يواجه لبنان منذ العام 2019 أزمة مالية ونقدية ومصرفية غير مسبوقة، تتطلب خطة إصلاحية شاملة ومتوازنة تراعي الحلول الآنية والمستقبلية، وتهدف إلى استعادة الثقة في النظام المالي والمصرفي وحماية حقوق المودعين. وبالرغم من مرور السنوات، فقد فشلت الحكومات والسلطات المتعاقبة بإيجاد الحلول أو طرح خطط علمية والشروع بتنفيذها، مما يطرح علامات استفهام كبيرة حول ضلوع بعض هذه السلطات في التسبّب بالأزمة وتأخير الحل لتغطية ذلك وصولًا إلى الاستفادة من الوضع القائم.
مقاربة غير تقليدية
في خضم هذه الأزمة، لم تعد الحلول التقليدية البحتة تكفي. نحن بحاجة إلى نهج جديد جريء، يجمع بين التقليد من جهة والتفكير خارج الصندوق (thinking outside the box) والإبداع اللبناني الذي يخرج عن المألوف من جهة ثانية، لنعيد صياغة قواعد اللعبة ونواجه الواقع بطرق مبتكرة.
التفكير خارج الصندوق يعني النظر إلى الأزمة من زوايا غير مألوفة، نحتاج إلى إعادة تقييم كل مسار اقتصادي، مالي ونقدي بعيون جديدة ومقاربات جريئة. كيف نقارب الأزمة؟ كيف نحمي أموال المودعين؟ كيف نستعيد الثقة؟ الإجابات تكمن في الأفكار التي لم يجرؤ أحد على تجربتها من قبل.
أما الإبداع اللبناني، فيتجلّى بمقاربة تحوّل المستحيل إلى ممكن، وشجاعة لا تخشى مواجهة الأعراف المترسّخة، وجرأة تتحدى القيود بلمسة من الحنكة والمكر. إنها الطريقة التي تضع الهدف نصب عينيها، وتسلك الطرق الوعرة من دون تردد، النصل إلى حلول تخدم الجميع.
بهذا النهج المركّب لن نكون باحثين فقط عن الخروج من الأزمة، بل طامحين إلى إعادة بناء نظام مالي جديد ومستدام، نظام يعيد لليرة اللبنانية قيمتها، ويحفظ حقوق المودعين، ويضع الأسس لنظام مالي أكثر شفافية. إنه نداء لتبنّي التفكير الحر والعمل الجريء، لأن الأزمة اللبنانية لا تحتاج فقط إلى حلول، بل إلى رؤية تؤسس للمستقبل.
البدء بالأولويات
على الرغم من وجود مجموعة من التدابير متوسطة وطويلة الأجل التي يمكن أن تُسهم في حل الأزمة بشكل جذري ومستدام، إلا أن الأولوية الملحّة اليوم تكمن في استعادة قيمة الودائع المصرفية. الهدف من هذه الأولوية هو تمكين المودعين الأكثر حاجة إلى أموالهم من الوصول إليها فورًا بشروط مقبولة وعلمية، مع ضمان الحفاظ على الحقوق الكاملة للمودعين الذين يفضلون الانتظار، بحيث لا يتكبّدون خسائر على المدى الطويل.
حتى الآن، يمكن القول إن المودعين وحدهم هم الذين تكبّدوا الخسائر الفعلية في هذه الأزمة. فقد خسروا فوائد أموالهم على مدى السنوات الخمس الماضية (حوالى (20 في المئة)، إذ لم يتم دفع أي فوائد لهم. إضافة إلى ذلك، أدت نسبة تضخم عالمية بمعدّل 2 في المئة سنويًا إلى تقليص القيمة الفعلية لودائعهم المحتجزة في المصارف بما يوازي 10 في المئة، ناهيك عن اضطرار الكثيرين إلى تكبّد اقتطاع بلغ 85 في المئة للحصول على جزء من أموالهم. في هذا السياق يبرز مبدأ التعويض على المودعين بالإضافة إلى حماية ما تبقى من أموالهم.
أما الدولة، التي تخلّفت عن سداد ديونها وتوقفت حتى عن خدمتها، فقد استفادت من الأزمة بشكل أو بآخر. كما أن مصرف لبنان والمصارف قد استفادوا أيضًا من هذه الأزمة. وهنا نستطيع الطلب من هذه الأطراف توزيع “أرباحها” على المودعين وليس تحميل المودعين خسائرها!
