تزوج مارون بدر خلال الحرب وتابع قتاله على الجبهات وخضع لدورات التأهيل، ولكن أقسى التجارب التي عاشها كانت بعد أسره في خلال حرب الإلغاء على جبهة القليعات. ولكنه بعد خروجه من الأسر عاد الى متابعة نضاله في “القوات”. وبعد انتهاء الحرب وتسليم السلاح بقي في قلب هذا النضال.
يتابع مارون بدر رواية النضال في هذا الجزء وينبش من خبايا ذاكرته فصولاً ويترك الكثير الكثير لحناياها وللتاريخ، ويقول: “حين جاء دور الثكنة التي كنت فيها ضابطاً للعمليات، ولما لم يذهب كامل العديد إلى التأهيل بتاريخه، كلّفت بقيادة مجموعة جبهة واستلام محور الطبية. اشتُهِرَ هذا المحور بسخونته الدائمة مثله مثل محور جبهة البرجاوي – راس النبع، قليلة كانت أيام الراحة وكثيرة ومتعبة جدّاً ساعات الحذر الشديد. كانت المسافات الفاصلة بيننا وبين الجيش السوري لا تتعدى عرض الطريق، يفصل بيننا ساتر ترابي، كنا نسمعهم ويسمعوننا بوضوح تام وكنا نخاطبهم ويخاطبوننا”.
تلك الأيام حفرت في ذاكرة المقاتلين مشاهد لا تُمحى بعضها جميلة ومضحكة وأخرى صعبة ومريرة، وعن الذكريات المضحكة التي لا يزال مارون يتذكّرها تلك المتعلّقة بمباريات كأس العالم في كرة القدم. وعنها يقول: “على الرغم من عداوتنا للجيش السوري كنا في بعض الأوقات نتّفق معه على وقف إطلاق النار وذلك بهدف إتاحة المجال للمقاتلين لحضور إحدى المباريات في كأس العالم لكرة القدم. أما المضحك في الموضوع أننا وكتيبة الأسد كنا نشجّع الفريق نفسه؛ في أوقات الحرب نطلق الرصاص على بعضنا البعض بجنون أما حين تبدأ المباراة فلا نسمع طلقة واحدة”.
كان مارون يؤمن بقدسية العائلة المسيحية وعلى الرغم من التزامه بالعمل العسكري والخطر الذي يهدّد حياة المقاتلين قرّر الزواج، ويلفت ” لم تكن زوجتي من الرفيقات لكنها كانت تؤيّد القضية. أذكر أنه يوم عرسي في 14-4-1983 كان من الأيام القليلة جدّاً التي ارتديت فيها لباساً مدنياً بدل اللباس العسكري حتى أنّ الكثير من رفاقي كانوا يقولون لي “مش رح نصدق إنو رح تلبس بدلة مدنية حتى نشوفك بالأكليل”. يوم تزوجت كانت الحرب في أوجّها وقد اعتادت زوجتي حياة الملاجئ، لم تكن تغادر الملجأ حتى عندما أصبحت حاملاً وكنت أوصيها بأن تبقى متيقظة وحذرة”.
لطالما كان مارون يغيب عن منزله وذلك بسبب تواجده على الجبهات بمهمات تتطلب وقتاً، “كان منزلنا في عين الرمانة التي كانت تشهد أشرس المعارك، لكننا في ما بعد انتقلنا إلى كسروان، وعلى الرغم من تغيير مكان سكننا ظلت زوجتي تشكو من غيابي بسبب مهماتي العديدة والمتلاحقة. ولطالما كانت تلاحقني بسؤال واحد “ماذا لو حصل ما لا نتمنى حصوله؟” وكنت في كلّ مرة أغيّر الموضوع”.
قبل وقوع حرب الإلغاء بفترة قصيرة تنبأت زوجة مارون بوقوع أمر ما مخيف، شعرت بشيء غير عادي، حاولت عدّة مرّات أن تثني زوجها عن الالتحاق بالجبهات لكن الواجب كان يناديه والإلتزام بالقضية يمنعه عن التخلي عن رفاقه.
عند الموعد المحدد لإلتحاق مارون والشباب بدورة التأهيل كان قد استكمل كل الأوراق والإفادات والإثباتات لرتبه ومسؤولياته والجبهات التي شارك فيها، ويشرح: “التحقت أسوة برفاق لي لمتابعة دورة تأهيل ضابط مشاة، وإثر إنتهاء دورة التأهيل إندلعت حرب الإلغاء فكانت مجموعتي آنذاك تنفذ ما يعرف عسكرياً بالقتال التأخيري وكان الجيش وقتها يتقدّم بشكل مفاجئ على محور داريا – القليعات بكامل مدرعاته وعديد اللواء والدبابات يرافقه غطاء مدفعي كثيف”.
