كميل وزلفا شمعون: النمر والأميرة… لبنان العصر الذهبي ومواسم العز ـ 2 ـ

حجم الخط

كتبت نجاح بو منصف في “المسيرة” – العدد 1622

كان يا ما كان رئيس لجمهورية لبنان اسمه كميل نمر شمعون، عرفناه أولا رجلا من رجالات استقلال لبنان وصار سفيرا، نائبا، ووزيرا… وكانت “الثورة البيضاء” التي نصبته رئيسا، مفتتحا عهدا ليس ككل العهود ورئيسا ليس ككل الرؤساء، ولأن وراء كل عظيم امرأة كانت “الست زلفا”، لبنانية أولى ليست ككل اللبنانيات الأول… هو عهد ذهبي لا زالت حكاياته من حكايات زمن جميل، نسج بحنكة وسحر ذاك النمر وبأناقة ورقي تلك الأميرة، عزًا وازدهارًا وأضواء، هو عهد وجمهورية ورئيس وسيدة أولى، أقيما ملكا وملكة على قصر ووطن فحلقا به عاليا، أراداه مملكة للأحلام… فنًّا، ثقافة، جمالا وبحبوحة، بنيا خططا وأرسيا أسسا لذاك اللبنان، ومرت عقود وأجيال ولا زال كل جمال من ذاك اللبنان مما غزلته أيدي ذاك النمر وتلك الأميرة راسخا متمددا، ونتذكرهما متلازمين غير منفصلين حكاية وراء كل حكايات مواسم العز والإشعاع في لبنان.

حين “توشوش” الست زلفا الرئيس

وإن ننسى فلن ننسى انه على عهد كميل شمعون عرف لبنان أقوى وأجمل انتفاضة وتظاهرة فنية وثقافية… فنون ونجوم، موسيقى ومسارح، معارض تشكيلية ورسامون… وكان ذاك المهرجان بين أعمدة مدينة الشمس وها نجوم العالم وعمالقة الفن في لبنان يخترقون رهبة تلك الهياكل، يصدحون غناء رقصا وموسيقى، وكل لبنان يحكي.. هي الست زلفا «توشوش» أذن الرئيس، فيهتز لبنان فنا وثقافة إبداعا وإشعاعا.

نعم هي الست زلفا، عاشقة الفن والجمال.. يؤكد دوري شمعون أنها ما كانت تتدخل في عمله السياسي، لكنه هو من كان يطلب رأيها ومشورتها غالبا، وكان لا يتردد أبدا في المضي في مشاريع ثقافية وفنية واجتماعية تطرحها صارت بمعظمها السمة اللافتة والطاغية لعهده الذهبي.

عن والدته يخبرنا “كانت والدتي رسامة تعلمت الرسم في مصر، وكانت تشجع المعارض والرسامين في لبنان، كما احتضنت المواهب وسعت لتوفير المنح لهم لمتابعة الدراسة والتخصّص في الخارج”.

وقد روى ميشال بصبوص في محاضرة ألقاها يوما في أنطلياس “كانت زلفا شمعون وراء كل حركة فنية، وكان لها الفضل الكبير في توعية الجمهور على حضور المعارض، والاستماع إلى الموسيقى، وإعداد مهرجانات بعلبك… وغيرها من الحركات الفنية”. وبصبوص هو أحد الفنانين الذين سهّلت لهم زلفا شمعون الدراسة في باريس سنة 1954 (بعد دراسة أولى سنة 1951)، كما رافقت معارضه، وساعدته على الانطلاقة.

لم يتوقف اهتمام السيدة زلفا شمعون عند حدّ، فكانت بدعم زوجها الرئيس من منشطي الحركة الفنية في راشانا، ومن أول المتبرعين لإنشاء مسرح فيها، قُدمت على خشبته أعمال لبنانية وفرنسية وإيطالية… فتألقت راشانا بفنون النحت والمسرح وطبعا كان الرئيس وزوجته دائما في طليعة الحضور.

