“طوفان الأقصى” أقصى الدولة الفلسطينية

حجم الخط

أثارت خطة الرئيس الأميركي دونالد ترامب حول قطاع غزة والمتعلّقة بترحيل الفلسطينيين من القطاع موجة ردود في العالم تفاوتت بين اللامبالاة والتحذير من قبل البعض والاستهجان والتنديد من قبل البعض الآخر. وتقضي هذه الخطة، وفق الرئيس الأميركي، عزم واشنطن بسط سيطرتها على القطاع بعد إعادة توطين الفلسطينيين في أماكن أخرى، منها مصر والأردن. وتتضمن الخطة، إطلاق تنمية اقتصادية (في القطاع) تهدف إلى توفير عدد غير محدود من الوظائف والمساكن لسكان المنطقة. واعتبر ترامب أن غزة «مكان مليء بالحطام الآيل للسقوط»، وأنه “يمكن تهجير الغزيين إلى أماكن أخرى ليعيشوا بسلام”. تأتي هذه الخطة بعد أكثر من خمسة عشر شهرًا من حرب ضروس مدمّرة خاضتها المنظمات الفلسطينية، وعلى رأسها، حركة “حماس”، في قطاع غزة، و”الحزب” في جنوب لبنان ضد إسرائيل، ضمن سياق عملية القضاء على إسرائيل وإقامة دولة فلسطينية وحماية المسجد الأقصى وعودة اللاجئين الفلسطينيين. وبالتالي، تؤكد الدوافع وحيثيات عملية “طوفان الأقصى” وجود ترابط بينها وبين الخطة الأميركية الجديدة. ما يطرح عدة علامات استفهام متعلّقة بالأبعاد الاستراتيجية للقضية الفلسطينية كما وبحيثيات هذه الخطة وبالقدرة على تنفيذها وما يمكن أن يترتب عليها من تداعيات على الفلسطينيين.

تتطلب الإجابة على كل هذه التساؤلات وضع خطة الرئيس ترامب ضمن إطار القضية الفلسطينية. وهنا لا بدّ من الإشارة الى أن نشأة القضية الفلسطينية مرتبط بشكل أساسي ومحوري بنشأة الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي. وهذا الصراع مرتبط بدوره بهجرة اليهود من أوروبا الى الشرق وإقامة وطنهم القومي على أرض فلسطين. وتعود هذه الهجرة من أوروبا الى أوائل القرن السادس عشر، والتي بدأت بسبب محاكم التفتيش التي أقامها النظام الملكي في إسبانيا لمعاقبة اليهود الذين تحالفوا مع المسلمين خلال اجتياحهم لإسبانيا في القرن الثامن حيث بقيوا حوالى ثمانية قرون. وتزامنت هجرة اليهود الى الشرق مع قيام السلطنة العثمانية التي رحبت بهم ترحيبًا كبيرًا بسبب ما حملوه من أموال وثروات مالية وبشرية، خصوصًا وأنهم، كما المسيحيين، يدفعون الجزية. وقد أدى استقرار اليهود في السلطنة العثمانية الى ارتفاع مداخيلها من الضرائب. وفي تلك الفترة كانت أراضي فلسطين مقسّمة الى ألوية أو سناجق، هي: عجلون، صفد ونابلس، والقدس/أورشليم وغزة. وكان القاطنون في هذه المناطق يُعرفون بالعرب بغض النظر عن انتماءاتهم الدينية والعرقية. وسكن عدد غير قليل من المهاجرين اليهود في تلك الألوية العثمانية، كما سكن البعض منهم في جبل لبنان ابتداءً من القرن السابع عشر، وتحديدًا في منطقة الشوف، حيث لقيوا استقبالاً واسعًا من قبل الدروز.

