كأنه كُتِب على لبنان والاقتصاد النشِط ألّا يلتقيا مذ حزم “سويسرا الشرق” حقائبه ورحل إلى جهة مجهولة. فبعد انتهاء الحرب عام 1990 استعاد الاقتصاد نهوضه الثابت ليصطدم بانتكاسة حرب “عناقيد الغضب” عام 1996 وحرب تموز 2006، ما كبّد الاقتصاد خسائر كبيرة مباشرة وغير مباشرة. النمو المرتفع في العام 2009 بعد اتفاق الدوحة، لم يصمد أكثر من عقد وتفجَّرَ ثورة غضب في العام 2019، حيث خسر البلد نموّه وميزاته التفاضلية، والناس أموالهم ومدخراتهم. وجاءت حرب مساندة “الحزب” لحركة ح. في الثامن من تشرين الأول 2023 لتكبّد الاقتصاد ما لا طاقة له على حمله.
اليوم ثمة بارقة أمل في أفق الاقتصاد اللبناني. هي بحسب الاقتصاديين فرصة ذهبية إن أحسنَ اللبنانيون التعامل معها والاستفادة من معطياتها. فلبنان خرج من الحرب ومن بعض عواملها، وخرج من الفراغ المؤسساتي إلى إعادة بناء الدولة وهيكليتها، وهناك العديد من الدول الداعمة أبدت استعدادها للمساعدة في إعادة النهوض. لكن وفق شروط أولها إنجاز الإصلاحات. فهل يسعى نواة العهد الجديد ويبادروا؟
من القصر الجمهوري الذي عادت إليه الحركة السياسية والحياة بعد انتخاب العماد جوزيف عون رئيسًا، أعلن الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش أن “الأمم المتحدة ستدعم بكل ما تملك من قدرات القطاعات اللبنانية كافة ليعود لبنان بلد الازدهار في المنطقة، ولتمكينه من تحقيق الانتعاش الاقتصادي”.
كذلك فعل الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون عند زيارته بيروت حيث وعد بالدعوة إلى مؤتمر دولي على غرار مؤتمرات سيدر وباريس يُعقَد في بيروت ويهدف إلى تأمين الأموال لإعادة النهوض.
هذا في باب المعلن من مساعدات، وهناك على أرض الواقع تطورات لا بد إلا أن تدفع بالاقتصاد نحو التقاط أنفاسه وبدء التململ تحضيرًا للنهوض السريع في ما لو استمرّت هذه المؤشرات على الطريق الصحيح. فالثقة الوطيدة والأمن المستتب والقضاء النزيه تجلب الرساميل، وإعادة هيكلة القطاع المصرفي وضبط الفساد والهدر وتطبيق الحوكمة، أمور تدفع حكمًا إلى اقتصاد مولِّد للفرص وعوائد كافية لبدء الخروج من الأزمات.
عوامل الانهيار وعلامات النهوض
يرى الاقتصاديون أن حكومة العهد الأولى المنتظَر أن تواجه تحديات هائلة، تمتلك في الوقت نفسه فرصة تاريخية لإطلاق تحوُّل اقتصادي واجتماعي يعيد للبلاد مكانتها ويضعها على طريق النمو المستدام. وأن هذا يتم من خلال التحوُّل إلى اقتصاد المعرفة الذي يمكن أن يصبح محركًا أساسيًا للنهوض الوطني والتكامل الإقليمي. ويعتبرون أن حكومة محددة فترة عملها بموعد إجراء الانتخابات النيابية في أيار من العام 2026، لا يمكنها تحقيق خطوات واسعة على هذا الصعيد، لكنها يمكن أن تُرسي أساسات النهوض والتنمية المستدامة.