وبهذا لعبت زلفا شمعون دورا استثنائيا تاريخيا في تلك المرحلة، ابتعدت عن السياسة لتنصرف الى منح الجوائز وإقامة المعارض ودعم المواهب وتبنّيها، فازدهرت الفنون التشكيلية والمسرحية، وكان الإنجاز الإكبر، إطلاق مهرجانات بعلبك الدولية. أما قصة هذه المهرجانات فقصة أخرى كبيرة من لبنان كميل وزلفا شمعون…

وكانت مهرجانات بعلبك الدولية

في عاصمة الضباب لندن، وذات مساء بارد من شتاء 1947، لمعت الفكرة،  إلى مائدة عشاء لدى السفير المفوض في لندن وسفير لبنان في الأمم المتحدة كميل شمعون وزوجته زلفا بعد حضور مسرحية غنائية. فجأَة يلتفت كميل شمعون إِلى ضيفيه السيدة مي عريضة وزوجها ابرهيم، ويقول: “إذا وفقني الله ووصلت الى الحكم في لبنان سأؤسس في هياكل بعلبك مهرجانا يستضيف مسرحيات كهذه المسرحية التي شاهدناها”.

وروت مي عريضة ذات يوم: “كان السفير شمعون يكرّر على مسامعنا أنه إذا ما وصل إلى الحكم يوماً فإنه سيقوم بمشروع كبير للبنان في قلعة بعلبك، علماً أن الفكرة لم تكن بعد تبلورت في رأسه… وبالفعل، عندما انتُخب عام 1952 رئيساً للجمهورية كانت أول خطوة له أن استدعى مؤلّف الموسيقى وعازف البيانو وأستاذ الموسيقى في جامعات الولايات المتحدة الأميركية أنيس فليحان وسلّمه إدارة «المعهد الوطني للموسيقى، بعد أن أُقفل بسبب وفاة الأستاذ وديع صبرا…”، وتابعت: “لم يكن هناك من وزراة ثقافة أو سياحة في وقتها إنما كان هناك فرقة “الشبيبة الموسيقية” وأنيس فليحان ومي عريضة يترددون على الرئيس شمعون ويعرضون عليه حفلات موسيقية فقط لقلعة بعلبك، وكان جوابه دائماً أن ذلك لا يكفي”.

وتابعت عريضة «في عام 1955 جاء إلى بيروت المغترب اللبناني في باريس طوني قزي ومعه فرقة من الـ”كوميدي فرانسيز”، وطلب الإذن من مفوض السياحة ميشال توما لتقديم 4 حفلات في هيكل باخوس في قلعة بعلبك وذلك في صيف 1955 وهو ما حصل، وقد دعتني السيدة الأولى زلفا شمعون إلى إحداها حيث حضرناها سويةً، وعندما أخبرت الرئيس شمعون بروعتها ونجاحها، قال لها: “الآن عرفت ماذا سأفعل في قلعة بعلبك، مهرجان دولي للموسيقى الكلاسيكية والأوبرا والباليه والمسرح الفرنسي والإنكليزي وشيء من الفولكلور اللبناني…” وهذا ما كان، وانطلق حلم الرئيس.

عام 1956 ولدت لجنة مهرجان بعلبك الدولي برئاسة إيميه كتانة، وفي 1957 أعلن رئيس الجمهورية كميل شمعون رسميا افتتاح مهرجان بعلبك مسجلا أوّل ظاهرة فنية ثقافية عرفها لبنان بهذا المستوى.

وتروي مي عريضة: “نحن سنة 1957، إيغور مويـيـسـيـيـڤ في لبنان، تطلب إليه اللبنانية الأُولى زلفا شمعون تدريب مدربين على الرقص مروان وبديعة جرار، ثم تطلب إِلى عاصي ومنصور الرحباني تحضير مسرحية غنائية وقَّعت لها فيروز على عقد بليرة لبنانية واحدة تخفيفا لـمصاريف اللجنة فكانت “أيام الحصاد” ليلتين (31 آب و1 أَيلول 1957) بأَلحان الأَخوين رحباني وفيلمون وهبي وزكي ناصيف، وإِخراج صبري الشريف”.

