لبنان خير دليل. فمنذ ما قبل التاريخ وصولًا الى اللحظة، لم تغب أطماع القبائل والعشائر والمجتمعات والكيانات، وبالتالي الإمارات والسلطنات والملكيات والإمبراطوريات وصولًا الى الدول، بعضها ببعض وبخيراتها من أرض ومساحات خصبة ومياه وثروات نفطية ومواقع استراتيجبة وسياحية وغيرها… ولم تغب يومًا الادعاءات بحقوق وصكوك الملكية وادعاءات نفيها عبر التاريخ وصولًا الى يومنا الحالي.
انطلاقًا من وقوع لبنان الكيان والدولة في الموقع الوسط في المتوسط بين الشرق والغرب وبين جارتين عقائديتين، بعثًا سوريًا، وإسرائيلية مقنعة عالمية توراتية، تدعي كل منهما حقًا تاريخيًا جغرافيًا ودينيًا وعقائديًا، بإلحاقه وضمه وفي أحسن الأحول اتباعه بأحد فلكيها، والتصريحات والمؤلفات والتبريرات الصادرة عن كل من الدولة الدينية اليهودية في إسرائيل والدولة العقائدية البعثية سابقًا في سوريا، تحاول أن تجد مستندًا وحقًا في الكتب المقدسة وآراء المؤرخين.
لقد صُدم الكثير من اللبنانيين بكلام المعارض السوري الحقوقي هيثم المالح في 6 كانون الثاني 2025 والذي قال فيه إن “الساحل اللبناني ومعظم الأراضي اللبنانية عدا الجبل، كانت من ضمن سوريا، وكان يُطلق عليها في زمن العثمانيين اسم متصرفية جبل لبنان، وفي عام 1922 ضمّها الفرنسيون وأنشأوا دولة لبنان. قلت سابقًا لبنان يعني سوريا، ويجب أن تعود الأراضي الى السوريين”.
ولحق بكلام المالح تعليقات مؤيدة لسرديته الطامحة الطامعة، من سياسيين حاليين وخصوصًا من وزير الدفاع السوري مرهف ابو قصرة يقول فيه: “إن لبنان يعتبر أراض سورية قسمها الاستعمار الفرنسي ونطالب بضمها الى بقية المحافظات السورية”… لتنفي السفارة السورية في لبنان لاحقًا صحة ورود هكذا تصريح.
التصريحات السورية الحديثة كانت سبقتها ادعاءات مماثلة، إذ قال نائب الرئيس السوري الراحل عبد الحليم خدام وكان يومذاك وزيرًا لخارجية النظام السوري، في 7 كانون الثاني 1976 في تصريح الى صحيفة “الرأي العام” الكويتية، إن “لبنان جزء من سوريا وسوف نستعيده عند أول محاولة تقسيم وينبغي أن يكون ذلك واضحًا …” كما يقول رئيس النظام الراحل حافظ الاسد في 16 تشرين الثاني 1986: “…إن كل شبر في لبنان، إن كل شبر من أرض لبنان هو تمامًا ككل شبر في أرض سوريا. إننا شعب واحد ومن أمة واحدة. هكذا خلقنا الله، هكذا هو التاريخ وهكذا هي الجغرافيا”.
وانطلاقًا مما ادعاه المالح وأبو قصرة وخدام والأسد، لا بدّ من وضع نقاط المؤرخين والاستقلاليين والسياديين، على حروف الطامعين والمرددين الببغائيين من اللبنانيين التابعين.
اعتبر المالح أن الساحل اللبناني الّذي صنّف من أرض الولاية العثمانية هو أرض سورية، ولكن فات “الحقوقي” انطلاقًا من غلطة الشاطر بألف، أن العثمانيين عندما أنشأوا ولاية بيروت عام 1888 ضمّوا اليها ولاية اللاذقية إلى جانب العديد من الولايات الأخرى، وبالتالي وبمنطق “الحق” الذي ادعاه الحقوقي، تكون اللاذقية أرضًا لبنانية وليست سورية، لذا كان على الحقوقي أن يعرف بين الإجراءات الإدارية المتّخذة من السلطنة العثمانية والحدود الجغرافية الحقة والحقيقية فرقًا شاسعًا وكبيرًا.
