“لقد وصلنا إلى ساعة الحقيقة”. بهذه العبارات بدأ الرئيس العماد جوزيف عون خطاب القسم لعهد السنوات الست والذي أعاد الروح إلى كل الشعب اللبناني كونه يلاقي طموحاتهم. والأهم أنه يأتي في لحظة مفصلية من تاريخ الوطن بعد فراغ استمر عامين و60 يومًا وما حمله من ويلات وانهيارات على كل المستويات، إلى أن جاءت الذروة في حرب المساندة التي أعلنها “الحزب” في تشرين الثاني 2023 عقب عملية 7 أكتوبر، وصولاً إلى الحرب الشاملة على لبنان.
ما “تعهد” به الرئيس جوزيف عون يعني نهاية مشروع الدويلة الذي أفضى إلى القضاء على كل مقوّمات الدولة، وتأكيد على حق الدولة في احتكار حمل السلاح وضبط جيشها وتثبيت الحدود جنوبًا وترسيمها شرقاً وشمالاً وبحرًا ومنع التهريب ومحاربة الإرهاب وتطبيق القرارات الدولية، جيش لديه عقيدة قتالية دفاعية يحمي الشعب ويخوض الحروب وفقاً لأحكام الدستور.
انطلاقًا من خارطة العهد التي رسمها الرئيس العتيد يجوز السؤال عن السيناريو المتوقع لدور “الحزب” الذي حكم الدولة من خلال دويلة السلاح عقودًا طويلة وأين يكمن موقعه اليوم بعدما انتهى عسكريًا؟
يلفت متابعون لوقائع جلسة الخميس 9 كانون الثاني وما آلت إليه نتائج الأصوات في الدورة الثانية وأفضت إلى انتخاب العماد جوزيف عون رئيسا للجمهورية أن “الحزب” بات عاجزًا عن خربطة أي مشروع يتعلّق باستنهاض الدولة لعدة أسباب أبرزها أن هامش المناورة لديه بات ضيقاً، سواء شاء الحزب وحلفاؤه الاعتراف بذلك أم لا. وما شهده لبنان من تجلّيات يؤكد أن لبنان دخل مرحلة جديدة من ضمن التغيّرات الإقليمية الضخمة الحاصلة في المنطقة.
مشهدية جلسة انتخاب الرئيس الـ14 للجمهورية اللبنانية وانتخاب العماد جوزيف عون في الدورة الثانية بـ99 صوتاً بعدما كانت الصورة شبه ضبابية في الليلة التي سبقت الجلسة المصيرية تكشف أن النفوذ الإيراني السياسي على الحياة اللبنانية انتهى. وبالتالي نحن أمام بداية الغيث في عودة لبنان إلى الحضن العربي والخليجي. أيضًا ما حُكيَ عن تنازلات من قبل الرئيس جوزيف عون للثنائي الشيعي في “لقاء الساعتين” لبتّ تسويات معينة وعقد صفقات، لم يكن إلا محاولة من الثنائي للحصول على بعض المكتسبات للحفاظ على ماء الوجه وخرجوا بقناعة ولو ضمنية مفادها أن “الحزب” الذي كان الآمر الناهي والحاكم الفعلي في الدولة، أيقن بفعل المعطيات الإقليمية أن محوره تلقّى الضربة القاضية، ولا بد من الاعتراف بالخسارة، وهو لم يعد قادرًا على الاستمرار بغطاء إيراني، خصوصًا أن إيران لم تعد قادرة على إنقاذ أذرعها في المنطقة بعدما خسرتها في غزة بنسبة 70 في المئة وسوريا بشكل كلّي، وهي تعمل المستحيل للحفاظ على وجود الحزب بهوية سياسية وبشكل فاعل. لكن تبيّن أمام الضغط الإقليمي الدولي العربي أنها لم تعد قادرة حتى على ذلك.
كلام يُفهم منه أن “الحزب” انتهى. لكن ليست هذه هي المعادلة. فالأكيد أن سطوة “الحزب” على مفاصل الدولة انتهت، مما سمح بأن يستعيد لبنان سيادته وعروبته ونجاح خطة اللجنة الخماسية، وأن العد العكسي لانحسار نفوذ “الحزب” بدأ في الحياة السياسية. وإذا ما أراد التقاط أنفاسه من جديد، فهذا يتطلّب منه التخلّي عن المكابرة والتواضع ولو ملزمًا، وأن يقتنع بدوره السياسي البحت كما باقي الأحزاب للدخول في اللعبة الديمقراطية، وأن يحترم سيادة الدولة والقانون وعمل المؤسسات وفق ما نص عليه الدستور ويلتزم بمشروع الدولة ويخرج من وهم العودة إلى الدويلة. عدا ذلك لا خيار آخر لديه إذا أراد أن ينخرط في العمل السياسي ويستمر بالمعادلة اللبنانية. وأي تمرد بعد اليوم يعيد طرح الخيارات الصعبة للقضاء نهائيًا على مقوّمات “الحزب”.
