الموارنة ولبنان.. المثالثة وهمٌ والتنوّع جوهر الميثاق

حجم الخط

المورانة

الموارنة اليوم بما يمثلون مسيحيًا ووطنيًا ومشرقيًا وعالميًا عند مفترق خطير، بناء على انتمائهم الأصيل للبنان الوطن الذي كانوا في أساس بلورته كواقع بعدما طال زمانه كياناً يكبر أو يضمر شكلاً ومضموناً، ويخضع للتجاذبات والصراعات وتشابك الإمبراطوريات والدول والمصالح، وهي عوامل لم تنجح على كثافتها وحدّتها في تدجين الموارنة أو احتوائهم.

أقلام كثيرة كتبت عن الموارنة وفيهم ولهم، كثير منها أنصفهم والبعض ظلمهم والبعض الثالث حاول فهمهم تاريخًا ودورًا وحضورًا وما حفل به هذا التاريخ من حروب وأحداث ومواجهات وإنجازات وانتصارات وانكسارات.

على أنه يصعب الإحاطة تمامًا بمختلف دقائق قصة “أمّة مارون”، لأن جوانب غير قليلة ما زال يكتنفها نوع من الغموض، ولأن الدراسات ما زالت ناشطة لكشف المزيد من الحقائق المارونية، عبر استكشاف الكثير من المخطوطات والتبحر وقراءة أو ترجمة بعض المؤلفات القديمة لمستشرقين وكتّاب بلغات عدة بينها اللاتينية والألمانية، كما هو الحال في بعض الأديرة وعلى أيدي رهبان وباحثين في التاريخ.

والثابت أن الموارنة بحد ذاتهم شعب متمايز وصعب المراس، يتسم بالعناد في الحق وفق رؤيته، ولا يقبل الهزيمة والاستسلام مهما بلغت التحديات، ويؤمن بأن له مهمة مرسومة بين السماء والأرض. واللافت أن الماروني يمكن أن يتطرّف حتى التعصّب الشديد وأن يجد لتعصّبه مبرّرات قد تكون مقنعة أحياناً، ويمكنه في الوقت عينه أن يكون رائدًا في الانفتاح وفي صنع التنوّع ورعايته، من دون أن يلغي ما يراه آخرون ازدواجية مقصودة أو ملتصقة بالشخصية المارونية في ضوء التجارب الكثيرة والمريرة على مرّ العصور.

لم يقفل الموارنة مرة باب الانفتاح شرقًا كما يحلو للبعض أن يعتقد، بل كانوا دائمًا في جبلهم اللبناني، دعاة تواصل مع الشرق والغرب، لكن شرطهم الدائم كان الحفاظ على حريتهم واحترام خصوصيتهم، في مقابل التسليم بنفوذ معيّن لهذه الدولة أو تلك.

والفارق كان دائمًا يتمثل في رغبة من يهيمن على المشرق بضم الجبل اللبناني إلى دائرة نفوذه، والمقصود ليس لبنان الأرض والموارد الطبيعية وهي محدودة، بل لبنان الشعب التواق الى الحرية وما يعنيه ذلك من تهمة دائمة وجاهزة له بالولاء للغرب، إذ يكفي أن يكون الموارنة من المسيحيين الذين يتمسكون باستقلال ذاتي معيّن، كي يُعتبروا من أتباع الغرب المسيحي أو من المسيحيين الذين يتماهون مع جبالهم صلابة وعنادًا، على عكس جماعات مسيحية أخرى ارتضت العيش في المدن والحواضر من دون كثير اهتمام بتمايز وخصوصيات تتخطى بعض التفاصيل الضيقة.

الموارنة هم في جانب منهم ورثة الكنعانيين والآراميين والفينيقيين، ممن سكنوا السواحل والجبال في مساحة لبنان التاريخية، وهم في الوقت عينه ورثة جانب من تراث المردة في نزعتهم المتفلّتة من هيمنة العرب والبيزنطيين في آن واحد، وإن رأى كثيرون من البحاثة أن ثمة تمايزات عدة بين الموارنة والمردة.

ولفهم التاريخ الماروني والنزعات والنزاعات التي تخلّلته، يكفي استعراض سلسلة أحداث معبّرة، من المواجهات مع اليعاقبة والبيزنطيين على السواء، قبل الاستقرار في لبنان وانضمام معظم سكانه الى عقيدتهم الإيمانية، مرورًا بثورة المنيطرة في العام 759 التي تخطت التمايزات بين المذاهب المسيحية، وحرصهم على الاستقلال في جبالهم في العصر الفاطمي، وصولاً الى زمن الصليبيين، حيث تميّزت علاقة الموارنة بهم بين دعم ومواجهة ومد وجزر، لا سيما بسبب النزعة الاستقلالية للموارنة، ولو التقوا مع الصليبيين على الإيمان والولاء لقداسة البابا في روما. وقد برزت الخلافات بخاصة في أواخر القرن الثاني عشر والنصف الأول من القرن الثالث عشر بخلفيات سياسية أو كنسية أحياناً في ضوء الرغبة في إخضاع البطريرك الماروني لهذا الأمير أو ذاك الإقطاعي الصليبي.

أما مع المماليك فالصراع طويل ومرير، وكانت للسيف فيه محطات بالغة العنف والدموية، بما حفلت به من صمود وانتصارات للموارنة وحلفائهم، ومن نكبات بعد استجماع عدد من الولاة لفتح كسروان، وقد سُمّيت ناحيتها الشمالية منذ ذلك الحين بالفتوح.