كانت مهمة مارون والمجموعة تقضي بتأخير الهجوم حتى وصول الوحدات الخاصة التابعة للواء الدفاع وكانت هذه السرايا مكلّفة بتنفيذ مهام دفاعية وهجومية اكبر بكثير من حجمها وعددها إلّا أنّها نجحت بذلك.
ويتابع: “فور خروجنا من القليعات نزولاً باتجاه مطاعم الرومية فاجأتنا دبابات وملالات الجيش اللبناني المتقدمة بنار كثيفة فانتشرنا بسرعة قياسية تحاشياً لوقوع الإصابات في صفوفنا، من حسن حظي أنّ الموقع الذي لجأت إليه كان ممتازاً للقتال، لكن الإنسحاب منه كان مستحيلاً إلا من خلال سلوك الطريق نفسها والعودة إلى مظلة نيران الهجوم. لم يكن احد منا يحمل ذخيرة لسلاحه الفردي بسبب مناورة الأمن التي سبقت الحرب، وفيها طُلب منا عدم التقنين بإطلاق النار لإنجاح المناورة على أن يُعاد تزويدنا بالذخيرة في ما بعد، لكن الحرب سبقت التزود بالذخيرة. الصدفة وحدها وضعت بتصرفي قاذفة B7 و3 قذائف، قاتلت بها من الساعة ال12:30 ظهراً حتى الساعة الثالثة بعد الظهر. نفذ الجيش اللبناني عملية وتمكنوا من أسري في طريق انسحابهم السريع”.
في تلك اللحظة لم يكن يملك مارون سوى صلاة صادقة إلى الله، صلّى كما لم يصلِّ من قبل وطلب من الله أن يُبعد الخطر عنه.
حاولت زوجة مارون زيارته خلال فترة الأسر، ويشرح “كانت عائلتي تتكبد في الكثير من المرات عناء الوصول إلى زيارتي إذ إنّهم كانوا يسلكون طريقا طويلة من كسروان إلى بشري فدير الأحمر وضهر البيدر وصولاً إلى وزارة الدفاع، وفي بعض الأحيان من طريق كفردبيان إلى البقاع فوزارة الدفاع وذلك خوفاً من اعتقالهم أو مضايقتهم على الحواجز الممتدة على الطرقات. كنت أشتاق كثيراً لأولادي لم تمرّ ثانية خلال فترة اعتقالي إلّا وكنت أفكر بهم. وعلى رغم ذلك كنت أطلب من زوجتي عدم إحضارهم إلى السجن رحمة بهم من طول الطريق والخطر المحدق بهم ولكي لا يرونني مسجوناً”.
عدة أشهر بقي مارون أسيرًا قبل أن يطلق سراحه مع عدد من رفاقه في “القوات”. “تقرر إيصالنا إلى تقاطع البويك – سامي الصلح ومن هناك كل يدبر نفسه” يشرح مارون ويتابع: “سرنا في المقدمة داوود الحويك وأنا، كان الوقت ليلاً والرؤية شبه معدومة، كان الخطّ الفاصل مع الأشرفية جبهة فيها مقاتلون وحراسة وألغام، كنا نتناقش بالطريقة الأفضل لتأمين إتصال مع رفاقنا فتوقف داوود وقال لي “مارون إنت متزوج ولديك أطفال أما أنا فأعزب ولا أحد على مسؤوليتي، إذا حصل خطأ ما كإنفجار لغم أو إطلاق رصاص من الأفضل أن أتلقاها أنا”، ثم تقدّم مسرعاً رغماً عني وحقق الاتصال المطلوب وناديت على الباقين ووصلنا إلى برّ الأمان. كانت فرحتنا كبيرة لا توصف، عناق الرفاق كان حارًا والاحتفال بعودتنا أنسانا جحيم أشهر الأسر في لحظات؛ من حي السريان إنتقلنا إلى ثكنة الأشرفية ثم بحراً إلى كسروان فذهب كل منا إلى عائلته ومنزله”.
لم تمرّ ثلاثة أيام حتى التحق مارون بكتيبة الـ63 التي كان مركزها في سن الفيل وبقي فيها حتى انسحاب “القوّات اللبنانية” من بيروت.