معالجة من الجذور
تتناول الرؤية المقدمة في هذه الوثيقة معالجة تبدأ من الجذور الرئيسية للأزمة والمتمثلة بالدين العام المطلوب من الدولة وتنتقل إلى معالجة وضع مصرف لبنان، مرورًا باستقرار الليرة اللبنانية، ومعالجة خسائر القطاع المصرفي، من أجل الوصول الى حماية أموال المودعين عبر استعادتها لقيمتها وتوفير السيولة لدفعها لهم.
الوقت هنا ليس مجرّد عنصر ثانوي، بل هو العامل الأساسي، إذ إن التأخر في اتخاذ الخطوات اللازمة يزيد من عمق الأزمة ويُضاعف من الخسائر. لذلك، فإن استعادة الثقة في النظام المالي والمصرفي تتطلب تحرّكًا سريعًا ومنهجيًا يوازن بين احتياجات الحاضر ومتطلّبات المستقبل.
I ـ الإجراءات الفورية المقترحة
1 – زيادة دفعات التعميمين 158 و166
بما أن المبالغ التي تُدفع حاليًا فقدت جزءًا كبيرًا من قيمتها الشرائية يجب زيادة الدفعات الشهرية فورًا بصورة دائمة ورفع السقف المحدد سابقًا (أي زيادة مبلغ 50.000 دولار مثلا للتعميم 158).
2 ـ الحفاظ على القيمة الحقيقية لودائع العملات الأجنبية
إن الحسابات المصرفية المودعة بالعملات الأجنبية مسجلة بالفعل في دفاتر المصارف وفق سعر صرف السوق (حاليًا 89,500 ليرة لبنانية للدولار). إلا أن التحويل الى الليرة و/أو السحوبات النقدية تُنفذ حاليًا بسعر أدنى بكثير، مما يسبب تفاوتًا كبيرًا في الحقوق والقيم. لذلك، يجب تصحيح هذا الوضع من خلال اعتماد السوق كمرجع موحّد لكل العمليات، بما في ذلك التحاويل والسحوبات، لضمان العدالة والشفافية، وبالتالي مطلوب أن تعلن السلطات النقدية والمالية والسياسية عن سعر الصرف الموحّد بغض النظر عن تثبيته أو تحريره.
3 – تفعيل وتعديل التعميم 151
ـ ضبط سقف التحويل الشهري:
يُسمح بتحويل مبلغ شهري محدد من الحسابات بالعملات الأجنبية إلى الليرة اللبنانية بسعر السوق. يهدف تحديد المبلغ الى التحكّم في السيولة المتداولة وعدم الضغط على سعر الصرف.
ـ تحديد سقف للسحب النقدي الشهري:
يتم تحديد الحد الأقصى للسحب النقدي الشهري من المبالغ المحوّلة إلى الليرة اللبنانية. يُسهم هذا الإجراء في تنظيم استخدام النقد، وتقليل تدفق الأموال النقدية إلى السوق.
ـ تعزيز استخدام الأدوات المالية المحلية:
تؤدي هذه الإجراءات إلى إعادة تفعيل دور البطاقات المصرفية، والشيكات، والتحويلات بالليرة اللبنانية، مما يعزز حركة الدورة الاقتصادية ويشجع التعاملات غير النقدية.
4 – الحفاظ على استقرار الليرة اللبنانية
إن استقرار العملة الوطنية هو العنصر الأساسي لتحقيق استقرار اقتصادي ونقدي وحماية القيمة الفعلية لأموال الناس. لذلك يجب أن يتم العمل على ضمان استقرار الليرة اللبنانية من خلال الخطوات التالية:
ـ تعزيز تغطية الليرة بالذهب:
ـ تغطية إصدار الليرة بالذهب بما يعادل 200 في المئة من النقد المتداول، وذلك بالاستناد إلى المادة 69 من قانون النقد والتسليف التي تفرض تغطية أقلّها 50 في المئة من الذهب والعملات الأجنبية، وبالتالي إظهار هذه الكمية من الذهب (نقترح ما يعادل 3 مليارات دولار من الذهب أو 1.200.000 أونصة) في ميزانية مصرف لبنان كبند منفصل عن مجمل احتياطي الذهب.
ـ تحديد سقف نقد متداول بالليرة اللبنانية لا تتجاوز قيمته نصف الذهب الموجود في بند الميزانية المذكور أعلاه، ما يساهم في تعزيز الثقة بالليرة اللبنانية وينعكس على القدرة الشرائية للمواطن ويعزّز قيمة أموال المودعين.
