اشار منسق الامانة العامة لـ”14 آذار” النائب السابق فارس سعيد الى ان المسيحيين ينظرون بعين القلق إلى ما يجري من حولهم من أحداث، وينشغلون أفراداً وجماعات في تقدير الإحتمالات، يطرحون الأسئلة الصعبة على أنفسهم والتي تلخّص بالسؤال التالي: هل هناك إمكانية للحفاظ على المسيحيين في المنطقة في مرحلةٍ محفوفة بالمخاطر والتي ذهبت بعيداً في اتجاه الاستقطاب المذهبي الذي فُرِضَ بالقوة من إيران حتى شواطئ المتوسط، شاملاً العراق وسوريا، مروراً بالخليج ووصولاً إلى اليمن؟
واضاف، في كلمة له خلال ندوة سياسية نظمتها “القوات اللبنانية” – البترون: “ليست المرة الأولى التي تفرض فيها الظروف على المسيحيين التفكير مليّا بالخيارات التي ينبغي اعتمادها لحماية وجودهم ودورهم ومصالحهم في المنطقة”.
اعتبر ان “التحدّي المطروح اليوم أمامنا قد يكون تطوير النظام اللبناني القائم، بمرتكزاته الأساسية، إنطلاقاً من الطائف وتأسيساً عليه في اتجاه الحفاظ على ضمانات الطوائف إنما مع التركيز على حقوق المواطن أيضاً.
في ما يأتي كلمة سعيد كاملة:
“ينظر المسيحيون بعين القلق إلى ما يجري من حولهم من أحداث، وينشغلون أفراداً وجماعات في تقدير الإحتمالات، يطرحون الأسئلة الصعبة على أنفسهم والتي ألخّصُها بالسؤال التالي: هل هناك إمكانية للحفاظ على المسيحيين في المنطقة في مرحلةٍ محفوفة بالمخاطر والتي ذهبت بعيداً في اتجاه الاستقطاب المذهبي الذي فُرِضَ بالقوة من إيران حتى شواطىء المتوسط، شاملاً العراق وسوريا، مروراً بالخليج ووصولاً إلى اليمن؟
ليست المرة الأولى التي تفرض فيها الظروف على المسيحيين التفكير مليّا بالخيارات التي ينبغي اعتمادها لحماية وجودهم ودورهم ومصالحهم في المنطقة؛
في العام 1920، قرّروا الدفاع عن فكرة “لبنان الكبير” المرتكز على العيش المشترك الاسلامي- المسيحي، ورفضوا السير في اتجاه إقامة دولة مسيحية تكون بمثابة وطنٍ ملجأٍ لهم ولمسيحيي العالم العربي. إتّخذ القرار نخبة من المسيحيين المؤسسين لدولة لبنان الحديث الذين شكّلوا الأجيال الأولى للجامعيين الموارنة. أما الفضل الأكبر لهذا القرار فيعود للكنيسة المارونية بقيادة البطريرك الياس الحويّك، إبن منطقتكم العريقة، إبن حلتا.
البطريرك الحويّك إتّخذ قراره في ظروفٍ معقّدة جداً، تراكمت فيها المتغيرات الكبرى التي تلخّصت بالنقاط الآتية:
إنهيار الإمبراطورية العثمانية؛
قيام الثورة البولشيفية في روسيا؛
وعد بلفور؛
إنتقال ألمانيا من المَلَكية إلى الجمهورية؛
وضع اليد من فرنسا وبريطانيا على المنطقة.
كل هذه الأحداث الدولية حصلت ما بين الـ 1917 والـ 1920. خلال 3 ثلاث سنوات فرضت الظروف على المسيحيين ضرورة اعتماد خيار سياسي يضمن لهم مستقبلاً في منطقة وُضِعت على طريق التغيير. فاختاروا الدولة المدنية الوطنية التي ينتسب إليها الفرد من موقعه الوطني وليس من موقعه الطائفي أو المذهبي أو العرقي.”