فتاريخ طويل من سوء الإدارة والفساد وسيطرة “الحزب” على الدولة وانهيار العام 2020 وأخيرًا الحرب التي كلفت الاقتصاد اللبناني أكثر من 6 مليارات دولار، لا يمكن محوه بقرار أو بإجراء، بل يتطلّب عملًا دؤوبًا وسليمًا لوقت غير قصير. وثمّة من يجزم بأن التركيز لا بد إلا أن يشمل النواحي كافة. فالعمل على الاقتصاد وحده من دون السياسة والأمن يبقى مجرّد وضع لماء الجهود في سلّة الإصلاحات، فيما اللبنانيون متعطشون لرؤية وطنهم يستعيد سابق عهده في منافسة دول المنطقة والعالم.
نظريًّا، يترقب الاقتصاديون تحسّنًا في أداء الاقتصاد في المرحلة القريبة المقبلة، مع توفّر الدعم الخارجي وعودة القطاعات المحلية إلى عملها المعتاد من دون صدمات. ويعتبرون أن النجاح الذي حققه القطاع الخاص اللبناني لم يكن بفضل دعم الدولة بل من خلال المبادرات الفردية والتمويل الذاتي. وهو يكفيه فقط توفير الأمن والمناخ الملائم للعمل والاستثمار، وقطاع السياحة الذي يساهم تقليديًّا بما بين 20 إلى 25 في المئة من الناتج المحلي اللبناني ويؤَمّن فرص عمل لنحو 25 في المئة من اليد العاملة اللبنانية، أبلغُ مثال على هذا الواقع.
في المجالين المالي والنقدي ارتفع احتياط مصرف لبنان من العملات الأجنبية بعد انتهاء الفراغ الرئاسي بانتخاب العماد جوزيف عون رئيسًا للجمهورية، بمقدار 300 مليون دولار في أقل من عشرة أيام، وطبعًا رافق ذلك العديد من المؤشرات الإيجابية الأخرى. فما هي الأسباب الواقعية التي أدت إلى رفع هذه المؤشرات؟ وهل سينعكس ذلك على الوضعين النقدي والمالي وحل أزمة المودعين وإطلاق عجلة النمو الاقتصادي من جديد؟ والأهم بالنسبة إلى اللبنانيين هل ينخفض سعر الدولار مقابل الليرة؟
الباحث الاقتصادي الدكتور محمود جباعي، يرد أسباب تحسّن المؤشرات الى “الثقة المتزايدة في لبنان اليوم، مما جعل الأسواق والمواطنين يعتقدون بأن سعر الصرف قد ينخفض، وبالتالي، بدأ العديد من اللبنانيين يطلبون الليرة من الأسواق ويبدلون الدولار بها، مما جعل الدولار متاحًا أكثر. وعلى الرغم من ذلك فإن سعر الصرف سيبقى مستقرًّا حاليًا، وأن سياسة مصرف لبنان تهدف إلى الحفاظ على الاستقرار النقدي بالتعاون مع وزارة المالية والحكومة. وهذا يعني أن السياسات المالية والنقدية اليوم متفق عليها لتحقيق الاستقرار النقدي، وهو ما سيستمر مستقبلًا”.
هذه المؤشرات تدل على وجود تطورات إيجابية في المرحلة المقبلة، في حال أُتيح للعهد والحكومة الجديدة العمل وفق معايير علمية وشفّافة لمعالجة الأزمات كافة، وعلى رأسها الأزمات المالية والاقتصادية، بما في ذلك حل ملف المودعين. وكان حاكم مصرف لبنان بالإنابة وسيم منصوري أكّد أن المصرف المركزي لا يتدخل بشكل مباشر في السوق، بل يتم الطلب على الليرة من خلال المصارف، التي يغطي المصرف المركزي الطلب عليها عبر الحصول على دولارات، مما أدى إلى زيادة الاحتياطيات بمقدار 300 مليون دولار.
آمال وتوقعات… ووقائع
يأمل الكثير من الاقتصاديين، أن تتكلل هذه التطورات بخطة واضحة من الحكومة الجديدة التي تعتمد مشروعًا للتعافي الاقتصادي السريع وتضع رؤية مرتبطة بإعادة الإعمار، وكذلك خطة لإعادة أموال المودعين مع إعادة هيكلة القطاع المصرفي، بالإضافة إلى إعادة هيكلة القطاع العام وزيادة إنتاجيته.
