دائماً ما كنت أستغرب عندما أقرأ آية عرس قانا، الاختفاء الكلي للعريس الذي من المفترض أنه هو الشخصية الرئيسية في القصة والذي تتمحور حوله كل تفاصيلها.
فأين العريس ومن هو هذا العريس الذي لم تذكره تلك القصة – الآية التي وردت في إنجيل القديس يوحنا الإنجيلي، وهي الآية الأولى التي صنعها السيد المسيح في قانا الجليل في بداية مسيرته الخلاصية بعد عماده في نهر الأردن، وهي تأتي مباشرة في أحد مدخل الصوم الكبير، كنقطة انطلاق وإعلان واضح للمسيرة التبشيرية الخلاصية التي أتى السيد المسيح من أجلها والتي انتهت بموته على الصليب وقيامته من بين الأموات.
كل ما كتبه التلاميذ في الكتاب المقدس، كُتب بعد أكثر من ثلاثين سنة من قيامة السيد المسيح، وبالتالي، فكل كتاباتهم مبنية على فهمهم الكامل للقيامة، بعد أن عرفوا المسيح القائم من الأموات، بعدها فقط استطاعوا أن يفهموا ما قاله وما فعله أمام أعينهم.
هذه الآية ليست من النوع الروائي أو التأريخي، لأنها تفتقر إلى كل التفاصيل عن العرس والعروس والعريس وأهلهما وعلاقة يسوع ومريم بهما… وهي أيضاً ليست بمعجزة تُصنع أمام غير المؤمنين، وإنما حدثت أمام أعين التلاميذ المؤمنين لتقوّي إيمانهم، وبالتالي يجب أن نفهمها بالمنظار الرمزي اللاهوتي.
يحدّد يوحنا حدوث هذه الآية في اليوم الثالث بعد عماد يسوع في نهر الأردن، في ربط غير مباشر بما قاله يسوع للفريسيين، اهدموا هذا الهيكل وأنا أبنيه في ثلاثة أيام، وفقط بعد القيامة، تمكّن التلاميذ من فهم ما كان يقصده يسوع.
مقابل إهمال ذكر كل ما له علاقة بعرس قانا، حرص يوحنا على ذكر تفاصيل كثيرة مملّة عن الأجران الستة، فهي مصنوعة من الحجارة وتستعمل لتطهير اليهود، وسعة كل واحدة مطرين أو ثلاثة وهي فارغة لا تحتوي شيئاً…
هذه الأجران مخصصة لتطهير اليهود وعددها 6 وهو يرمز إلى النقص(7-1)، وهي ترمز إلى العهد القديم وفارغة لا تستطيع أن تعطي أي خلاص لأي أحد.
ومن منظور يوحنا، فقد اقتربت الأيام المسيحانية ومُلئت الأجران حتى فاضت، لتعطي الخلاص إلى البشر، مقابل القحط الذي عانى منه أبناء العهد القديم، وحلّت عطيّة دم يسوع المسيح الخلاصي، الخمر الجديد، مكان مياه التطهير وعادات وتقاليد اليهود.
أما العرس، فقد استعمل الإنجيلون هذه الكلمة ليرمزوا بها إلى الخيرات الموعودة، فكل الناس مدعوّة للذهاب إلى العرس لتُقيم مع العريس السماوي. فمتّى في بداية الإصحاح 22، يُشبّه ملكوت السماوات بملك صنع عرساً لابنه وأرسل عبيده ليدعوا المدعوّين الى العرس… وفي الإصحاح 25 يتكلم عن العذارى العشر والعرس والعريس، وعرس الحمل في رؤيا 19. فعرس قانا يرمز إلى العرس السماوي، ويسوع هو العريس السماوي.
ما لي ولك يا امرأة؟!!. هل تُعبّر عن قلة احترام يسوع لأمه؟. يقول القديس يوستينوس إن استعمال كلمة امرأة تشبه صورة المرأة في رؤيا 12، حيث نجد أن المرأة التي تلد الطفل ترمز إلى الكنيسة.
كما نجد أيضاً أن يسوع يستعمل كلمة امرأة عند الصليب، في تأكيد للتطابق بين العذراء وبين المرأة التي وردت في التكوين 3 والتي سيسحق نسلها رأس الحية. لذلك لا يمكننا أن نقول إن يسوع قلَّل من احترام أمّه، بل إن لغة يوحنا الرمزية تطابق بين العذراء وبين امرأة التكوين وامرأة الرؤيا.
لم تأتِ ساعتي بعد. ظنّ الكثير من الشرّاح التقليديين أن عبارة لم تأتِ ساعتي بعد، تدلّ على أن هذه الساعة هي ساعة المعجزات. وذهب العديد من الشرّاح المتعبّدين لمريم العذراء للقول بأن مريم قرّبت الساعة، لأن يسوع استجاب لرغبات أمّه مع أن الساعة لم تكن قد أتت بعد.
لكن إنجيل يوحنا بالتحديد يدحض كل هذا، ويوضح ما هو قصد يسوع من قوله لم تأتِ ساعتي بعد. ففي الفصل 7: 30، و8: 20، لم يمسكه أحد لأن ساعته لم تكن قد جاءت بعد. وفي الفصل 12: 23، قد أتت الساعة ليتمجَّد ابن الإنسان. وفي الفصل 12: 27، نجّني من هذه الساعة، لكن لأجل هذا أتيت. وأخيراً في الفصل 13: 01، هو عالم أن ساعته قد جاءت لينتقل من هذا العالم إلى الآب.
إذاً، لم تأتِ الساعة إلا في بداية الفصل 13، حيث يتبين أن الساعة هي الوقت الذي سينتقل فيه إلى الآب السماوي وليست ساعة المعجزات.
لم تكن الساعة قد أتت بعد ليقدِّم يسوع دمه مشرباً للمدعوّين إلى العرس السماوي، كما فعل في العشاء الأخير مع التلاميذ قبل الصلب والفداء، والذي لم يأتِ يوحنا على ذكره نهائياً، لأنه بتحويل يسوع الماء إلى خمر في قانا، انتهى عند يوحنا الزمن القديم والعهد القديم وأدواته ورموزه وأجرانه الناقصة الفارغة المتحجرة، وبدأ زمن العهد الجديد والخليقة الجديدة التي افتُديت بدم المسيح على الصليب ووُهبت الحياة الأبدية، كما يقول القديس بولس في رسالته الى أهل غلاطية، لأنه في المسيح يسوع ليس الختان ينفع شيئاً ولا الغرلة، بل الخليقة الجديدة.