وفي ردّ على الرباعي السوري الطامع بشقيه البعثي والمعارض والرسمي الحالي، يقول المؤرخ يوسف السودا: “أما حدود لبنان الجغرافي، فرسمتها الطبيعة من النهر الكبير الى ناقورة عكا، ومن البحر الى العاصي والجبل الشرقي، وتحكم العلاقات بين لبنان وسوريا المنافع الاقتصادية مع التأكيد على أن استقلال لبنان السياسي هو قضية راهنة وواجب محتم لا محاباة به ولا تساهل”.
يلاقي قول السودا ما أرّخه الكاتب والباحث الإستراتيجي الدكتور نبيل خليفة في مقدمة كتابه “مدخل الى الخصوصية اللبنانية”، إذ أشار الى “أن إعلان لبنان الكبير عام 1920 سبق إعلان الدولة السورية بسبع سنوات، وبالتالي لم يكن هناك دولة سورية في الأصل لنعتبر أن لبنان انفصل عنها. كان لبنان ظاهرة تاريخية فريدة من نوعها في العالم العربي في ظل السلطنة العثمانية، انطلاقًا من الخصوصية اللبنانية المتمثلة بمجتمعه الجبلي من جهة، وبكون بيروت مفتوحة على الجبل والتجارة مع أوروبا عن طريق البحر، بالإضافة إلى كون بيروت مركزًا رئيسيًا للتعليم العربي الحديث والأفكار الغربية المتحرّرة في العالم العربي. وكان لهذا التمايز السوسيو-ثقافي دور مهم في تكوين الكيان السياسي للبنان كما نعرفه اليوم”.
وبالعودة الى حقائق التاريخ والجغرافيا والحقوق المحفوظة لمالكيها، ونحن على عتبة مرحلة جديدة اليوم، من الحلم بإرساء أسس الدولة القوية القادرة على إمساك قرارها وبسط سلطتها وحدها على أراضيها، مستقلة منيعة عن التدخلات الخارجية، بعيدًا من المحاور، بما أطلق عليه خطاب القسم للرئيس جوزيف عون الحياد الإيجابي، من الضروري أن يلاقينا العهد الجديد والحكم العتيد في سوريا بعد إرسائه على الأسس الديمقراطية والانفتاح، لمحو آثار ارتكابات النظام السابق الطامع، بما لم يكن له من حقوق، بجاره اللبناني سياسيًا واقتصاديًا وجغرافيًا على ما وعد وتعهد به قائد الإدارة السورية الجديدة.
التوضيحات التاريخية، لا تثني عن ضرورة التذكير بما لم يعترض عليه المؤيدون للنظام السوري، من أطماع في لبنان واحتلال دام لعقود لأراضيه ولقراره اذ كانوا تابعيه ومشاركيه… فمن ركّز اليوم على كلام الناشط المالح والوزير أبو قصرة معترضًا، هم أنفسهم من كانوا من محتلي الصفوف الأولى في جوقة اللبنانيين التابعين والمنتفعين من نظام حافظ وبشار الأسد البعثي، والذي يؤمن ويقول بما يؤمن به المالح وأبو قصرة وقالاه مؤخرًا، معاكسين ما جاء في مقدمة الدستور اللبناني عن نهائية الكيان واستقلاله وسيادته على أراضيه بحدوده المعترف بها دوليًا.
وما يصدم اللبنانيين أيضًا، تركيز هؤلاء من الممانعين مستنكرين مستهجنين كلام دونالد ترامب عن ضم كندا وبنما وغرينلاند الى الولايات المتحدة الأميركية، كما في محاربتهم جنبًا الى جنب مع الأميركي نفسه، دفاعًا عن الكويت، منعًا لأطماع صدام حسين وعراقه، كأرض تابعة من ضمن المحافظات العراقية… وطبعًا لم يركز الممانعون ولن يذكروا ضم إيران على سبيل المثال لا الحصر، للطنّب الكبرى والطنّب الصغرى وجزيرة أبو موسى الإماراتية واحتلالها منذ العام 1971.
… وللبحث صلة.