بقي مارون فترة طويلة لم يرَ فيها أولاده لكن بعد خروجه من الأسر وقبل انضمامه إلى ثكنته مجدداً حصل لقاء مؤثر جدّاً في مركز سلاح البحرية في جونية، وعنه يخبر: “تواصلت مع عائلتي فور خروجي من السجن وطلبت منهم لقائي في مركز سلاح البحرية كانت ابنتي الكبيرة تبلغ من العمر ست سنوات لم أصدق عينيّ عند رؤيتهم، غمرتهم بلهفة وبكيت من شدّة فرحي واشتياقي لهم، لا تزال ابنتي تذكرني بهذا اللقاء وتضحك كل مرة تخبرني فيها كيف كنت أبكي”.
بقي مارون في صفوف “القوّات اللبنانية” حتى حلّ الحزب، المقاومة لم نتنهِ هنا لكنها اتخذت شكلاً آخر وطعماً أكثر قساوة فالمقاومة في البدلة العسكرية تختلف كلّياً عن تلك التي نعيشها في الحياة المدنية. يستذكر مارون “حاولت مثل الكثير من الرفاق أن أبحث عن وظيفة لكن في كل مرة يسألون عن عملي السابق وكان الإنتماء إلى “القوّات اللبنانية” يطيح بكل المؤهلات والاستحقاقات. كان يكفي أن نقول أننا كنا من المقاتلين لنصبح غير مؤهّلين لوظيفة مدنية، شعرت بعدم إخلاص المجتمع لتضحياتنا وباللوم في نظراتهم التي تحمّلنا مسؤولية كل ما حصل بالأخصّ الحرب في لبنان. على الرغم من الضغوط المعيشية التي كنت أعيشها ومن الحاجة التي شعرنا بها لفترة لم أستسلم، توجّهت إلى المهن الحرّة حيث عملت في قطاع البناء والتعهّدات”.
كان يعلم مارون عن معاناة رفاقه والصعوبات التي يواجهونها في إيجاد وظيفة، “أردت أن أكمل الدرب التي بدأتها إلى جانبهم ومساعدتهم فكنت أختار رفاق الجبهات للعمل معي في الورش”.
في الفترة التي أعتقل فيها الدكتور سمير جعجع كانت تُمارس ضغوط كثيرة على الرفاق وكانت المراقبة مشدّدة عليهم، يلفت مارون “كان القواتيون يعرفون بعضهم بعضاً، حافظنا على علاقاتنا وكنا نتعاون في ما بيننا لنستطيع الصمود وتمرير المرحلة. في الفترة الأولى للإعتقال كانت النشاطات متوقفة كلّياً وكانت مقاومتنا من خلال الصمود وعدم الإعتراف والإقرار بأن ما قمنا به خطأ تاريخي، ومن خلال الحفاظ على التضحيات وجهود الماضي. لكن فور عودة النشاطات عدنا للمشاركة بها من دون تردّد أو خوف”.
حاول مارون العودة إلى مقاعد الدراسة وانتسب إلى كلية الحقوق في العام 1990 لكنه لم يستطع متابعة دراسته الجامعية بسبب الأوضاع المعيشية إذ إن العائلة تأتي في المرتبة الأولى، “استطعت لاحقاً أن أعود إلى الدراسة فدخلت كلية اللاهوت وحصلت على شهادة في التعليم الديني، وحالياً أفكّر في العودة إلى الجامعة إذ لم يعد لدي ضغوط مادية مثل السابق”.
لم يشعر مارون ولو للحظة بأنه كبر في السن للمشاركة في النشاطات الحزبية لا بل على العكس زاد جهوده لتعويض سنوات التوقف القسري، ويختم “أنا الآن وبكل فخر منتسب إلى “القوّات اللبنانية” ولم ألقِ بندقيتي للآن ومستعد للعودة إلى ساحات المعارك عندما تدعو الحاجة”.
* لأن القضية على مساحة الـ10452، تنقّل أبناؤها من جبهة الى أخرى مرة لصد عدوان ومرّة لتأخير إنهيار ومرة لتسجيل بطولات وطرد غزاة. فكان الرفاق يزرعون البطولة والعنفوان في كل شبر تطأه أقدامهم، وإمتزج عرق المناضلين ودماء الشهداء من الشمال الى الجنوب والجبل والبقاع وبيروت. وكتحية وفاء لهم، ينشر موقع “القوات اللبنانية” الالكتروني بالتعاون مع مجلة “المسيرة” ما عرضته في خانة “كنا هناك” من حكايات رفاق ستبقى خالدة في وجدان القضية.
للإشتراك في “المسيرة” Online:
http://www.almassira.com/subscription/signup/index
from Australia: 0415311113 or: [email protected]