جريس الحداد وفخر فخري.. وكان القدر أقوى

حجم الخط

فخر فخري ـ جريس الحدادجريس الحدادفخر فخري

في غروب شمس 31 كانون الثاني من العام 1990، وفي اليوم الأول من تلك الحرب المشؤومة، وقبل حوالي ساعة من استشهاد قائد فرقة الصدم في حزب “القوات اللبنانية”، أكرم القزح، فقدت الفرقة الملازم جريس الحداد والرفيق فخر فخري. كانا يسابقان الزمن لاختراق خطوط العدو والوصول إلى ثكنة القوات للمدرعات المحاصرة في نهر إبراهيم، والتي تُعدّ واحدة من المواقع الاستراتيجية المهمة لتأمين الخط الساحلي، الذي كان مقطوعًا في ذلك الوقت.

في تلك اللحظات، كانت أصوات القصف تعلو في الأفق، والسماء مشتعلة باللهب والدخان.

اشتدت ضراوة المعركة، وأفراد الثكنة المحاصرون يقاتلون بشراسة، بينما أوشكت ذخيرتهم على النفاد وتعذّر وصول الإمدادات. وفي محاولة لفك الحصار، انطلقت مجموعة من فرقة الصدم نحو المواجهة، يتقدمهم جريس الحداد وفخر فخري، عازمين على كسر الطوق عن رفاقهم وإعادة الطريق الساحلي إلى أمانه.

كان جريس مدركًا خطورة المهمة، لكنه لم يتردد. أشار إلى مجموعته بالتقدم، واتخذوا موقعًا على تلة صغيرة تُطلّ على الدبابات التي كانت تحاصر الثكنة. كان يعلم أنهم في مرمى النيران، لكنه ظل ثابتًا، سلاحه مشدود إلى كتفه، وعيونه تراقب كل حركة، يحمي رفاقه بجسده قبل سلاحه، ويدندن أغنية مرحة لرفع المعنويات.

أثناء تمركزهم، كانوا يطلقون النار على الدبابة التي تستهدفهم، في مناورة جريئة تهدف إلى إرباك العدو وإجباره على التراجع. لكن وسط نيران المعركة، أدرك جريس أن موقعهم مكشوف، وأن الموت يقترب منهم بسرعة.

فجأة، وفي لحظة مريبة، انطلقت قذيفة من فوهة الدبابة، وشقّ المعركة صوت مرعب لانفجار مدوٍ قادم من السماء، ذلك “صفير الموت” الذي تسبقه القذائف أثناء سقوطها، ناشرًا الرعب في الأرجاء. وكنيزك مشؤوم، هوت القذيفة نحوهم، وتناثرت الشظايا كالعاصفة، حاملة معها الصخور والتراب. لم يكن هناك وقت للاختباء، وحده القدر كان أسرع من الجميع.

وسط ألسنة اللهب، سقط فخر فخري شهيدًا على الفور، وتعرّض من كان معهم للإصابات، بينما ظلّ جريس الحداد يصارع الموت للحظات معدودة، قائلاً بصوت خافت لمن كان بجانبه: “ساعدني…”، قبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة.

يروي رفاقهما الذين رافقوهما، بحزن شديد، أن جريس أسلم الروح ممددًا على الأرض، غارقًا في دمائه، ويده لا تزال قابضة على سلاحه، وعيناه معلّقتان برفاقه الذين أقسم أن يحميهم. وفي لحظة من الصمت العميق التي ألقت بظلالها على قلوبهم، وبصوت ممزوج بالدمع، تمتموا: “جريس مات”…

ما زاد من وقع استشهاد جريس، أن ذلك اليوم كان يفترض أن يكون يوم هجرته إلى بلاد أكثر أمانًا من لبنان، حيث كان بإمكانه النجاة بعيدًا عن جحيم الحرب. لكن لحظة وداعه لرفاقه، كان يعلم تمامًا المخاطر وأهمية الثكنة المحاصرة، سواء من حيث موقعها الاستراتيجي أو لإنقاذ رفاقه العالقين تحت نيران العدو. لم يسمح لنفسه بالرحيل نحو الأمان بينما كان رفاقه يواجهون الموت عند كل ثانية. وبذلك، اختار الالتحاق بفرقته المحبوبة، فرقة الصدم، ليحمي رفاقه الذين كانوا له رفاق الروح قبل السلاح، ويقدم روحه فداءً لهم.

دُفن جريس في مدافن دير سيّدة إيليج – ميفوق، وسط غياب عائلته التي حالت الظروف الأمنية وانقطاع المواصلات آنذاك دون وداعه الأخير، ليبقى رحيله شاهدًا على قسوة الحرب وألمها.

أما فخر فخري، فقد استشهد بجانب جريس الحداد في نفس الموقع ونفس اللحظة بانفجار القذيفة نفسها. وُلد فخر في بشري في 20 حزيران من العام 1971، في عائلة مكونة من ثلاثة عشر شقيقًا وشقيقة، حيث فقد والدته وهو في الرابعة من عمره، ثم فقد والده في سن الثالثة عشرة، ليجد نفسه في الميتم.