تسارعت وتيرة الهجرة في أواخر القرن التاسع عشر، خصوصًا وأنه وفي تلك الفترة نشأت منظمة الصهيونية العالمية، والتي بدأت بوضع الخطط والبرامج لإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين. وهكذا، وصلت نسبة اليهود في فلسطين قبل الحرب العالمية الأولى لحوالى 12 في المئة. ويعود في مكان ما تطوّر مسار هجرة اليهود الى السلطنة العثمانية بشكل عام الى تطوّر العلاقات بين بريطانيا والسلطنة العثمانية، خصوصًا بعد تبؤ بنيامين دزرائيل اليهودي رئاسة الوزراء في لندن عام 1874. وأرادت هذه الأخيرة من وراء تحالفها مع بريطانيا والسماح لليهود بالهجرة إليها، كسب أوراق قوة تستطيع استخدامها لمواجهة توسّع النفوذ والتهديد الروسي في القوقاز والبلقان، والتوسّع والتهديد الفرنسي في شمالي إفريقيا وفي لبنان خلال القرن التاسع عشر.

في 2 تشرين الثاني عام 1917، قام وزير الخارجية البريطاني، آرثر بلفور بتوجيه رسالة مفتوحة الى اللورد ليونيل والتر روتشيلد، إحدى الشخصيات اليهودية الثرية في الولايات المتحدة الأميركية، يرد فيها وعدًا من قبل حكومة جلالة الملك البريطانية بإقامة وطن قومي لليهود على أرض فلسطين. أتى هذا الوعد ضمن سياق جيواستراتيجي مهم، متعلّق بالصراع بين الشرق والغرب. فقد شكل التوسّع العثماني في البلقان في أواخر القرن الخامس عشر وأوائل القرن السادس عشر تهديدًا مباشرًا لأوروبا، خصوصًا مع وصول الجيش العثماني الى أبواب مدينة فيينا في وسط أوروبا، والذي تزامن مع تهديد الخطوط التجارية بين أوروبا والشرق الأقصى. لذلك وجدت بريطانيا في دعم المشروع الصهيوني لإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين مصلحة استراتيجية ليس فقط لها وإنما لكل الدول الغربية. وفي هذه الإطار بلورت منظمة الصهيونية برنامجها السياسي والتي رأت فيه أن دولة إسرائيل المزمع إنشاؤها ستكون قاعدة متقدمة للدفاع عن الغرب، وأنها ستلعب دورًا حياديًا لتأمين مصالح الغرب. لكن السؤال يبقى، لماذا فلسطين. أولاً لأنها الأرض التاريخية لليهود حيث أقاموا فيها أول مملكة لهم في القرن العاشر قبل الميلاد. وثانيًا، بسبب وقوع فلسطين في منطقة الساحل الشرقي للمتوسط التي تشكل منطقة حدود بين الشرق والغرب، وحيث تلعب الأقليات التي تسكن فيها دورًا أساسيًا في تثبيت التوازن الاستراتيجي الدولي.

لم يكن وعد بلفور وقتذاك موجهًا ضد السكان العرب تحديدًا في الألوية الفلسطينية، والدليل على ذلك أنه تضمن في نصه أنه “لن يؤتى بعمل من شأنه أن ينتقص من الحقوق المدنية والدينية التي تتمتع بها الطوائف غير اليهودية المقيمة في فلسطين”. بالإضافة الى ذلك، كان اليهود، وكما العرب والبريطانيون والفرنسيون ولاحقًا الأميركيون في جبهة واحدة ضد السلطنة العثمانية وألمانيا. وبعد انتهاء الحرب، وقبل إقرار الانتداب البريطاني على فلسطين في مؤتمر سان ريمو في 25 نيسان 1920، وقّع الأمير فيصل ممثل العرب في مؤتمر الصلح في باريس في كانون الثاني 1919 اتفاقه الشهير مع حاييم وايزمان، رئيس المنظمة الصهيونية، والذي تضمن اعترافًا صريحًا من قبل أحد أبناء شريف مكة وسليل أسرة الرسول في المؤتمر بأحقية إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين. وفي السياق ذاته، تضمنت كل من اتفاقية سيفر (1920) واتفاقية لوزان (1923) الموقعة بين دول الحلفاء المنتصرة من جهة، والسلطنة العثمانية التي انهزمت في هذه الحرب من جهة أخرى، اعترافًا واضحًا وصريحًا من السلطنة بالتخلّي عن أراضي فلسطين للبريطانيين وبالقبول بإقامة وطن قومي لليهود على أرض فلسطين، وذلك في البند 95 من اتفاقية سيفر والبند 94 من اتفاقية لوزان.