تجدر الإشارة إلى أن الذهب الموجود في ميزانية مصرف لبنان (حوالى 9.225.000 أونصة) زادت قيمته بأكثر من ثماني مليارات دولار بين العام 2019 والعام 2024 نتيجة ارتفاع سعر الذهب عالميًا.
ـ السياسات النقدية:
تفعيل السياسات النقدية التي تتحكّم بحجم الكتلة النقدية والحفاظ على الاستقرار من خلال الأدوات المتعارف عليها دوليًا (معدّل الفوائد، عرض أو طلب العملات الأجنبية، إصدار سندات دين، إلخ) بغية التحكّم بالعرض والطلب النقديين.
هذه التدابير ليست فقط ضرورية لإحداث تحسّن فوري في الوضع المالي الحالي وحماية الودائع المتبقية، لكنها تضع أيضًا الأسس لاستعادة الثقة بالنظام المالي والمصرفي وتحفيز النشاط الاقتصادي، بانتظار تفعيل الإجراءات والمعالجات المالية اللاحقة.
II ـ الإجراءات على المدى المتوسط:
تراتبية المعالجة التفصيلية للأزمة
يُقرّ جميع فرقاء الأزمة المالية بأن السبب الجذري للأزمة في لبنان يعود إلى الدين العام الناتج عن تراكم العجز في الموازنات العامة على مدار السنوات. كما يتفقون على تراتبية المسؤولية بدءًا بالدولة وصولًا إلى مساهمي المصارف. وبالفعل، كانت الحكومات اللبنانية تموّل العجز من خلال الاقتراض المباشر من السوقين المحلّي والعالمي أو من القطاع المصرفي المحلّي، أو عبر مصرف لبنان الذي كان يسحب السيولة بالعملات الأجنبية من المصارف وبيعها إلى الدولة على سعر صرف ثابت تفرضه الحكومات المتعاقبة، مما أدى إلى استنزاف الاحتياطات الأجنبية التي مصدرها أموال المودعين.
لذلك، يجب أن تبدأ خطة الإصلاح انطلاقًا من معالجة هذا الدين من خلال إعادة هيكلة الدين العام وتحديد حجمه النهائي، وخاصة اليوروبوندز كما القروض بالليرة اللبنانية، وطريقة جدولة دفع هذه الديون.
إن ميزانيات المصارف مثقلة بديون على الدولة وبودائع لدى مصرف لبنان، مما يستدعي معالجة هذه الأصول لتحديد حجم انعكاسها على ميزانية كل مصرف على حدة، وبالتالي تحديد حجم زيادة رأس المال المطلوب ضخّه في كل مصرف. عندها يمكننا تحديد إمكانية المصرف بالاستمرار، وبالتالي دفع أموال المودعين، وإلا دمج المصرف أو تصفيته.
إن إقرار وتنفيذ الخطط الموضوعة سابقًا “لإعادة هيكلة القطاع المصرفي”، قبل البت بمصير ديون الدولة ومعالجة خسائر مصرف لبنان، تشبه إلى حد كبير وضع العربة أمام الخيل، فلا الخيل تستطيع التحرك ولا العربة تتقدَّم.
لذلك على الدولة ممثلة بالسلطات السياسية والنقدية والقضائية أن تتصرّف تصرّف الأب الصالح تجاه المودعين من خلال الاعتراف بالديون وإظهار النية الجدية لدفعها والمباشرة بجدولتها، مما يعيد الثقة بالدولة اللبنانية كمنطلق لاستعادة الثقة بكل القطاعات الاقتصادية.
1 – معالجة الدين العام
ـ وضع خطة لإعادة هيكلة الدين العام تشمل الديون الداخلية والخارجية، وتحديد مستوى الدين النهائي.
ـ التفاوض مع الدائنين المحليين والدوليين (Eurobonds) لإعادة جدولة الديون على فترات طويلة، مع إمكانية تخفيض المبالغ المستحقة في حالات معينة لتخفيف العبء المالي.
ـ تخصيص مبلغ معين في الموازنات السنوية من أجل تسديد الديون.
ـ تقديم نوع من الضمانة للدائنين.
ـ النظر في كافة الوسائل لاستعادة الأموال المهدورة والمنهوبة، من دون ربط ذلك بدفع أموال المودعين، بحيث تأتي هذه الأموال لدعم موازنة الدولة المتضمنة تسديد ديونها وتسديد خسائر مصرف لبنان
2 – إعادة هيكلة مصرف لبنان
يُعتبر مصرف لبنان العنصر الأساسي في استقرار النظام المالي والنقدي في البلاد، لذا يجب معالجة وضعه قبل التعامل مع وضع المصارف.