قال شمعون للرحابنة “وافقنا على حفلتكم.. ونحن ننيشنكم أو ننيشنكم”

وهو منصور الرحباني يروي يوما “استدعينا في ربيع 1957 للاجتماع بلجنة مهرجانات بعلبك. وكانت تلك المهرجانات مقتصرة على عروض أجنبية تقدمها فرق عالمية بين مسرح وباليه وأوبرا. في تلك السنة قررت السيدة زلفا شمعون أن تدخل الى المهرجانات ليالي لبنانية (…) كان الاجتماع في مكتب حبيب أبو شهلا بحضور سيدات اللجنة. وهؤلاء كنّ على غير تصور واضح لما يرغبن في تقديمه، بل حتى غير متحمسات لفكرة الليالي اللبنانية لشعورهن بأنها ستكون أضعف شأناً من الليالي الأجنبية التي تحييها الفرق العالمية. غير أنهن رضخن لفكرة السيدة الأولى وحضرن الاجتماع”.

وتابع “وبعدها استدعينا الى القصر الجمهوري في القنطاري واجتمعنا برئيس الجمهورية كميل شمعون الذي بادرنا بقوله: «وافقنا على حفلتكم. نفذوها، ونحن ننيشنكم أو ننيشنكم». الأولى: نعلق لكم نيشاناً، أي وساماً، والأخيرة: أي نعدمكم”.

نجحت “الليالي اللبنانية”، فرح “الرئيس” كثيرا وما تأخر بإظهار فخره واعتزازه، دعا الفنانين الذين أحيوا “أيام الحصاد”  الى مقره الصيفي في قصر بيت الدين ليقلدهم وسام الاستحقاق اللبناني المذهّب.

مشغل للثياب الفولكلورية في القصر

وتتالت عروض مهرجانات بعلبك، عاما بعد عام، ويتذكر دوري شمعون كيف حوّلت والدته الطابق الأول في القصر الجمهوري في القنطاري الى مشغل للثياب الفولكلورية كانت تزود بها مهرجانات بعلبك والليالي اللبنانية التي كان يحييها كبار الفنانين اللبنانيين، وكانت تشارك في خياطتها بنفسها.

ويتذكر أنه مع ثورة 1958 خافت اللبنانية الأولى ان يستهدف القصر، فعمدت الى تهريب الثياب الفولكلورية بصناديق الى مكان آخر آمن، “وطلعت الخبرية ان الرئيس شمعون هربان من القصر الجمهوري”.

وعن مواكبة “الريس” لذاك المهرجان يخبرنا “أساسا كان لديه برنامج شامل لكل بعلبك، كان يخطط لنفض السوق بمجمله ان يعيده لما كان عليه قديما، لكن ثورة 1958 طيّرت المشروع”.

وإن كانت اللبنانية الأولى وراء النهضة الفنية والثقافية في البلاد، يؤكد دوري شمعون، ان ما ساعدها ان والده الرئيس كان بدوره شديد الميل للفن وبشكل خاص للموسيقى الكلاسيكية، كان يحب سماع الأوبرا وخصوصًا لبيتهوفن وشوبان، ويتذكر أنه حين كان والده يستمع الى الموسيقى كانت الأوامر صارمة “الحكي ممنوع” وتصدح الأوبرا في أرجاء المنزل.

ويخبرنا أنه لما تولى والده الرئاسة “سكنت في القصر (القنطاري) الى ان تزوجت لأنتقل الى منزلي الخاص، وكان شقيقي داني يعيش في الخارج، كنا نتابع ما يجري في القصر من بعيد لبعيد، لم يرد الرئيس ان نقترب ولا نحن أردنا، كان يقول لنا إن الرئاسة مش شغلكم وهكذا كنا نزاول حياتنا العادية ولا نتدخل أبدا في شؤون القصر”.