وتابع قائلا: “لقد ناقضوا من خلال هذا الخيار النموذج الصهيوني في المنطقة. هو الذي كان يبحث عن وطنٍ منذ نهاية القرن التاسع عشر يكون ملجأ ليهود العالم، فاعتمد على “وعد بلفور” ومأساة الهولوكوست كي يؤسس دولة إسرائيل التي بعد حوالى 70 عاماً إضطرت لبناء حائط إسمنتي، يرمز إلى الفصل العرقي والثقافي والسياسي والإجتماعي بينها وبين المنطقة. وتوصلوا – اليهود – إلى حدّ طرح تهويد دولتهم بخطابٍ سياسي داخلي تجاوز حدود خطاب “بن غوريون” التأسيسي لدولة اسرائيل.
إن الدولة الوطنية التي ناضل من أجلها الموارنة – وإذا أردنا الدقّة نقول: التي ناضل من أجلها “تيار الشرعية التاريخية في الوسط المسيحي اللبناني”. فلا المسيحيون ولا الموارنة كانوا كتلة واحدة متراصّة خلف خيارات ثقافية وسياسية موحّدة – نقول أن تلك الدولة الوطنية لم تبنِ حائطاً ثقافياً بينها وبين المنطقة، بل فاخرت ببناء مجتمع لبناني متنوّع صمد في مرحلة الديكتاتوريات العربية وفي وجه محاولات الطوائف وضع يدها على كل لبنان. فحاول الجميع من دون استثناء وفشلوا جميعهم، كما يفشل اليوم “حزب الله” وهو يمثّل آخر محاولة!
الدولة الوطنية التي دافع عنها خطّ الشرعية التاريخية في الوسط المسيحي، أكّدت على إمكانية العيش موحّدين رغم اختلافاتنا الدينية والثقافية، وأسست لثقافة جديدة لإدارة المجتمعات المتنوعة والتي وصفها البعض في مرحلة “اليسار” وقيام الدول العلمانية، بأنها رجعية، لكن سرعان ما اكتشف العالم، واليوم يكتشف العالم العربي، أهمية هذه التجربة الفريدة. وقد تكون، إذا ما أحسن اللبنانيون تقديمها، نموذجاً لحل أزمة المنطقة.
كان بالتأكيد للدولة الوطنية اللبنانية نقاط ضعف بنيوية تمثّلت خاصةً بتحكّم الطوائف بقرار الدولة، ما أعاق تقدمها وحوّلها إلى مساحة مشتركة لتقاسم النفوذ الطائفي داخلها، وغاب عنها مبدأ الدفاع عن الفرد- المواطن.”
واعتبر ان “التحدّي المطروح اليوم أمامنا قد يكون تطوير النظام اللبناني القائم، بمرتكزاته الأساسية، إنطلاقاً من الطائف وتأسيساً عليه في اتجاه الحفاظ على ضمانات الطوائف إنما مع التركيز على حقوق المواطن أيضاً.
بالعودة إلى يومنا هذا – تفرض الأحداث نفسها علينا جميعاً، ما يدعونا مجدداً للتفكير في خيارٍ يكون بمستوى الخيار السابق الذي جعل من لبنان بلداً مميزاً لمدة قرنٍ من الزمن تقريباً ملخصا “المتغيرات الكبرى” اليوم بالنقاط التالية:
بلورة نظام عالمي جديد بزعامة الولايات المتحدة يرتكز على نظام اقتصادي ومالي وسياسي وعسكري وقضائي في إطار عولمةٍ متسارعة. كما يعيش العالم اليوم ثورة اتصالات وتواصل غير مسبوقة تجعل منه قرية صغيرة على شبكات التواصل الإجتماعي.
إنهيار النظام العربي القديم الذي أعقب مرحلة الإنتدابات الغربية، ثم نشوء دولة اسرائيل، والذي تميّز بقيام أنظمة إستبدادية عسكرية حاربت شعوبها بجدارة وحاربت اسرائيل بأشكال ملتبسة، مع احترامي لتضحيات الجيوش العربية.
