي، يعيد البعد التاريخي إلى الفكر الغربي، أي أنه يدحض ادعاءه العالمية والهيمنة، وبالتالي يعيد الحضارة الأوروبية إلى ما يسمّيه “حجمها الطبيعي”. لكن في المحصّلة شكّل هذا التيار اليسار ـ الاسلاموي أحد أبرز الروافد الإيديولوجية والعقائدية التي استخدمها نظام ولي الفقيه الى أقصى الحدود للسيطرة على شعوب منطقة الساحل الشرقي للمتوسط. ومن بين أبرز أهداف هذه السيطرة نشر الفوضى والفتن وعدم الاستقرار بهدف ابتزاز الدول الغربية ودفعها للتفاوض مع إيران. وهكذا تفاوض يسمح لإيران بلعب دور سياسي متقدم في الشرق الأوسط.
وفي هذا الإطار، اعتبر نظام ولي الفقيه أنه من واجبات الثورة ليس فقط محاربة الغربيين وإنما أيضًا الحكومات الإسلامية الفاسدة، ويقصد من بين تلك الحكومات، ومن دون أن يسمّيها، حكومة المملكة العربية السعودية. فشنّت إيران على السعودية حملة دعائية معادية واصفة مواقف الرياض تجاه القضية الفلسطينية بالليّنة، وحاملة على تحالف السعودية مع الأميركيين الذي ينتج عنه تواجد للقوات الأميركية على أراضي المسلمين المقدسة، ما يُفقد السعودية، ووفق الجمهورية الإسلامية في إيران، صفة حارسة الأماكن المقدسة، والتي منها يستمد النظام الوهابي شرعيته الدينية. فما كان من السعودية، ونظرًا لمكانة الدين الإسلامي في جوهر نظامها السياسي، إلا ان تستخدم بدورها الإسلام للدفاع عن نفسها في وجه إيران. فكان ذلك سببًا في ظهور أسلوب التشدد والعنف في الحركة الإسلامية السنيّة، لقيت السعودية في ذلك دعمًا أميركيًا، بسبب وجود مصالح مشتركة، أهمها:
مواجهة إيران، التي دعا مرشدها الأعلى المسلمين الى الوحدة للقضاء على الشيطان الأكبر، أي الولايات المتحدة الأميركية كما وعلى حليفتها السعودية.
مواجهة الاتحاد السوفياتي وما يمثله من خطر على مصالح العالم العربي.
الحيلولة دون تمكّن موسكو، وهي التي كانت قد أرسلت الجيش الأحمر لغزو أفغانستان في كانون الأول عام 1979، ودون تمكّن طهران من السيطرة على الشباب المسلم الراديكالي.
الحيلولة دون تمدد الاتحاد السوفياتي في العالمين الإسلامي والعربي، لا سيما بعد انسحاب الولايات المتحدة من فيتنام عام 1975.
ألا أنه وبعد انسحاب الاتحاد السوفياتي من أفغانستان في شباط 1989، وبعد سقوط الاتحاد السوفياتي في كانون الأول 1991، وبعد انتهاء حرب الخليج في شباط 1991، ظهرت تحوّلات كبيرة في العالم العربي والإسلامي، إذ بدأ التشدد الإسلامي ينتشر في بعض الدول العربية، حيث قامت بعض الأنظمة بدعمه بهدف المحافظة على تماسك المجتمع. إلا أن ذلك شكّل ضربة للمشروع الإيراني في الشرق الأوسط، فما كان من نظام ولي الفقيه إلا أن استخدم التشدد الإسلامي السنّي لصالحه. إذ بدأت طهران في تسعينات القرن العشرين، ووفق تقارير استخباراتية أميركية، تنسج، وبحكم علاقاتها الجيدة مع السودان، علاقات مع منظمة “القاعدة” التي كان مقرّها وقتذاك في السودان. إذ شجع حسن الترابي، زعيم الجبهة الوطنية الإسلامية في السودان، والمقرّب من الغرب، تأسيس علاقات بين المنظمات الشيعية والسنيّة وذلك كجزء من محاولته لتأسيس جهاد عالمي موحّد ضد العدو المشترك. ونتيجة لذلك، توصلت إيران و”القاعدة” إلى اتفاق غير رسمي للتعاون، قدمت إيران بموجبه المتفجرات، والمعلومات الاستخبارية، والتدريب الأمني لتنظيم بن لادن. وواصلت طهران تقديم المساعدة لتنظيم “القاعدة” بعد انتقاله الى أفغانستان في عام 1996، إذ قدّم المسؤولون الإيرانيون كافة التسهيلات لعناصر “القاعدة” لتسهيل عبورهم عبر إيران في طريقهم الى أفغانستان. كما صدرت تعليمات لحرس الحدود الإيراني بعدم ختم جواز سفرهم، وذلك على الأرجح لمنع حكوماتهم الأصلية من الشك في أنهم سافروا الى أفغانستان. وتجدر الإشارة هنا الى أنه وعلى الرغم من أن لجنة التحقيق في أحداث 11 أيلول لم تجد أي دليل على أن إيران كانت على علم بالتخطيط لهجمات أيلول، إلا أنها خلصت الى وجود دليل قوي على أن إيران سهّلت سفر بعض عناصر “القاعدة” ممن شاركوا في أحداث 11 أيلول. ويبدو، على الأرجح، أن الهدف الإيراني من وراء ذلك هو خلق قواسم مشتركة مع الولايات المتحدة، على اعتبار أن الإرهاب والتطرّف يمثلان عدوًا مشتركًا لكل من إيران والولايات المتحدة الأميركية، وذلك لدفع واشنطن، من جهة للابتعاد عن السعودية، ومن جهة أخرى للتفاوض مع طهران، مما يؤدي، وبحسب الإيرانيين، الى تعزيز دور ومكانة إيران في منطقة الشرق الأوسط.