لكن هذا لم يمنع شمعون الابن من مراقبة آداء والده وإبداء إعجابه بذاك الذكاء السياسي، بتلك الخبرة في ممارسة الحكم، ويقول إن العلم والثقافة اللذين كان يتمتع بهما ساعداه كثيرا في ممارسة حكمه “كان نهما في القراءة، كل أسبوع يقرأ كتابا على رغم كل مشاغله، وكان عاشقا للأدب وللشعر الفرنسي الرومانسي”.

ولاحقا ومع زواجه بزلفا تابت وهي من أم انكليزية، تلقن شمعون اللغة الإنكليزية وصار ضليعا بها كما بالفرنسية، وعلى رغم ذلك كان يلجأ الى زوجته لأجل كتابة الرسائل الهامة بالإنكليزية.

ملوك ورؤساء العالم في بيروت

ويتحدث دوري شمعون عن علامة فارقة أخرى في عهد كميل شمعون، فبحكم علاقاته الدولية وإرادته بجعل لبنان بلدا منفتحا على العالم، حوّل شمعون لبنان الى بلد يؤمه ملوك ورؤساء العرب والعالم، فاشتهر عهده بتلك الاستقبالات الكبيرة التي كان ينظمها غالبا في قصر بيت الدين لضيوفه الكبار وبينهم  الملك السعودي سعود بن عبد العزيز وشاه إيران وزوجته الملكة ثريا وملك النروج والعاهل الأردني الراحل الملك حسين  وزوجته، وكانت استقبالات كبيرة باللباس الرسمي وسيدات المجتمع الراقي، تألق فيها الرئيس بأناقته الإنكليزية الى جانب زوجته الجميلة التي وإن تميزت بالتواضع الشديد والبساطة وابتعادها غالبا عن المظاهر والفخفخة، لكنها لم تتوانَ عن تأدية واجبها كلبنانية أولى، فتألقت جمالا وأناقة الى جانب زوجها الرئيس ليشكلا ثنائيا استثنائيا لافتا استقطب أنظار رؤساء وملوك العالم.

“عرفتُ سمراوات الشرق وشقراوات الغرب”

نعم كان ساحرا كميل شمعون، شكلا وثقافة، وكانت للنساء في حياة ذاك الرئيس الكاريزماتي “الدونجوان” الذي لا يقاوَم  قصة كبيرة هو من اعترف يوما “عرفتُ سمراوات الشرق وشقراوات الغرب”، فيما يؤكد شمعون الابن بضحكة واسعة “كانوا هني يركضوا وراه وما يتركوه”، بوسامته وعينيه المشعتين أغوى “الرئيس” نساء عصره، بينهن نساء المجتمع الراقي وأيضا نجمات شهيرات، وهي نجمة لبنان الصبوحة تعترف يوما بانجذابها إليه “لكنني سيدة أعرف حدودي جيداً وشخصيتي قوية والرئيس شمعون محترم واكتفى بعلاقة ضمن إطار الصداقة”. وتستطرد: “أعبده عبادة، إنه رجل بكلّ ما للكلمة من معنى، لطالما ساندني ووقف الى جانبي عندما كنت أحتاجه” وتؤكد “كان يحضر مسرحياتي وحفلاتي كلّها ويحرص على انتظاري لتهنئتي”.

وحيال مغامرات “الرئيس” ما كان أمام اللبنانية الأولى سوى التغاضي مدركة أنه مهما ذهب سيعود ودائما إليها، فهي كانت واستمرت أولا وآخرا… ومعا حفرا لبنان الحلم أبدا.

ـ إنتهى ـ

الصور من أرشيف “المسيرة” وشفيق رزق

كميل وزلفا شمعون: النمر والأميرة… لبنان العصر الذهبي ومواسم العز ـ 1 ـ

 

 

المصدر:
المسيرة

خبر عاجل