هي الفرصة الأخيرة للبنان وما يتوقعه اللبنانيون من العهد الجديد أن يكون عهد عمل وليس الوقوف عند لحظة التغيير وتبوء المناصب والحقائب على أن يكون الدستور ركيزة ومرجع أي عمل. وهذا الأمر منوط أيضًا باللبنانيين، إذ عليهم أن لا يقبلوا العيش بعد اليوم إلا تحت سقف القانون والدستور ويجاهروا برفضهم كل أشكال المكابرة والهيمنة والأعراف الموروثة.
هذا المشهد الذي كان يُفترض أن يشهد عليه اللبنانيون قبل انقضاء مهلة الستين يومًا لاتفاق وقف إطلاق النار انهار مع تمديد المهلة حتى 18 شباط الجاري وإصرار «حزب الله» على المجاهرة بـ”هزيمة الانتصار” من خلال وضع أبناء قرى الجنوب المدمّرة في المواجهة مع القوات الإسرائيلية فجر الأحد 26 كانون الثاني وسقوط عدد من القتلى “فدا الحزب”.
والسؤال الذي تردد في أذهان اللبنانيين عقب هذه المشهدية وفصولها التي امتدت حتى ساعات متأخرة من الليل لكن في الداخل، وتحديدًا في المناطق المسيحية التي حاول عناصر الحزب استفزاز سكانها لكن “يا جبل ما يهزك ريح”. فهل تقرع طبول الحرب من جديد مع انقضاء المهلة الممددة لوقف إطلاق النار؟
كل المؤشرات تدل على أن لا خوف من اندلاع الحرب مجددًا. فالحزب أضعف من أن يدخل في حرب مع إسرائيل مجددًا للأسباب التالية: الإحباط والخيبة التي أصيبت بها البيئة الشيعية وثمة من خرج منها بعدما أدرك أنه كان ضحية بروباغندا وإعلام مزوّر. أضف إلى ذلك عدم توافر القدرة العسكرية والإمدادات بحرًا وبرًا وجوًا. مما يؤكد أن الدخول في حرب جديدة مستبعد.
لكن الوقائع على الأرض تُظهر أن المواجهة انتقلت إلى الساح السياسية، وبدل أن تكون ضد إسرائيل يُخشى أن تتحول بين الدولة والحزب. وهنا الرهان على مزايا “النفس الطويل” وإصرار كل من الرئيسين جوزيف عون والقاضي نواف سلام على أن تكون هناك وحدة وطنية وتفادي أي نكسة. لكن احتمال تعنّت الثنائي والوقوف في وجه الدولة وعدم تسليم السلاح وارد. آنذاك ستكون المواجهة بدعم دولي وإقليمي. والمواجهة هنا بالمعنى السياسي، لكن قد يتخلّلها شيء ما عسكري في الشارع، وهذا ما يعمل عليه كل من عون وسلام لعدم الوصول إلى هذه المرحلة.
لبنان أمام فرصة أخيرة والأكيد أن القسم الذي أدلى به الرئيس جوزيف عون على الدستور و”تعهده” بترجمة خطابه خلال مدة ولايته أعطى الأمل بأن التسويات لم تعد قابلة للتنفيذ. وعلى نبض “عهدي” يترقب اللبنانيون استعادة زمن “هيبة” للدستور وختم “مشروع الدويلة” بالشمع الأحمر، والخروج من “بدعة” الميثاقية وكل الأعراف القديمة وحتى الجديدة التي ستفرض شاء من شاء وأبى من أبى.
كتبت جومانا نصر في “المسيرة” ـ العدد 1761
العهد الجديد يختم فصل الدويلة و”عسكرة” حزب الله
“عهدي” دولة القانون والمؤسسات
للإشتراك في “المسيرة” Online:
http://www.almassira.com/subscription/signup/index
from Australia: 0415311113 or: [email protected]