ويصح القول إن التاريخ الماروني يشبه موج اليم في إقباله على الشاطئ وإدباره عنه، فهو تاريخ متماوج وموسوم بحركة ديموغرافية حادة أحياناً بين تهجير وهجرة ونزوح وعَود الى الديار وانتشار وتوسّع، وذلك كله بسبب حرصهم على حريتهم والحفاظ على إيمانهم.

ولذلك أحد أبرز أسرار الموارنة، هو تمسكهم بلبنان أرضًا وموئلاً من دون البحث عن أي وطن بديل أو بلد ملجأ، على الرغم من الإغراءات وعلى الرغم من انفتاح أبواب الهجرة في أواخر زمن الهيمنة العثمانية، فضلاً عن أن البحر كان دائمًا ينفتح لرحيلهم، لكنهم اكتفوا مع كنيستهم بإرسال المتفوّقين وطلاب العلم إلى أوروبا، منذ القرن السادس عشر، ما استوجب تأسيس مدرسة روما المارونية في العام 1584 والتي استمرت في عصرها الذهبي حتى العام 1798 ، مقدمة مجموعة من العلماء والدبلوماسيين والمؤرخين والمفكرين حتى قيل: “عالم كماروني”، أو ملفان، اشتقاقاً من “ملفونو” بالسريانية.

كان للمذابح التي حلّت بالموارنة وبخاصة في أحداث العام 1860 تداعيات مؤلمة وعميقة، لكنهم صمدوا في بلداتهم وقراهم، وكان الرهان على زوالهم أو هجرتهم، وقد نعموا لاحقاً باستقرار نسبي كان أشبه بترضية لتضحياتهم عبر إقرار متصرفية جبل لبنان.

على أن البروتوكول الذي أنشأ نظام المتصرفية لم يكن كافيًا لحماية الموارنة، الذين تعرّضوا في الحرب العالمية الأولى لما يشبه حرب إبادة عبر الحصار التجويعي والتنكيل التركي، وبحسب المقولة المعروفة، “مات ثلث أهل الجبل وهاجر الثلث الثاني وبقي الثلث الثالث”. وعلى الرغم من النزيف الدائم بفعل التنكيل والاضطهاد والهيمنة، وعلى الرغم من بعض العروض لنقلهم الى بلدان أخرى، لم يترك الموارنة لبنان، بل صمدوا وعادوا الى وتيرة عالية من النمو الديموغرافي، حتى استقام بهم الوضع في لبنان الكبير الذي كان بطريركهم الياس الحويك رائده ومؤسسه الفعلي، فراهنوا على الميثاق الوطني كضمانة وتنوّع في الوحدة وشراكة فعلية تتخطى الأرقام والأعداد. لكن اللجوء الفلسطيني وتداعياته وصولاً إلى حرب الـ1975 وامتداداتها وتفرّعاتها وبخاصة مع تمكن النظام السوري برئاسة حافظ الأسد من ترسيخ هيمنته حربًا وسلمًا مفخخًا، وجهت كلها ضربات موجعة للموارنة. ويذكر كثيرون عرض الموفد الأميركي دين براون للمسيحيين في العام 1976 بنقلهم في البواخر بحرًا إلى كندا، في استعادة للمشروع الفرنسي المنسوب للمنظّر السياسي لوي بوديكور إعتبارًا من العام 1847 بنقل الموارنة من لبنان لتوطينهم في الجزائر، على أثر أحداث 1840.

اليوم، يقف الموارنة في لحظة مفصلية ليؤكدوا مجددًا الرد على الحملات الخبيثة ومحاولات تحجيم دورهم الوطني والسياسي كونهم رأس الحربة المسيحية في لبنان والمشرق، بحجة تراجعهم الديموغرافي، في موازاة إصرار فئة معينة يقودها “الحزب” على الهيمنة على مقدّرات الوطن والدولة وفرض المثالثة في القرار، وهو ما يفسر المواجهة التي تقودها “القوات اللبنانية” مع حلفائها وشركائها الأحرار للحفاظ على لبنان السيد الحر المتنوّع. فكم بالحري بعد انتخاب العماد جوزيف عون لرئاسة الجمهورية بعد طول تغييب للموقع الماروني والوطني الأول، سعيًا إلى إيصال رئيس تابع وخانع.

في الخلاصة، المنطق يقول إن الحق لا يستوي في التعاطي الضيق مع الواقع الماروني وتاليًا المسيحي في لبنان كحالة متراجعة حجمًا وعددًا، لأن الظروف التي لحقت بالمسيحيين أقلّه في التاريخ الحديث، هي التي فرضت الانكفاء الديموغرافي لهم كلبنانيين في لبنان وليس كلبنانيين في العالم ككل، فاللبنانيون المسيحيون وأخصهم الموارنة في الانتشار والاغتراب بالملايين لا سيما مع أجيالهم المتعاقبة، والمسيحيون الذين قضوا تنكيلاً وتجويعًا كانوا ليبلغوا ملايين عدة لو قُدِّرت لهم الحياة، ولذلك القيمة تبقى في لبنان للإنسان وللتنوّع بين مجموعاته الروحية والثقافية من دون تمييز أو غلبة بحجة أو بأخرى، وإلا لا معنى لميثاق ولا معنى للبنان.

 

كتب أنطوان مراد في “المسيرة” ـ العدد 1761

أنطوان مراد ـ مستشار رئيس حزب “القوات اللبنانية” لشؤون الرئاسة

الموارنة ولبنان، لا رحيل لا استسلام

المثالثة وهمٌ والتنوّع جوهر الميثاق

إقرأ أيضًا

للإشتراك في “المسيرة” Online:

http://www.almassira.com/subscription/signup/index

from Australia: 0415311113 or: [email protected]​​​​​​​​​​​​​​

المصدر:
المسيرة

خبر عاجل