لاحقاً، قامت بريطانيا بتقسيم المنطقة التي سيطرت عليها الى ثلاث مناطق: العراق، شرقي الأردن وفلسطين. وتزامن ذلك مع ارتفاع وتيرة هجرة اليهود من الدول الأوروبية، وبدأ هؤلاء ينتظمون في مؤسسات تمثيلية ويجمعون تبرعات من متموّلين يهود كبار مقيمين في الولايات المتحدة الأميركية وأوروبا، ويبنون بنى تحتية لتكون جاهزة لاستقبال أعداد كبيرة من المهاجرين. كما قامت الوكالة اليهودية الدولية ببناء مزارع بهدف توثيق أواصر العلاقات بين اليهود الآتين من دول مختلفة. بالإضافة الى ذلك قاموا بإحياء اللغة اليهودية القديمة، وبدأوا بتعليمها للمهاجرين الجدد لتكون وسيلة التخاطب الأساسية بينهم. لكن في المقابل، كان السكان العرب في فلسطين فقراء ومعدمين، فبدأوا بعمليات بيع واسعة لأراضيهم للمهاجرين اليهود. كما أن السكان العرب في فلسطين عجزوا عن بلورة فكرة قومية تجمعهم، فالإطار الوحيد الذي كان يجمعهم، قبل وضع بريطانيا يدها على المنطقة، كانت السلطنة العثمانية، والتي وبعد أن تخلّت عنهم، لم تعد موجودة. إلا أنه ومع بداية ثلاثينات القرن العشرين، بدأ السكان العرب في فلسطين يُبلورون فكرة الهوية الفلسطينية الموازية للهوية اليهودية. إلا أن هذه الفكرة كانت ضعيفة بسبب الخلافات العقائدية والأيديولوجية بين بعضهم، وتمثّل هذا الخلاف في تحديد الرابط الذي من المفترض أن يكون الجامع الأساسي لهم، فهل تكون فلسطين التي نشأت من خلال قسمة قام بها البريطانيون، أم يكون الدين الإسلامي، وكما كان خلال الحقبة العثمانية الرابط الأساسي؟ إلا أن عدم الحسم في هذا الموضوع، جعل الفلسطينيين يلجأون، وخصوصًا بعد الثورة العربية في فلسطين بين الأعوام 1936 و1939 الى التركيز على الجانب الديني كإطار يجمع الفلسطينيين، وحصل ذلك بفضل الدور المحوري الذي لعبه في تلك الفترة مفتي فلسطين الحاج أمين الحسيني. حاولت بريطانيا استيعاب الغضب العربي، وتحديدًا السنّي في فلسطين والأردن والعراق، عبر وضع قيود صارمة للتخفيف من هجرة اليهود من أوروبا الى فلسطين. لم تؤتِ هذه الإجراءات بنتائج فعلية، لأنه وفي حين أدى ذلك الى انخفاض أعداد المهاجرين اليهود الشرعيين، ارتفعت أعداد المهاجرين اليهود غير الشرعيين، إذ دخلت أعداد منهم من لبنان الى فلسطين، عبر شبكات تهريب ضمت مسيحيين ودروزًا وشيعة في منطقة جنوب لبنان.

