“اللبنانيّة السياسيّة” رأس الدولة في الجمهورية الثالثة

حجم الخط

اللبنانية السياسيةاللبنانية السياسية

عمد الاحتلال التّركي إلى تثبيت صيغة مؤسّساتيّة قوامها التركيبة الطوائفيّة منذ زمن مجلس الإدارة والمتصرّفيّتين والقائمقاميّتين. ونجح العثمانيّون بإرساء مفاهيم قوامها الرشاوى والفساد الإداري ليبقوا لذاتهم السياسيّة منافذ للدّخول من خلالها إلى قلب الدّولة العميقة. وفي مرحلة الانتداب الفرنسي لم يجهد المنتدبون أنفسهم لتكريس صيغة سياسيّة تنطلق من الواقعيّة المجتمعيّة لتركيبة المجتمع اللبناني التعدّدي. وتمّ العبور بصيغ سياسيّة على مختلف طوائف لبنان الرئيسيّة من الدّرزيّة السياسيّة إلى المارونيّة السياسيّة فالسّنّيّة السياسيّة وليس انتهاء بالشيعيّة السياسيّة. فهل سيتمكّن اللبنانيّون المتنوّعون في وحدتهم أن ينسجوا صيغة سياسيّة تترجم وحدتهم في تنوّعهم؟

لقد نجح كلّ فريق طائفي سياسي بتقديم نظرته إلى لبنان. فالدّرزيّة السياسيّة ساهمت ببلورة شكل الكيان السياسي في أزمنة الأمراء واستطاعت أن تعبر بلبنان الزراعي إلى أوروبا، كما وجعلت منه مقصدًا أوروبيًّا في الشرق. أمّا المارونيّة السياسيّة فنجحت تمامًا بانتزاع استقلال الجمهوريّة الأولى. هذه الجمهوريّة التي قامت على رؤية “الخوري – الصلح” الحياديّة وصيغة دستوريّة شيحويّة مركزيّة. ولكنّها دحضت رؤية إميل إدّه وجواد بولس بضرورة الحفاظ على الحماية الأوروبيّة، ظنًّا منها أنّها قادرة على حماية ذاتها من أطماع دولتي الطوق وبعض دول المحور.

وبغضّ النّظر عن هذا الخطر الذي ما استطاعت الجمهوريّة الأولى درأه عن أراضيها إلّا أنّها نجحت من خلال المارونيّة السياسيّة بأن تبني دولة، تنعّم مواطنوها بالحدّ الأدنى من الحياة المؤسّساتيّة. هذه الحياة التي جعلت من لبنان منارة الشرق للغرب وسراج الغرب في الشرق. ونجحت هذه الصيغة اليافعة باستيلاد الأعلام الذين طبعوا تاريخ وجوديّتها السياسي من موارنة وغيرهم من مثل الرئيس كميل شمعون، وفؤاد شهاب، وسعيد عقل، وشارل مالك، وفؤاد بطرس، وفؤاد افرام البستاني، والشعراء الزحليين، والإمام موسى الصدر، والشاعر أدونيس، والشاعر عبّاس بيضون، والفيلسوف حسن حمدان الذي عرف باسم مهدي عامل ولقد اغتيل في العام 1987 بسبب مواقفه السياسية والثقافيّة؛ والفنان التشكيلي مصطفى فروخ الذي يعتبر من رواد الفن الحديث  في لبنان، والكاتب المسرحي  الساخر سعيد تقي الدين الذي ترك بصمة في  الأدب اللبناني والعربي، كذلك الكاتب عصام محفوظ.

 

مجد لبنان

صنعت المارونيّة السياسيّة بحكمتها الإداريّة دولة سرعان ما تحوّلت إلى سويسرا الشرق، ليس بسبب نظامها المصرفي فحسب، بل من حيث نمطيّة العيش التي نجحت بتثبيتها. فصار لبنان مقصد الغرب قبل الشرق. لكنّ سقوط المارونيّة السياسيّة كان لإسرافها في مارونيّتها على حساب لبنانيّتها، حيث إنّها لم تنجح في الانتقال إلى اللبنانيّة السياسيّة لأنّ الآخرين نجحوا بزجّها في صراع تثبيت وجوديّتها في لبنان والشرق. وبالتّالي أعادوها إلى قوقعتها الطائفيّة بعدما نجحت بكسر القيود كلّها، وخرجت إلى رحاب الكون بأسره.