لم تكن دمشق بعيدةً عن الاتهامات الأميركية برعاية وتمويل الإرهاب، إذ دأب بشار الأسد، ومنذ وصوله الى الحكم عام 2000، على دعم الفكر الإسلامي والأنشطة الجهادية، وذلك بهدف سحب ورقة الإسلاميين من يد أخصامه ومنعهم من استغلالها ضده، والانقلاب عليه. لكن الإدارة الأميركية كانت على علم بدور بشار الأسد في تشجيع ودعم المنظمات الإسلامية المتطرفة، فقبل أحداث 11 أيلول، كانت وزارة الخارجية الأميركية قد أصدرت تقريرًا قالت فيه إن سبعة من أصل 28 مجموعة تمّ ذكرها في أنماط الإرهاب العالمي تتلقى مستوى معينًا من الرعاية والدعم من قبل سوريا. وعلى الرغم من أن الولايات المتحدة لم تقم وقتذاك بأي عمل فعلي ضد نظام بشار الأسد، إلا أنه كان على دمشق الاستعداد لمواجهة أخطار غير تقليدية نتجت عن أحداث 11 أيلول. فالعالم قبل تلك الأحداث هو حتمًا غيره من بعدها، وهذا ما لم يفهمه بشار الأسد وأدواته في لبنان. وظهر جهل هؤلاء بالمعطيات الجيوسياسية والدولية خلال حرب الولايات المتحدة في العراق في العام 2003. فخلال تلك الحرب، لم تكن سوريا متعاونة مع السياسة الأميركية كما كانت عام 1990 خلال عملية تحرير الكويت من الاحتلال العراقي. وذلك لعدة أسباب، من بينها، نجاح سوريا في الحصول على موارد مالية ضخمة من خلال الالتفاف على العقوبات الدولية المفروضة على العراق وتمكين بغداد من تصدير جزء مهم من نفطها بواسطة أنابيب وشاحنات عبر الأراضي السورية.
أما في ما يتعلق بالأسباب السياسية، فقد كان للنظام السوري علاقات قوية ومتشعبة مع عدد من المنظمات التي تعتبرها الولايات المتحدة الأميركية، كما غالبية دول العالم، إرهابية، ومن بينها حركة “حماس” و”الجهاد الإسلامي” و”الحزب”، والتي كان بعضها يعارض حرب الولايات المتحدة الأميركية ضد العراق. وبسبب تورّط النظام السوري مع عدد من المنظمات الإرهابية العابرة للدول، كان بشار الأسد يعلم أن دوره آتٍ لا محالة بعد وضع حدّ نهائي لنظام صدام حسين في العراق وسيطرة الولايات المتحدة على العراق، وهذا ما كان يعبّر عنه أصلاً صراحة المحافظون الجدد في واشنطن. وعلى الرغم من الاتفاق السري الذي حصل بين إيران والولايات المتحدة لتسهيل العمليات العسكرية الأميركية في العراق، عملت أجهزة المخابرات السورية، وبعد سقوط بغداد في 9 نيسان 2003، وبالتعاون مع عدد من رجال الدين المسلمين، وعلى رأسهم محمود أبو القعقع في مدينة حلب، على تجهيز وتسليح مجموعات كبيرة من الإرهابيين الذين كان معظمهم في السجون السورية. وجرى إرسال هذه المجموعات الى العراق بهدف زعزعة الاستقرار الذي حاولت الولايات المتحدة إرساءه هناك، وذلك لدفع الولايات المتحدة للتفاوض مع دمشق. وإجراء هكذا مفاوضات كان حيويًا بالنسبة لسوريا، لأنها تساهم وبشكل أساسي في المحافظة على استمرارية النظام السوري ودوره في منطقة الشرق الأوسط، وتحديدًا في لبنان.