ومما زاد من خطورة العامل الديني على القضية الفلسطينية ارتباط الحاج أمين الحسيني سياسيًا وعقائديًا بالزعيم الألماني أدولف هتلر، خصوصًا في ما يتعلّق بمسار القضاء على اليهود في العالم. فشكل هنا المسار الذي أخذه الفلسطينيون تهديدًا استراتيجيًا ليس فقط لمصلحة الدولة اليهودية المزمع إنشاؤها وإنما أيضًا تهديدًا للدول الغربية، وتحديدًا بريطانيا والولايات المتحدة الأميركية، كما شكّل هذا المسار تهديدًا وقتذاك للاتحاد السوفياتي. نتج عن ذلك ترسّخ واضح في الغرب بفكرة دعم قيام الدولة اليهودية والدفاع عنها بشتى الوسائل، ومما زاد من هذا الاقتناع الغربي ما كشفته نهاية الحرب العالمية الثانية من فظائع النظام النازي ضد اليهود. فباتت دولة إسرائيل جزءً أساسيًا من المصالح الاستراتيجية للدول الكبرى، وأي تهديد لهذه الدول يُعتبر تهديدًا جماعيًا لكل تلك الدول.

في المقابل، حاولت الدول الكبرى إيجاد نوع من التوازن مع العرب بدايةً ومن ثم مع الفلسطينيين، إلا أن كل هذه المحاولات باءت بالفشل. فنجح البريطانيون في منح الأمير فيصل حكم العراق وشقيقه الأمير عبدالله حكم الأردن. كما وقعوا مجموعة معاهدات دفاع مع أمراء الكويت والبحرين، وقطر، وسلطنة عمان، وغيرها. أما مع الفلسطينيين، فعمل البريطانيون على مشروع تقسيم فلسطين الى دولتين ووضع مدينة أورشليم/القدس تحت وصاية دولية. وفي هذا الإطار صدر القرار الدولي الشهير 181 في العام 1947، حيث حصل الفلسطينيون على حوالى 49 في المئة من أراضي فلسطين التاريخية. إلا أن العرب رفضوا قرار التقسيم هذا، كما رفضوا إعلان دولة فلسطين على هذا الجزء الذي خُصص للعرب من فلسطين. في المقابل أعلن اليهود في أيار 1948 دولتهم على الجزء الذي منحهم إياه القرار الدولي 181 كما على بعض الأقسام الممنوحة للفلسطينيين. أمام إعلان اليهود لدولتهم ورفض العرب إعلان دولة فلسطين، اعتبرت بعض الدول العربية، وتحديدًا المحيطة بإسرائيل، كالأردن ومصر وسوريا، أن الحل الوحيد للقضية الفلسطينية هو إزالة إسرائيل. لكن من دون العمل على إقامة دولة فلسطينية، لأن هذه الدول، وكما ظهر خلال الحرب التي أعلنتها في 1948 ضد إسرائيل، هدفها الأساسي هو السيطرة على أكبر قدر ممكن من الأراضي الفلسطينية لضمها الى أراضيها. فاعتبرت سوريا أن فلسطين كانت دومًا الجزء الجنوبي لسوريا، وعلى هذا الجزء أن يعود الى الدولة السورية التي أنشأها الانتداب الفرنسي عام 1926. في المقابل، اعتبر ملك الأردن، عبدالله الأول، وبحكم كونه ابن الحسين، شريف مكة، أنه يملك الشرعية الضرورية للسيطرة على فلسطين وتحديدًا على مدينة أورشليم/القدس. ومن جهة أخرى اعتبر النظام الملكي في مصر أن إمكانية توسّع كل من سوريا والأردن في فلسطين يؤدي الى تهديد استمرارية النظام الملكي. وفي هذا الإطار عملت مصر على الحيلولة دون تمكّن الأردن من السيطرة على أراض شاسعة في فلسطين، فقامت وبالاتفاق مع إسرائيل، بالانسحاب من صحراء النقب ومن ثم من الحرب لتمكين إسرائيل من السيطرة على النقب. بعد ذلك، لم تتخلَّ هذه الدول العربية عن تحقيق هذه الأهداف غير المعلنة لا في حرب 1967 ولا في حرب 1973. وكنتيجة لذلك، نجحت إسرائيل في توسيع سيطرتها أكثر فأكثر على الأراضي الفلسطينية. ولم يكن أمام هذه الدول، كما العراق وليبيا، من أفق لتبرير هذا الفشل سوى بتثبيت دعائم أنظمة استبدادية وشمولية ورجعية، أغرقت شعوبها في مزيد من التخلّف والجهل.