في هذا السياق تقول الأستاذة الجامعية والباحثة في الاقتصاد الدكتورة نيكول بلّوز بايكر: “الاقتصاد هو علم اجتماعي أي أنه يرتكز على تفاعل المجتمَعَين المحلّي والدولي مع السياسات النقدية والمالية التي يرتبط نجاحها مع تفاعل العالم معها. فالثقة هي عامل أساسي في تحديد مدى نجاح أو فشل هذه السياسات. هذه الثقة عادت بعد خطاب القسم للرئيس جوزيف عون، لكن يبقى هناك حذر بانتظار أداء الحكومة. فالعامل المؤثر على هذا الصعيد هو مدى توفير الاستقرار السياسي، لأن من دونه ومن دون حصرية السلاح بِيَد الدولة وسيادة القانون لن يجرؤ أحد على الاستثمار المعروف عنه أنه محرِّك النمو”.
وتضيف في حديث لـ”المسيرة” أنه “لا بد من الوقوف أيضًا على أداء الوزراء كلّ في وزارته ومدى جدّية العمل على مكافحة الفساد ومنع التهرّب والتهريب لوقف الاقتصاد المستتر أو الموازي وإعادة الثقة بالمصارف. لكن كل هذا يتوقف على ما ستكون عليه السياسات المالية والنقدية وكيف ستحل مسألة الودائع وهيكلة المصارف. وهنا أقترح مساهمة بنوك أجنبية في رأسمال المصارف المحلية القادرة على إعادة النهوض، مما يوحي بالثقة ويساعد لبنان على الخروج من اللائحة الرمادية. والأهم هو العمل بموجب رؤية اقتصادية وقاعدة واضحة، فلا يبقى الأداء متوقفًا على رأي حاكم المركزي أو على تصرّف وزير المالية”.
وشدّدت بايكر على أهمية وجود فريق حكومي متجانس ويتمتع بالكفاءة والخبرة، «فلا نبقى على المراضاة وحكومات الوحدة الوطنية، لأن في هذه الحال لا نكون فعلنا شيئًا لتحقيق الإصلاح والنهوض. كما أن اللامركزية الإدارية شرط موازٍ لتحقيق الوثبة المنتظرة. وعندها فقط يمكننا القول إن لبنان سيعود، ليس فقط كما كان في أيام عزّه، إنما أفضل. وختمت بالتأكيد أنه بلا حوكمة لا اقتصاد”.
في السياق عينه ترى المتخصّصة في الاقتصاد النقدي الدكتورة ليال منصور أن سيناريوهات عدّة تنتظر الاقتصاد اللبناني. وتقول لـ”المسيرة”، “صحيح لدينا تفاؤل كبير جدًّا، لكن العهد الجديد تسلّم دولة لا تقوم على المؤسسات، وهذا يلغي مبدأ استمرارية الحكم، بل يتطلّب شبه تأسيس من جديد لإيجاد مؤسسات ثابتة وفاعلة من جهة، ووضع سياسات سليمة لاقتصاد منتج من جهة ثانية”. وتساءلت: “هل بهذه السرعة سيكون لدينا مؤسسات؟ هذا الأمر يتطلب وقتًا وعملًا كبيرًا. لنفترض هناك في الخارج من وثق بنا ويريد أن يحوّل أموالًا أو أن يستثمر، كيف يحوّل تلك الأموال وعلى أي مصرف ومن يضمن حمايتها؟ هل حصلت محاسبة على ما جرى في السنوات الماضية؟”
وتابعت: “كل الدول تحصل فيها أزمات ولا سيما الولايات المتحدة أكبر اقتصاد وأكبر الأزمات، لكنها تعالَج بسرعة وشفافية وتحصل محاسبة مما يعيد العجلة إلى مواصلة الدوران بكفاءة. والأمر نفسه حصل في الصين وفي الخليج. أما عندنا فالأمر مختلف ونحتاج إلى العديد من الإصلاحات”. وشدّدت بخصوص سعر الصرف: “لو حضر الأنبياء إلى عندنا لا يمكن لليرة استعادة سابق عهدها. وما لنا سوى اعتماد الدولرة الشاملة. وبالتالي توفير الثقة، والثقة لا تأتي إلا بالقانون لتتشكل ركائز ثلاث لانطلاقة المستقبل هي: ثقة، انضباط، محاكمة”! ولفتت إلى أنها ساهمت في العام 2020 في إعداد اقتراح قانون مع النائبة بولا يعقوبيان يدعو إلى اعتماد الدولرة الشاملة.
