مارون السيِّد الصغير.. “أنا الكرمة وأنتم الأغصان”

حجم الخط

مار مارونمار مارون

ببصيرة ملتهبة النور التهاب سراجٍ تقرأ على ضوئه الملائكة ما تحمله من رسائل إلى المختارين، جالت نظراته على جهات الأرض الأربع شرقًا وغربًا، شمالاً وجنوبًا، ملتمسًا العبور العقلي والروحي مِن وجودٍ منظور إلى ذلك اللامنظور يسعى ويصبو إليه أولئكَ المنصرفون عن كل موجودٍ مرهون لفوائد الزوال. استجمع محاصيل عمره الفائت من وعيه من طفولته حتَّى إدراكه أيام الشباب، وازنًا الغلَّة بميزان الوزنات، فتأكَّد له أنَّ وزنته العاشرة لن يحظى بها في مجتمعٍ يتحزَّب أكثره لمال قيصر تحزُّبًا يرتدُّ على الأخلاق الإنسانية محوِّلاً تسامياتها إلى مواد استهلاكية ونماذج تجارية ونموذجها الفاقع ذلك الغني المتبجِّح بفجعنته المقزِّزة: “لكِ خيرات الدنيا كلُّها فكلي يا نفسي وتلذَّذي”.

تحرَّر المغامر الصدِّيق من معظم ماضيه وأفرغ ذاكرته السَّالفة حتَّى آخر كلمةٍ قد تعيق انتسابه إلى عنصرة الألسنيات القدوسيَّة، وحتَّى آخر صورةٍ قد تعرقل مسيرة عينيه نحو ما لم تره عين. نهضَ السَّالكُ أضيق الطًّرق يندفع صعودًا ومهماز المدعوين إلى وليمة الصيام العظيم دليله إلى معابر المزمور الواحد والعشرين وتعابير ترنيمة المصاعد: “رفعتُ عيناي إلى الجبال” والرافعون عيونهم نحو ذرى الودعاء بالجهاد النسكي يخشون السقوط الروحي في مدائح المادحين وإعجاب المعجبين وتصفيق المُصفِّقين وفي كل ذلك إفشال لمشروع مَن أوصاهم: “احذروا من أن يمدحكم الناس”.

هوذا قاصد جبل تطويبات “الأطهار بالروح” ينجده معلمه بما وصف به معمِّدَ نهر الأردن: “ليس في مواليد النِّساء أعظم من يوحنا المعمدان، لكنَّ  الأصغر في ملكوت السَّماوات هو أعظم منه”!!

لولا تلك الرسالة التي أرسلها إليه القديس يوحنا فم الذَّهب لبقي الراهب السرياني مارون مجهولاً عن أبحاث المؤرِّخين والبحَّاثة ومختفيًا عن مراجع كتَّاب سيرة حياة المُتميِّزين وأهمهم أولئك الناذرين إخفاء أسمائهم وأفعالهم ووجوههم إلاَّ عن نظرات أبيهم الذي يرى في الخفية. مملكة السيِّد الصَّغير الخاوية من كلِّ ما يمتُّ لملوك الدنيا بصِلة، خطَّ لها ملكها مارون حدودًا هي ذاتها حدود بريّة معلمه السيِّد الكبير الأقدس التي استحبس فيها أربعين نهارًا وأربعين ليلاً مصليًا صائمًا متجرِّبًا.

فوق جبل قورشه أقام راهب الانعزال الرَّحيب لأمَّته ملكًا خارجًا عن مألوف الممتلكات من دون أن يخطر على باله تكوين وتأسيس أمَّةٍ يترأسها ويتزَّعم شعبها ويتسيَّد على أنظمة حكمها. لم يعش مارون ما يكفي من العمر كي يوصي خاصَّته وينذرهم بأنَّ خروجهم مِن حمى خيمته سيكلِّفهم دفع أفدح أثمان التَّيهان والتشتُّت والتَّشقق. لم يحظَ راهب الإرشاد القورشي بأيامٍ يرشدُ فيها أهل مارونيا إلى خبزٍ كفافٍ لها تعتاش منه دون انجرارها إلى منظومة “يعيش يعيش”..

مَن مثلك أيها السيِّد الصَّغير استشعر أهوال التَّطاحن حتَّى الإفناء بين الذين هتكوا وصية: “ليكن كبيركم خادمًا لكم”، حتى أتت أيام أضحى فيها بعض “أكابرنا” خدَّامًا عند من هم أكبر منهم.. ألن نتعلَّم زمنًا واحدًا من قمتكَ القائمة على الصَّخر والتراب والعراء من أن الطَّريق إلى مرتع كراسي الفخامات مهما كانَ السّير عليها حافلاً بعثرات الدناءة والخساسة هي من بنات أفكار الطرقات الوسيعة المؤدية إلى مئة هلاكٍ وألف جهنم، وأيام التجارب السوداء تشهد وشهادتها دماء قانية تسيل على الذِّمَم الصفراء ذمَّةً ذمَّة..

كم عانت مارونيتك يا مارون وتعاني مِن “نجَّارين” لا يمتُّون بأدنى صلة أو صِفة ليوسف النجار وصفاته. نَجَّارون متمورنون فكَّكوا صلبان المارونية خشبًا يبيعونه لمن يمتهنون تركيب قوائم سلالم لا تطال إلاَّ أبواب ونوافذ وطاقات قصور ألف ليلة وليلة وويلةٍ وويلة.. خَجَلُنا منكَ لا ينتهي يا سلالمُ تسلَّقها أبطال سباقٍ موارنة تسابقوا حبساءَ إلى محابس معلَّقة بين سطوح الملكوت وسفوح الأشيار. سلالم إعجازية تسلَّقها الأوائل من أجدادنا الى الحفافي المتدرِّجة من الأعلى حتى الأعمق تدرُّجًا عجائبيًا أين من عجائبيَّته عجائب الدنيا السَّبع.