وبعد حرب 1967، حصل، وبنتيجة ضغوط كبيرة مورست على الدول العربية المحيطة بإسرائيل، تنازل لمنظمة التحرير الفلسطينية لتمثيل الشعب الفلسطيني. إلا أن هذه الدول، وكما أيضًا كل من العراق وليبيا، لم تترك الفلسطينيين وحدهم وشأنهم، بل دأبت ومنذ 1967 على استغلالهم وإخضاعهم وتحويلهم الى مرتزقة، يعملون على تأمين مصالح هذه الدول والتي كانت متمثلة وقتذاك بتهديد وابتزاز بقية الأنظمة العربية بهدف الحصول على مزيد من الزعامة والسلطة والنفوذ في العالم العربي. تزامن ذلك مع تحوّل الخطاب المتعلّق بفلسطين والفلسطينيين وقضيتهم الى أكثر الخطابات شعبوية في الشارع العربي، وباتت عملية نظم الأشعار والإكثار من المفردات في هذا الخطاب وسيلة للسيطرة على الشعوب العربية والتحكّم بها وبعقولها. وباتت هذه الشعوب تحركها العواطف الجياشة، أكثر من العقل واستخدام النقد العلمي البنّاء. وبات أقصى طموح الشعوب العربية في هذه الدول من مصر وسوريا وليبيا والعراق، والتي تفتقد لأدنى مقوّمات الحياة، توجيه صاروخ ضد إسرائيل يُحدث حفرة في بقعة الأرض التي يقع فيها.

وفي سياق عمل بعض المنظمات الفلسطينية كمرتزقة لدول خارجية، يأتي استخدام إيران لحركة “حماس” و”الجهاد الإسلامي” في قطاع غزة. فمن الناحية العقائدية، تعترف حركة “حماس”، ووفق الورقة التأسيسية لها والصادرة في العام 1988، أن حلّ القضية الفلسطينية يكون بإزالة دولة إسرائيل وإقامة حكم إسلامي في فلسطين يخضع له السكان اليهود كما المسيحيين. ولتحقيق هذا الهدف لا سبيل سوى بالجهاد العسكري وقتال اليهود حتى الموت. ووفق هذه العقيدة التي تبنّتها حركة “حماس”، فكيفما كان اتجاه المعركة فإن النصر حليف المقاتلين، لأن الذي يُقتل يتحوّل الى شهيد ويربح الجنة، والذي لا يُقتل يكون قد ساهم في عملية إزالة إسرائيل. أما من الناحية الجيوالاستراتيجية، يقع قطاع غزة على مفترق طرق تجاري مهم، كما أنه كان ومنذ الألف الثاني قبل الميلاد محط أطماع الدول الكبرى في الشرق الأوسط القديم، من مصر الفرعونية، الى الأشوريين فالبابليين ومن ثم الفرس ولاحقًا العرب. بالإضافة الى ذلك، يرى النظام الإيراني في دعمه لحركات جهادية سنيّة وسيلة تسمح لولي الفقيه بالظهور كزعيم إسلامي في العالم العربي وليس فقط كزعيم شيعي. ومن منطلق هذه العلاقة بين إيران والمنظمات الفلسطينية في قطاع غزة، لا يمكن ولا بأي شكل من الإشكال تفسير عملية “طوفان الأقصى” التي أعلنتها الأدوات الإيرانية في قطاع غزة في 7 تشرين الأول 2023 خارج إطار الحرب بالوكالة عن النظام الإيراني ضد إسرائيل، بهدف ابتزاز الغرب. ونظرًا لأن هذه العملية كانت بمثابة أكبر هجوم يتعرّض له اليهود بعد محارق الحرب العالمية الثانية، فإنها اعتُبرت تهديدًا ليس فقط لغالبية الدول الغربية، بل وايضًا للتوازن الدولي ودور الأقليات في هذا التوازن في أكثر المناطق استراتيجية في العالم، أي منطقة الساحل الشرقي للمتوسط. فهذه الأخيرة هي عبارة عن منطقة صراعات بالوكالة un champs de bataille par procuration. لذلك، تبيّن من مسار الحرب بين إسرائيل والأدوات الإيرانية، حصول إسرائيل على موافقة ضمنية، غربية وعربية، لإنهاء هذه المنظمات بهدف القضاء على النفوذ الإيراني في الشرق الأوسط. فنتج عن ذلك تدمير كامل لقطاع غزة حيث باتت الحياة فيه شبه مستحيلة.