بروز تيارات إسلامية متطرفة، تتراوح ما بين قيام دولة ولاية الفقيه ودولة الخلافة، مما شوّه صورة المنطقة وساهم في بروز تيار معادٍ للإسلام في الغرب أو ما يسمى بـ”الإسلاموفوبيا”، وبروز تيار آخر تكلّم عنه البابا فرنسيس خلال زيارته إلى تركيا مؤخراً، “الكريستيانوفوبيا” – وهو تيار معادٍ للمسيحية بوصفها حاضنة للنظام العالمي المعادي لقضايا العرب والمسلمين العادلة، مثل قضية فلسطين وقضية الشعب السوري.
دخول الإسلام كمكوّن إجتماعي وسياسي وانتخابي إلى أوروبا، وهو عاملٌ مؤثّر على ديموقراطيات الغرب. وقد بدأت معالمه تبرز مع الإعتراف المتكرر لدولة فلسطين من قبل البرلمانات الأوروبية بهدف تبريد العلاقات مع مسلمي أوروبا.
بروز تيار مدني تجلّى في تونس ومصر وسيبرز في سوريا والعراق وبلدانٍ أخرى.
محاولة قوى إقليمية غير عربية التحكّم بقرار المنطقة: اسرائيل- التي تدّعي احتكار الديموقراطية في المنطقة وتحاول أن تكون امتداداً للغرب في أرض الشرق، تركيا- التي تقدّم نفسها قوة إقليمية إسلامية قادرة على التفاعل مع العرب وفي الوقت نفسه قادرة على التفاعل مع النظام العالمي الجديد، وايران- التي تمددت بنفوذها حتى وصلت إلى البحر في غزة وبيروت مروراً بعواصم اليمن والعراق وسوريا.
محاولة روسيا الدخول إلى المنطقة من باب الكنيسة الأورثودكسية التي تحاول التمايز عن كنيسة الغرب بوصفها مشرقية وقادرة على التفاعل مع الإسلام ومدافعة عن الأقليات في المنطقة.
محاولة المملكة العربية السعودية ومجلس التعاون الخليجي الحفاظ على نظام المصلحة العربية بحيث لا يتحول العالم العربي الى ضواحي قوى اقليمية غير عربية.
عودة الكلام عن مسألة الأقليات في المنطقة. من مسيحيين ويهود وأيزيديين وعلويين ودروز وشيعة وغيرهم، والذين بغالبيتهم ينظرون إلى أحداث المنطقة بعين القلق، ويبحثون عن أشكالٍ مختلفة من الحماية. فهناك من يطرح “تحالف الأقليات” وهناك من حاول استجداء حماياتٍ أجنبية.
“داعش” وتوابعها، والتي أسقطت الحدود المرسومة بين الدول وفرضت معادلة العنف مقابل العنف و”الخلافة” في مواجهة “الولاية والدولة” معاً.
ومن الصعب جداً تحديد هوية هذا التنظيم أو معرفة مصادر نفوذه، لكنه فرض واقعاً وجنّد الشباب من كل أنحاء العالم وفرض “ثورة إسلامية عالمية” تحتاج محاربتها إلى كثير من الدقة والمعرفة والرصانة.”
وختم طارحا “السؤال الذي يطرح نفسه لدى المسيحيين عموماً والموارنة خصوصاً: ما هو الخيار الذي ينبغي اعتماده والدفاع عنه؟ لأن المتغيرات الكبرى لا تهادن المجتمعات المترددة والكيانات المفككة.
باعتقادي أن الخيار هو الدولة الوطنية المدنية المتحررة من القيود الطائفية:
– دولة ترتكز على نظامٍ مرن يحفظ ضمانات الطوائف من خلال مجلس شيوخ منتخب على قاعدة طائفية ومجلس نيابي محرر منها.
– دولة تعطي العيش المشترك وقبول الآخر المختلف بعداً إنسانياً يتناسب مع مصالح الشعوب التي تبحث عن مستقبل أفضل، فلا إمكانية لسوريا الغد أو عراق الغد أو أي دولة في المنطقة تتّسم بتكوين تعدّدي أن تقوم على قاعدة تسلّط طائفة على حساب طوائف أخرى.
– دولة تصون لبنان المعنى والدور والرسالة، ولكنها تلتزم في الوقت نفسه القضايا العادلة للمنطقة.
هذا في نظري الخيار الذي ينتمي للمستقبل، والذي يستحق أن ندافع عنه جميعاً.”