وعلى الرغم من قساوة الظروف والتنمر الذي تعرّض له، لم يتذمر أبدًا، بل كان مثالًا للصبر والإيمان العميق. كان متعبدًا للسيدة العذراء، يردد دائمًا: “مع آلامك، يا يسوع”، مؤمنًا بأن المحن جزء من مسيرته في الحياة.

في أواخر سنته الخامسة عشرة، انضم فخر إلى “القوات اللبنانية” في 10 آذار 1987، لكنه غادرها في السابعة عشرة من عمره رغبةً منه في أن يصبح راهبًا. ومع اشتداد وتيرة الأحداث في لبنان، أدرك أن النضال والدفاع عن الوطن هما دعوته الحقيقية، أسوةً بالقديسين على مرّ الزمن، فترك الدير وقرر العودة سريعًا، والتحق مجددًا بالقوات، حيث تميّز في إحدى دورات التدريب لوحدات الدفاع بشجاعته وتفانيه، لينضم بعدها إلى فرقة الصدم، مقدمًا نموذجًا عن الجندي الذي يقاتل بقلبٍ مؤمن وعزيمة لا تلين. كان شابًا شديد الايمان بدينه وبشوشًا، لا يهاب شيئًا.

خلال تدريباته، كان يتفوق دائمًا في دروسه، وعندما تسنح له الفرصة، كان يذهب إلى مغارته الصغيرة، حيث تمثال السيدة العذراء مريم، ليصلّي بخشوع، غير مكترثٍ بأي شيء حتى ينهي صلاته.

في يوم المعركة، كان فخر، بوجهه الأبيض وشعره الأشقر، راكعًا الى جانب جريس، ثابتًا على الرغم من ضراوة القتال، يطلق النار من سلاحه الـ”بي 7″، الذي يمتاز بارتداده الناري الخلفي العنيف. وسط زخات الرصاص وأزيز القذائف، هَمّ أحد رفاقه بالتحرك لجلب الذخيرة، لكن قذيفة استهدفتهم وسقطت بينهم، لتخطف فخر في لحظة، فيرتقي شهيدًا على الفور.

رحل إلى محبوبته السماوية، تاركًا رفاقه في ذهول ووجع عميق. للحظات، رفضوا تصديق ما حدث، فقد خُيّل إليهم أن ما رأوه لم يكن سوى ارتداد سلاحه. لكن الحقيقة سرعان ما فرضت نفسها، ولا وقت للانهيار وسط المعركة. فبقلوب تنزف ألمًا، استجمعوا قواهم، وأكملوا المهمة بعزيمة لا تلين ونجحوا. أما فخر، فظل حاضرًا في قلوبهم وميادينهم، لأن الروح التي تؤمن لا تُهزم أبدًا.

بفعل الحرب وانقطاع المواصلات والاتصالات، لم يُكتب لفخر أن يُدفن في مسقط رأسه في بشري، إلى جانب أهله، بل وُوري في الثرى في ميفوق، حيث يرقد رفاقه الشهداء. لم تصل أنباء استشهاده إلى عائلته فورًا، وحين بلغهم خبر دفنه هناك، كان وقع الصدمة مدويًا، لكن وسط الحزن العميق، غمرهم شعور بالفخر، لأن ابنهم ارتقى بكرامة، مكللًا بالشهادة.

وعلى الرغم من الألم، ظلوا أبناء الرجاء، مؤمنين بأن فخر لم يرحل، بل صعد شهيدًا، وأن تضحياته ستظل خالدة في قلوبهم وذاكرتهم. ولم يكن ذلك الوداع الأخير، فقد حمل أحد إخوته بندقية فخر، وانضم إلى درب النضال، مستكملاً مسيرة الشرف التي بدأها شقيقه، ليبقى اسمه حيًا في ميادين الكرامة.

في ذلك الغروب، لم يكن استشهاد الملازم جريس الحداد، ابن تل ذنوب، تلك القرية الصغيرة في قلب سهل البقاع الغربي، التي لم يسكنها كما كان يتمنى، عن عمر يناهز 22 عامًا، وفخر فخري، الذي استشهد معه عن عمر 19 عامًا، حدثًا عاديًا. بل كان استشهادهما شهادة ورمزًا للتضحية والوفاء في سبيل حماية رفاقهما في ساحة المعركة، حيث قدما نفسيهما فداءً لقضية الحرية، في طريق نضال طويل.

هؤلاء الشهداء الأبرار قدّموا للقضية معنىً جديدًا، مليئًا بالتضحية والفداء. اختاروا بقلوبهم الطاهرة أن يكونوا حراسًا لكرامة وطنهم، ليصيروا ركيزةً أساسية لبناء وطن يليق بتضحياتهم ودمائهم. وعلى الرغم من مرارة الفقدان وحرمانهم من نظرة الوداع الأخيرة، فإنهم خلّفوا وراءهم إرثًا حيًا لن يمحوه الزمن، وستظل أرواحهم منارة تهدي الأجيال القادمة نحو الطريق الذي رسموه بدمائهم الزكية.​

إقرأ أيضًا

المصدر:
فريق موقع القوات اللبنانية

خبر عاجل