وخلال هذه الفترة تنازع الإدارة الأميركية أكثر من رأي حول كيفية التعاطي مع سوريا. فكان هناك تيار أميركي من المعنيّين بشؤون الشرق الأوسط، يرفض أي انفتاح أو حوار مع دمشق، معتبرًا أنها المشكلة في ما يحصل في المنطقة، ومن أنصار هذا التيار، مارتن أنديك (Martin Endick)، المسؤول عن ملف الشرق الأوسط في مؤسسة بروكينغز (Brookings Institution). في المقابل كان “المحافظون الجدد” يرون وجوب ضرب سوريا، لأسباب ثلاثة، وهي: أنها حليف إيران وتدعم سياستها الشرق أوسطية، وأنها تقف وراء الإرهاب في العراق وفلسطين ولبنان، وبالتالي تهدد المصالح الأميركية والأمن القومي الإسرائيلي. وأخيرًا، أنها وراء عدم الاستقرار في لبنان. وبموازاة هذين التيارين، كان هناك فريق في الكونغرس الأميركي يعرف أن التجربة الأميركية مع نظام الأسد الأب أثبتت ان النظام السوري كان دومًا على استعداد للتفاوض مع الأميركيين ومقايضة ملفات بملفات أخرى. ولذا، رحب بحوار مع سوريا، وإرسال مبعوث رفيع المستوى إليها لحثّها على احترام استقلال لبنان، والتخلّي عن دعم حركة ح. و”الجهاد الإسلامي” في غزة، وإغلاق مكاتبها في دمشق، وتنفيذ قرارات مجلس الأمن القاضية بمنع استخدام لبنان منطلقًا لعلميات ضد إسرائيل، فضلاً عن وجوب تهيئة سوريا لمرحلة سلام مع إسرائيل، في مقابل حوافز دبلوماسية واقتصادية. لذلك ارتأت الولايات المتحدة اللجوء بداية الى الدبلوماسية، خصوصًا وأنها كانت قد اعتادت المفاوضات مع نظام الأسد، وتعرف جيدًا تركيبة النظام، وبالتالي استعداداته لتبادل الأوراق مع الإدارة الأميركية. وفي هذا الإطار، أتت زيارة وزير الخارجية الأميركية كولون باول الى دمشق في 3 أيار 2003. وخلال لقاء هذا الأخير بالرئيس بشار الأسد، قال باول إن هناك تحركات أسلحة عبر الحدود السورية باتجاه العراق، ولمّح الى أن الحكومة السورية على دراية بها. وحذّر من أن هناك من طرح إمكانية استهداف شحنات الأسلحة هذه قبل دخولها العراق. إلا أن الأسد طالب باول بضرورة تعاون أميركا مع سوريا لوقف التهريب، وهذا ما كانت واشنطن لتقبل به، إذ اعتبرته نوعًا من الاستفزاز. فبدت الولايات المتحدة الأميركية وبعض حلفائها الغربيين ومنذ ذلك الوقت مقتنعة أكثر فأكثر بضرورة إسقاط نظام الأسد.
وبناءً على كل ما تقدم، الشرق الأوسط الجديد الذي تسعى الولايات المتحدة الأميركية للوصول إليه هو ذلك المختلف تمامًا عن كل ما أوردناه في السطور السابقة، أي أن لا يكون الشرق الأوسط منطلقًا لتهديد الدول الغربية، خصوصًا الولايات المتحدة الأميركية، وحلفائها في المنطقة، وتحديدًا إسرائيل بالمرتبة الأولى ودول الخليج العربي بالمرتبة الثانية. وليس هناك من أدنى شك أن هذا التهديد، وبناءً على المعطيات التاريخية التي أوردناها، متأتٍ اليوم حصرًا من نظام ولي الفقيه في إيران وأدواته في اليمن وقطاع غزة، ولبنان، وسوريا، والعراق. لذلك، نعتقد بأن عملية القضاء على حركة ح. و”الحزب” ونظام البعث في سوريا والتي خاضتها إسرائيل، قد حصل ضمن توافق ضمني بين إسرائيل من جهة، والدول الكبرى ومعظم الدول العربية من جهة ثانية. وفي هذا السياق، يبدو من الواضح أيضًا أن هذه الدول لن تقبل ولا بأي شكل من الأشكال بإقامة أي نظام إسلامي متشدد على الشواطئ الشرقية للبحر الأبيض المتوسط، لما يمكن أن يمثّل من تهديد أيضًا بدوره لبقية الدول العربية ولإسرائيل وللدول الغربية. ولكن يبقى السؤال المحوري، هل ستُكمل هذه الدول حربها للقضاء على ما تبقى من أدوات إيرانية في اليمن والعراق، للوصول لاحقًا الى إيران، أم أنها ستأخذ فترة سماح قبل استكمال هذه العملية؟
د. مارك م. أبو عبد الله ـ أستاذ جامعي وباحث في تاريخ الشرق الأوسط في جامعة Illinois في الولايات المتحدة الأميركية.
كتب د. مارك م. أبو عبد الله في “المسيرة” ـ العدد 1760
العملية بدأت وختامها إيران!
خارطة الشرق الأوسط الجديد على أنقاض الأنظمة المتشددة
للإشتراك في “المسيرة” Online:
http://www.almassira.com/subscription/signup/index
from Australia: 0415311113 or: [email protected]