وتلفت الى أن المستثمر يطمئن في حال توافر ثلاثة عناصر هي: عملة ثابتة وتضخّم منخفض وفائدة متدنية. وهذه السياسة تعتمدها الدول حتى لو كانت في حال حرب. وهي أكثر نظام مكروه من السياسيين الفاسدين، لأنها تمنع السرقات والهندسات المالية. واعتبرت أن حاكم البنك المركزي بالإنابة وسيم منصوري لا يعمل سياسة نقدية، والفرق بينه وبين الحاكم السابق رياض سلامة أنه في زمن سلامة كان تثبيت العملة منظمًا. ولفتت إلى أن التثبيت بذاته ليس خطأ لكنه يقودك إلى ارتكاب الخطأ. وشدّدت على أنها بذلك لا تقلّل من أهميّة الحلول الاقتصادية، لكنها فقط ترتّب الأولويات.
خارطة طريق لانطلاقة ناجحة
أمران أساسيان يجب توافرها لتأمين إنطلاقة ناجحة للاقتصاد اللبناني بعد كل ما مرّ فيه من صعوبات وانزلاقات: الثقة المحلية والدولية بالأداء الحكومي، واعتماد سياسات مالية واقتصادية واضحة ونزيهة ضمن رؤية شاملة لإعادة بناء اقتصاد متين يواكب متطلبات المستقبل ولا يكتفي بالسكر على أمجاد الماضي.
فكل الآراء والاقتراحات المطروحة ستؤدي بحسب الاقتصاديين إلى تحسن مستمر في المؤشرات الاقتصادية والمالية والنقدية. كما يتوقعون أن يستمر سعر الصرف في الاستقرار في الوقت الحالي، في انتظار تغيُّر المؤشرات الاقتصادية المتعلقة بالميزان التجاري وزيادة الإنتاج المحلي وتراجع الطلب على الاستيراد. ويعتبرون أن هذه العوامل قد تساهم في وضع خطة لسعر صرف جديد في المستقبل، أما في المدى المنظور فمن الأفضل أن يستمر سعر الصرف الحالي الذي تقبلته الأسواق لمدة عامين تقريبًا.
وثمّة أولويات يعتبر الاقتصاديون أن على الحكومة اتّباعها منها: معالجة الأزمة المالية باعتماد خطة إنقاذ مالي تعيد الاستقرار إلى القطاع المصرفي وتعزز ثقة المواطنين والمستثمرين. ومكافحة الفساد عبر تفعيل القضاء المستقل والأجهزة الرقابية وضمان الشفافية في الإدارة العامة. وكذلك إعادة إعمار المناطق المهدمة بسبب الحرب، وتحسين قطاعات الكهرباء، والمياه، والتكنولوجيا، والنقل لتوفير أساس اقتصادي متين. وصولًا إلى توفير السيادة والأمن وتوحيد القرار الدفاعي ضمن رؤية وطنية شاملة تعزز الاستقرار الداخلي وتحمي البلاد من التهديدات الخارجية.
أمام العهد الجديد والحكومة الوليدة الكثير لفعله مما يحقِّق تغييرًا جذريًا في هيكل الاقتصاد اللبناني، وتوفير الأمن والثقة بأن لبنان لن يعود إلى حرب أخرى بعد عقد من الزمن، وأن القرار بات فعلًا في يدها لا في يدٍ أخرى تعمل لمصلحتها غير عابئة بمصالح البلد والناس.
كتب سيمون سمعان في “المسيرة” ـ العدد 1761
للإشتراك في”المسيرة” Online:
http://www.almassira.com/subscription/signup/index
from Australia: 0415311113 or: [email protected]