ونحن في خضَّم محنة وجودية ومصير مبهم، ما أمسَّ عوزنا إلى ذات إنذارك لسمعان كيفا ليلة جمعتك العظمى يا سيِّد: “بطرس بطرس هوذا الشيطان قد جاء يغربلكم غربلة الحصى فاذهب وثبِّت أخوتَك”!!

مارون القمة والقيمة. مارون الكنية والحنية. مارون الخيمة العفراء والغيمة الزرقاء. مارون الخفاء والحفاء. مارون المعلِّم والعلامة، هذا هو نحن الموارنة وكل ما زاد على ذلك فهو من ألف شرير… موارنة مارون القورشي الإلهي لا تليق بهم إلاَّ الدروب المخالفة كليًا لأنظمة السَّير في قطيع الصفوف المرصوصة… موارنة مارون الخيمة هم المختلفون الدَّائمون مع عتاة قصور سلاطين هذا الدَّهر العاتي وخلافهم مع الهيرودسية المتفشية في كل زمان ومكان ما هو إلا استجابتهم لأمر يوم المعلِّم: “إذهبوا وقولوا لهذا الثعلب ها أنا أخرج الشياطين”. وما نراهم اليوم ونعرفهم ليسوا أقل ثعلبةً من هيرودس وفحيح شياطينه.

الموارنة الأصائل هم رعيان قطعان الماشية ولهم خبرتهم الطويلة والشاقة والمضنية في اكتشاف وجوه الذئاب ومواقيت تسلّلها إلى الحظائر. الموارنة هم الفلاحون الضَّالعون في استخراج التراب من الصَّخر، هم المسيِّجون بسياجات الأشواك حقول حنطتهم في معاهدة أمان وسلام بين الشوك والقمح. موارنة مارون لهم العرزال الرَّابض فوق تلال كرومهم محرسًا لودائع أجاجين عرس قانا الجّليل، كما لأمانات خمرة وليمة العشاء السري المودوعة في خوابيهم، كما لآية آيات إلتحام الأصل بالفرع: “أنا الكرمة وأنتم الأغصان”.

موارنة مارون الملتحف الشَّتاء صقيعًا وزمهريرًا والصَّيف حرّا وهجيرًا، هم العاصفة الإيمانية تهبُّ من تيارات زجر يسوع للعواصف البحرية والبرية وإسكاتها، وهم نار أعيادهم فوق رؤوس جبالهم إن أحسنوا عطفَ نارهم على دفء صوت ذلك التمنّي النوراني: “أمشوا في النور ما دام لكم النور”، وليس للجالسين في الظلم والظلمة غير مَن طمأن الخائفين: “أنا هو نور العالم”. وموارنة مارون العراء المطلق هم الشوق الكلي لبلوغهم مساكنهم الموعودة في آية بولس رسول الأمم: “ليس لنا ههنا مدينة ثابتة بل نرجو الآتية”!!

يوم يعود الصولجان البطرسي الأنطاكي غصن سنديان لبناني، يومها بارك يا مارون رئيس رؤسائنا!

يوم تترَّهب محاريث المارونية على أيدي رهبانها الفلاحين الكرَّامين الحصّادين يومها تفرح البراري والقفار. فالأرض الرهبانية التي طالما أمَّنت الكيان المنيع لكفاف خبز شعبنا لن تزدهر مواسمها وتنمو ثمارها من الشهادات العليا المستوردة من الخارج، فكل إسكيم ينسدل على جبينٍ خاشع متخشَّع يثمر ثمارًا فردوسية لم تحمل مثلها أشجار فردوس سفر الخليقة!

مارون السيِّد الصَّغير لم يهجر جبله إلاَّ يوم سافر صاعدًا على نزيف سيده المتهدِّج فوق خشبة الشرق والأمم: “يا أبت قد تم كل شيء”. وها نحن اليوم في عين المأساة العاصفة بجوازات سفرٍ وسفارات وطائرات تتعاون على اقتلاع الأبناء من آبائهم والعائلات من بيوتها والبيوت من حاراتها وقراها، تاركين أجدادنا وآباءنا حكاياتٍ تحكي أيام عز مملكة “فلاح مكفي سلطان مخفي”، كما أيام عزِّ إيمان من استلهموا كيف يجعلون العوسج ينبت عنبًا والشوك قمحًا!!

الماورنية يا ماروننا في أزمة أزماتها ونكبة نكباتها، وهل من أزمة ونكبة تفوقان زوغان أمَّة أضاعت التمييز بين قديسيها وأصنامها.. أمة لعنت أبطالها وسجدت لجبنائها.. وأمَّة تعاملت مع دم شهدائها تعاملها مع عقد إيجارٍ تستأجره طيلة أيام أتراحها ثم تلغيه عند أول يوم من أيام أفراحها!!

ماروننا القورشي الإلهي،

يوم 9 شباط يوم عيدك في وعد معلمنا ومعلمك: “ثقوا، لا تخافوا، أنا قد غلبتُ العالم”!!!

 

كتب ميشال يونس في “المسيرة” ـ العدد 1761

إقرأ أيضًا

للإشتراك في “المسيرة” Online:

http://www.almassira.com/subscription/signup/index

from Australia: 0415311113 or: [email protected]​​​​​​​​​​​​​​

المصدر:
المسيرة

خبر عاجل