ـ يجب استكمال التدقيق الشامل لمصرف لبنان لتحديد حجم الخسائر بدقة، بما في ذلك القروض بالليرة والعملات الأجنبية.
ـ التأكيد على التزام الدولة بتسديد خسائر مصرف لبنان بموجب المادة 113 من قانون النقد والتسليف، خصوصًا العجز الناجم عن التمويل غير المنظم أو المفرط، وعن سعر تثبيت الليرة وما سُمّي دعم للمواد الاستهلاكية المنفّذة بقرارات سياسية حكومية.
ـ وضع آلية لتسديد هذه الخسائر عبر تسوية طويلة الأجل، مع ضمان عدم التأثير على أموال المودعين.
ـ وضع إطار قانوني ومالي واضح لإعادة هيكلة مصرف لبنان مع الحفاظ على استقلاليته في تنفيذ السياسة النقدية.
ـ فصل حاكمية مصرف لبنان عن هيئة الأسواق المالية وهيئة التحقيق الخاصة، كما تعزيز إستقلالية لجنة الرقابة على المصارف.
3 – إعادة هيكلة المصارف
بعد معالجة وضع مصرف لبنان يتم الانتقال إلى معالجة وضع المصارف التجارية التي ستحمل جزءًا من الخسائر الناتجة عن الأزمة المالية.
ـ يجب أن تأخذ المصارف في اعتبارها إعادة هيكلة الدين العام وخسائر مصرف لبنان عند تحديد مستوى الخسائر الخاصة بكل مصرف حسب حجم مخاطره، ويجب أن تُعتمد معايير دولية للمحاسبة والشفافية.
ـ تصبح المصارف ملزمة بزيادة رؤوس أموالها لتعويض الخسائر الناتجة عن الأزمة المالية، ويجب أن يتم ذلك من خلال المساهمات التي ترد من كبار المساهمين الكبار. كذلك يجب تعزيز كفاءة العمليات الداخلية للمصارف.
ـ تعزيز سيولة المصارف من خلال إجراءات إصلاحية كالتي وردت في عدة خطط وتعاميم سابقة ولم تُنفّذ حتى الآن (استعادة الودائع المحوّلة إلى مصارف خارجية منذ تشرين الأول 2019 إلخ…).
4 – حماية أموال المودعين
حماية أموال المودعين هي الهدف الأهم في أي خطة إصلاحية. لتحقيق ذلك، يجب إتخاذ خطوات واضحة لضمان حقوق المودعين في المصارف.
ـ تحديد آليات عادلة تضمن إستعادة المودعين لحقوقهم من دون تحمّل خسائر على المدى المتوسط، علمًا بأن تطبيق كل ما ورد أعلاه يحفظ قيمة الودائع ويحميها.
ـ فرض قيود مدروسة على السحوبات والتحويلات من الحسابات مع منح تسهيلات للمودعين ذوي الودائع الصغيرة والمتوسطة.
ـ تأسيس صندوق مستقل وفعّال لحماية أموال المودعين، ليتمكّن من تعويض المودعين في حالات الطوارئ عبر آلية شفافة ومدروسة.
الخلاصة
في خضم الأزمات المتعددة التي يواجهها لبنان، تبرز الحاجة الملحّة إلى رؤية جريئة وشاملة تعيد صياغة مستقبلنا المالي. إن الأزمة المالية والنقدية والمصرفية ليست مجرّد تحدٍ عابر، بل هي فرصة لإعادة بناء الثقة وخلق نظام اقتصادي جديد يرتكز على الشفافية والعدالة. فالحلول التقليدية لم تعد كافية. والمطلوب مقاربة مبتكرة، تتجاوز الحدود المعروفة، وتستفيد من الإبداع اللبناني الذي لطالما كان مصدر فخرنا.
إن استعادة حقوق المودعين وحماية أموالهم ليست مجرّد واجب أخلاقي، بل هي ضرورة اقتصادية ملحّة. علينا أن نعمل بسرعة وبشكل منهجي لاستعادة الثقة في نظامنا المالي… فلنبدأ الآن.
غسان أبو عضل ـ خبير مالي ومصرفي
كتب غسان أبو عضل في “المسيرة” ـ العدد 1761
أزمة مالية ونقدية ومصرفية:
استعادة الثقة بالنظام المالي واجب.. فلنبدأ الآن!
للإشتراك في”المسيرة” Online:
http://www.almassira.com/subscription/signup/index
from Australia: 0415311113 or: [email protected]