وعندما نجحت هذه المارونيّة بتثبيت وجوديّتها السياسيّة في الكيانيّة اللبنانيّة ارتضت بأن تنتقل إلى رحاب اللبنانيّة. وذلك كان عندما نجحت المقاومة المسيحيّة بتتويج باكورة نضالها الفكري والعسكري بإيصال قائدها إلى سدّة رئاسة الجمهوريّة اللبنانيّة. وسقط الحلم عندما تضافر المتربّصون شرًّا كلّهم لإسقاط هذا التتويج خوفًا من نجاح إنتقال المارونيّة السياسيّة إلى اللبنانيّة السياسيّة. هذه اللبنانيّة التي كرّسها فخامة الرئيس الشهيد بشير الجميّل في شعار الـ10452 كلم2؛ وخوفًا من تلبنن هذه التجربة النّاجحة اغتالوه وأسقطوا تلك اللبنانيّة التي حملها في فكره.

 

الانحسار فالانكسار

بعدما انحدرت المارونيّة إلى أدنى دركاتها، سمح الظرف الإقليمي بتنامي السنيّة السياسيّة. وعُرفت هذه المرحلة الطوائفيّة الثالثة بالجمهوريّة الثانية. هذه الجمهوريّة التي تنازلت فيها المارونيّة عن السياسي لصالح السياسة. لكنّ السياسة انقضّت عليها ونكّلت بزعمائها وقتذاك حتّى أدرك اللبنانيّون، المنضوون في كنفها، أنّ إسقاطهم للسياسيّة عن مارونيّتهم ما كان لحساب اللبنانيّة، بل أضحى لحساب السنّيّة السياسيّة.

في هذه المرحلة، اكتفت السنّيّة السياسيّة بالعمل الاقتصادي – الاستثماري وتركت العمل السياسي للمحتلّ السوري الذي شكّل وجوده ضمانة لاستمرارها، شرط ألّا تجرؤ على مواجهته. ولكنّ المواجهة حصلت وكانت النتيجة باغتيال صمّام أمان السنيّة السياسيّة الرئيس رفيق الحريري.  فسقطت معه السنّيّة السياسيّة في محاولة لاستنهاض اللبنانيّة مرّة ثانية في ثورة الأرز في ذلك الرابع عشر من آذار المجيد.

ولعلّ التنازلات التي حصلت على يد بعض القاصرين في فريق 14 آذار في مواجهة تنامي جبروت منظّمة “الحزب” أدّت إلى انتهائها بالضربة القاضية في انقلاب السابع من أيّار 2008؛ لندخل دستوريًّا في مرحلة الشيعيّة السياسيّة مع تطبيق اتفاق الدّوحة في العام 2008. هذا الاتفاق الذي تنازلت فيه السنّيّة السياسيّة للشيعيّة السياسيّة في محاولة لدسترة تجربتها السياسيّة.

 

وهم الانتصار ووهجه

في هذا السياق أتى الاستحواذ على التوقيع الثالث، أي وزارة الماليّة. هذا التوقيع الذي اعتبرته الشيعيّة السياسيّة ضمانة دستوريّة لوجودها الطوائفي. وجودٌ تجلّى في ثنائيّة قاتلة لكلّ مَن سوّلته نفسه الخروج من تحت عباءتها. واعتمد هذا النّهج على ثنائيّة الترغيب والترهيب. فنجح بإثقال مؤسّسات الدّولة بأزلامه، وبترهيب من وقف بوجه مشروعها فسقط هاشم السلمان ولقمان سليم وغيرهما في محاولة لترويض الفكر الشيعي.

وما كان سقوط الشيعيّة السياسيّة بسبب تكريس منهجيّة علميّة للفساد السياسي فحسب، بل لأنّها عمدت إلى إخراج قسم كبير من اللبنانيّين من شيعتهم الجعفريّة لتزجّهم في الأتّون الصفوي الفارسي، بعدما نجحت بتثبيت ثقافة لا تشبه اللبنانيّة بشيء، قوامها الموت للموت في أدنى مستوياتها، وفي أقصاها الحياة حتّى الموت للموت فداء لإيديولوجية لا تشبه ثقافة اللبنانيّين كلّهم.