في هذا الإطار تأتي خطة الرئيس الأميركي دونالد ترامب، والتي تقضي بنقل سكان غزة الى مكان أكثر أمنًا بهدف إعادة إعمار القطاع وتحويله لاحقًا الى “ريفييرا على المتوسط”، من دون السماح لسكانه بالعودة إليه، والهدف من ذلك تأمين حياة أفضل للفلسطينيين وتحقيق السلام في الشرق الأوسط. وبذلك تكون دوافع وعملية ونتائج عملية “طوفان الأقصى” قد قضت على المعادلة التي وضعها العرب والتي تقول بإن إقامة دولة فلسطينية تؤدي الى إحلال السلام. أما اليوم، فباتت المعادلة الجديدة تقوم على أن السلام يمكن تحقيقه من دون إقامة دولة فلسطينية. والوصول الى هذه المعادلة ما رده الى أن العالم الغربي، وتحديدًا الولايات المتحدة الأميركية، لم تعد مقتنعة بجدية الفلسطينيين بإقامة دولة مستقلة لهم لا تكون أداة طيّعة في يد أي نظام أكان ولي الفقيه اليوم أو أي نظام آخر غدًا، لإن هكذا دولة أداة proxy State ستشكّل تهديدًا أكبر للمصالح الغربية، والتي من ضمنها أمن إسرائيل وسلامتها. لذلك، فإن مواجهة هذه الخطة تتطلّب إجماعًا عربيًا واسعًا يبدأ بالاعتراف بأخطاء الماضي، والتي من ضمنها عدم السماح للفلسطينيين بتكوين هوية وطنية لهم بعيدة عن العنصر الديني المتشدد، ومن ثم بالتشديد على إستقلالية قرار الشعب الفلسطيني والتوقف الفوري عن استخدام الفلسطينيين كمرتزقة لدى الأنظمة العربية والإسلامية. إلا أن السؤال يبقى، هل ينجح العرب، وكذلك الفلسطينيون، وفي مهلة قصيرة جدًا، في إعادة كسب ثقة الغرب عبر التحرّر من الأفكار الدينية المتشددة والتوقف عن تهديد الغرب ومصالحه؟

 

كتب د. مارك م. أبو عبدالله في “المسيرة” ـ العدد 1761​

أستاذ جامعي وباحث في تاريخ الشرق الأوسط في جامعة Illinois في الولايات المتحدة الأميركية

“طوفان الأقصى” أقصى الدولة الفلسطينية

السلام المنشود خارج أطر الأنظمة المتشددة

إقرأ أيضًا

للإشتراك في “المسيرة” Online:

http://www.almassira.com/subscription/signup/index

from Australia: 0415311113 or: [email protected]​​​​​​​​​​​​​​

المصدر:
المسيرة

خبر عاجل