بعيداً عن فكره الأيديولوجي المرتبط بولاية الفقيه في ايران والمناقض أصلاً لمفهوم الدولة الوطنية بشكلٍ عام ولمبدأ قيام دولةٍ لبنانية قوية بشكلٍ خاص، فإن مشكلة “الحزب” مع الانخراط في مشروع بناء الدولة اللبنانية لا يتوقف عند بُعده العقائدي أو المصلحي فحسب، بل ثمة قطبةٍ مخفية في هذا الموضوع قد لا تكون واضحة للعيان.
كل الأحزاب والميليشيات اللبنانية التي انخرطت في الحرب اللبنانية سنة 1975 تخلّت عن سلاحها، وخصوصاً الثقيل والمتوسط منه، وانخرطت في مشروع دولة الطائف عام 1990، ولكن بعد تأكدها من استصدار قانون عفو عامٍ عن كل الجرائم والارتكابات التي وقعت خلال تلك الحرب.
شكّل قانون العفو العام واحداً من الضمانات لهذه الأحزاب والميليشيات بعدم فتح ملفاتٍ قضائية تعود لزمن الحرب ومحاسبة تلك الأحزاب على أساسها في زمن السلم، وعلى هذا الأساس قررت التخلّي عن مكامن قوتها وسلاحها والدخول إلى مؤسسات الدولة في زمن السلم.
غير أن مشكلة ما يُسمّى بـ”المقاومة” هي أنها طيلة زمن السلم الأهلي، أي منذ عام 1990 وحتى 2025، لم تكن منخرطة في مشروع الدولة اللبنانية ولم تكن تعمل في السياسة وفي ظل القوانين اللبنانية أسوةً بغيرها من الأحزاب، بل كانت تعيش زمن الحرب وزمن العقلية الأمنية وزمن شريعة الغاب، وترتكب على أساس ذلك مئات الجرائم والأعمال التي أدانتها المحكمة الخاصة بلبنان ببعضها، فيما كان السلاح غير الشرعي ومنطق التخويف والترهيب يحول دون إدانتها ببقية تلك الجرائم.
ساذج من يعتقد أن هذه “المقاومة” ستقبل طوعاً بالتخلّي عمّا تبقّى من سلاحها للانخراط في مشروع الدولة الجديدة ولبنان الجديد، حتى ولو كان الثمن لذلك هو إعمار الضاحية والبقاع والجنوب وانتعاشها، لأن ذلك يجعلها مكشوفة تماماً أمام مقوّمات قيام هكذا دولة، وخصوصاً القضاء العادل والمؤسسات القوية ومبدأ المحاسبة، فلا يوجد على هذه الكرة الأرضية من يعمد إلى تقوية نقيضه أو تقوية غيره بما يؤدي إلى إضعاف نفسه، وبالتالي لا شيء يضمن بعد ذلك بالاّ يُصار إلى تحريك ملفاتٍ قضائية تعود لجرائم اغتيال وأعمال إجرامية وتخريبية ومواضيع فساد جرت في زمن قيام الدولة، وحالت الظروف الماضية دون الوصول إلى الحقيقة ومحاسبة المرتكبين على ضوئها.
لذلك، ستخترع هذه “المقاومة” الذريعة تلو الذريعة وقميص عثمان تلو قميص عثمان، من أجل المماطلة والتسويف للاحتفاظ بما تبقّى من سلاحها أطول فترة ممكنة، كونه يحول دون مبدأ قيام دولةٍ قوية بقضاءٍ عادل مستقل يمتلك كل مقومات المساءلة والمحاسبة واستصدار الأحكام التي قد تطال المئات منها هذه “المقاومة” عن ارتكاباتٍ قامت بها بعد قانون العفو سنة 1991.
عندما توحي هذه “المقاومة” بأن ثمة مشكلة وجودية تواجهها بيئتها، حتى تستدّر بذلك عطف بعض السطحيين و”الوطنجيين”، وتبرّر لنفسها انطلاقاً من ذلك الاحتفاظ بما تبقّى لها من سلاح، فهذا لا يتعلّق بموضوع الاحتلال الإسرائيلي وخطره على لبنان، ولا بالأضرار الجسيمة التي تعرضت لها هذه البيئة في الحرب الأخيرة، بل كل الموضوع يتعلق باحتمال قيام دولة فعلية في لبنان على أنقاض دويلة “المقاومة” تُشكّل وحدها خطراً وجودياً على هذه “المقاومة” وبيئتها، وعلى كل من عاث في زمن السلم وزمن ما بعد العفو العام، فساداً واغتيالاً وإرهاباً وتهديداً، ورصاصاً… و”موستيكلات”.