ولمّا قرّرت هذه الشيعيّة إخراج لبنان من واقعه الجغرافي على حساب انتماء لبنانها للأمّة الأكبر، تدخّل المجتمع الدّولي لإسقاطها بالضربة القاضية. فاغتيل من يجسّد قيادة مشروعها أي السيد حسن نصرالله أمين عام منظمة “حزب”. وبالتّالي انتقل لبنان إلى المرحلة التالية التي قوامها عودة الدّولة إلى الدّولة وتحرّرها من طوائفيّتها السياسيّة.

 

عودة الرّوح المؤسّساتيّة

لعلّ هذه المرحلة التي بدأت ديناميّتها تتجلّى بالممارسة المؤسّساتيّة القويمة التي نجح بعض السياسيّين في تكريسها. وحاول الشارع اللبناني مواكبة هذه الديناميّة فأسقطها سلاح الشيعيّة السياسيّة قبل إسقاطه فسقطت. لكنّ ثبات هذه الفئة الدّستوريّة على ممارساتها الدّستوريّة نجح بنقل اللبنانيّين من طوائفيّة سياسيّة إلى لبنانيّة سياسيّة. هذه اللبنانيّة لن تتثبّت إلّا بتوأمة مبدأي الاقتناع والتواضع الوطنيّين. ليتماشيا مع مبدأ المساواة الوطنيّة.

إن لم يقتنع اللبنانيّون جميعهم بضرورة تحرّرهم من طوائفيّتهم السياسيّة، واحتفاظهم بطائفيّتهم الدينيّة، تثبيتًا للكيانيّة اللبنانيّة لن يتمكّنوا يومًا من الانتقال إلى اللبنانيّة السياسيّة. هذه اللبنانيّة التي وحدها تكون بديلًا من الطوائفيّة السياسيّة على اختلاف تلاوينها. حتّى لو نجح بعضها بتجربة سياسيّة، لكنّ استمرارها كان مناطًا بقبول الآخرين بها. وهذا ما يحصل في تاريخنا المعاصر.

 

اللبنانيّة السياسيّة هي الحلّ

فاللبنانيّة السياسيّة هي شرط للدّولة في الجمهوريّة الثالثة. هذه الجمهوريّة التي يجب أن تنبذ الجمهوريّتين اللتين قامتا على طوائفيّة السياسة. ويجب أن تعمل على بناء جمهوريّة لبنانيّة سياسيّة بامتياز تحترم الطائفيّة السياسيّة في نظام أحوال شخصيّة مدنيّة اختياريّ، مقابل أن تبنى صيغة سياسيّة عمادها لامركزي سياسيّ، ينطلق بادئ ذي بدء من مركزي إداريّ موسّع، قوامه مناصفة صيغة الوفاق الوطني.

هذا هو لبنان الجديد الذي نتطلّع إليه. لبنان ينجح بالانتقال من تجاربه الطوائفيّة السياسيّة إلى صيغة لبنانيّة سياسيّة. لكن لا بدّ من المرور بمرحلة انتقالية أساسها إعادة بناء ما دمّرته الطوائفيّات السياسيّة، حتّى إعادة تكريس مفهوم الدّولة الذي تمّ تدميره في هذه الستّ عشرة سنة الأخيرة. على أمل أن يكون بعض المستكبرين قد اتّعظوا من تجاربهم الفاشلة التي أسقطت الوطن، لنستطيع استعادة روحيّة هذا الوطن كي لا نقول مرّة جديدة: “نجّنا من التّجارب”.

 

كتب د. ميشال الشّمّاعي في “المسيرة” ـ العدد 1761

إقرأ أيضًا

للإشتراك في”المسيرة” Online:

http://www.almassira.com/subscription/signup/index

from Australia: 0415311113 or: [email protected]​​​​​​​​​​​​​​

المصدر:
المسيرة

خبر عاجل