كيف نكتب خبرا مماثلا؟ مات البطرك صفير!!! يا إلهي، من الصعب جدا علينا على الرغم من اننا نعرف ان الوفاة كانت ستحصل عاجلا أم آجلاً وفعلها اليوم؟! اليوم رحل البطريرك العظيم.
هو قديسنا الانسان على الارض، وللقداسة أوجه مختلفة. لم يجترح يوما أعاجيب الشفاء وما شابه، اجترح اعاجيب الكرامة في ارض كاد وباء الذل ان يصير جرادها ودستورها ذات تاريخ اسود اسود ولا يزال، لا يزال حتى اللحظة صدقوا. واذ بحضوره ومواقفه الشجاعة الخلاقة يجترح اعجوبة نضال اوصلتنا الى الحرية، حرية ما يا سيّدنا لم نعرف كيف نصونها برموش العين، كما طلبت مرارا ومرارا وتكرارا، حتى سكنتك المرارة واعتزلت الدنيا وما فيها وانت في عز عز الحضور.
كيف نكتب “مات البطرك صفير”؟ افففف صعب، صعب جدا التعبير على الرغم من واقعيته الفجّة، لم يسبق في تاريخ الموارنة أن تعلّق شعب ببطريركه كما فعلنا نحن في زمنك، وكم هو رائع اننا عايشنا زمنك سيّدنا، لم نعايشه من خلف الشاشات فقط لا، كنا معك، خاطبناك وجها لوجه، قبّلنا يديك البركة المطلقة، سألناك اسئلة كثيرة وابتسمت لنا. ابتسمت تلك البسمات الشفافة الرقراقة بالحنان الصامت المهيب.
كنا ننتظرك سيدنا في زمن الاحتلال السوري المقيت لنسمع ما ستقوله من شرفة بكركي وفي عظة الاحد، لان ما كان عندنا صوت الاك. كان الوطن في الاعتقال والاسر والتنكيل وكنت تواجه تصرخ تنادي على الحرية، وحلقة الحصار من حولك تضيق وتضيق ولا تبالي، “لن اذهب الى سوريا الا ورعيتي معي”. من ينسى هذا القول، هذا التحدي لقوى الاحتلال، هذا العنفوان في وجه محتل جبان حاول ان يفرض ايقاعه عليك وتمرّدت؟
انت صنعت لنا حكاية تاريخية كبيرة نرويها لأولادنا وأجيالنا، صنعت لنا تاريخا مجيدا سيدنا لم تُكتب حروفه الا من صلابة مواقفك وشجاعتك النادرة في زمن الجبناء والعملاء، وأيضا زمن المقاومين الشرفاء الذين جعلوا منك ايقونتهم ليستمدوا المزيد من شجاعة الصمود والبقاء.
لا أنسى، يوم جاء البابا يوحنا بولس الثاني بسعي من البطرك صفير الى لبنان، وكنا في قعر الاحتلال والقمع والملاحقات لشباب المقاومة اللبنانية، والحكيم في المعتقل، صعدنا الى بكركي جميعا لنستمع الى من جعل من لبنان أكبر من وطن، لبنان الرسالة، وكان البطرك يقف بجانبه الى الشرفة يستمع الينا والى نداءاتنا. بدا فخورا جدا بنا كمن يقول لذاك القديس الآخر “هؤلاء ابنائي، انظر كم هم شرفاء انقياء شجعان جاؤوا رغم الحصار لاستقبالك”.
كان البطريرك يبتسم من قلب قلبه لنا وله، “شفتو البطرك شو مبسوط فينا” تهامسنا بين بعضنا البعض. كنا كمن يجلس بحضرة أبيه يخبر ضيفا عزيزا جعلناه قديسنا قبل ان تطوّبه روما بعد سنوات قليلة، بانه على صورة الوالد تماما، شجاع مقدام صادق يحب وطنه ولا يخشى مواجهة من لا يحبه، وكنتَ سعيدا بنا سيدنا، سعيد جدا كمن يقدّم ثمرة الوطن الى أغلى الناس، وما كان عندك من ثمار سوانا، عنفواننا، عدم انصياعنا واستسلامنا للغريب المحتل، كنا صورة عنك وانت كنت صوتنا وهكذا تكاملنا سيدنا.
مات البطرك صفير؟ يا الله كأنه الخواء في زمن خواء الكرامة والشهامة والشفافية، كأنه ذاك الفراغ القاتل في زمن لبناني قاتل، “انه الزمن البائس” قلتَ لنا مرّة في قداس شهداء المقاومة، وكنت تعرف ما تقوله تماما. اصلا لم تقل يوما كلمات لمجرد القول، كل حرف، كل كلمة، كل سطر كتبته بيديك المعتقتين بالإيمان والتجربة.
كان رسالة، وكل رسالة موجّهة الى احد ما، سيّد اللغة حين تريد ان تحوّل الحروف الى سلاح للمقاومة الفعلية، ولم يخافوا احدا في زمنهم اكثر منك سيّدنا، لم يعترفوا بذلك لكن اثبتت الايام انك كنت كابوس الاحتلال وكابوس الصغار ممن جعلوا انفسهم عملاء واتباع لهم. “ليس لسوريا اصدقاء ولا حلفاء في لبنان، بل عملاء” قلت مرّة، وصارت الكلمة ايقونة الاجيال.
لا أنسى يوم خروج الحكيم من الاعتقال، جلستَ الى التلفزيون تراقب بدقة اللحظة التاريخية. كنت اول من نادى له بالحرية لأنك آمنت ببراءته من التهم كافة الموجهة اليه زورا، وساهمت بشكل أو بآخر بتحريره، كنت تراقب الحكيم وتبتسم سعيدا، لم ارك يوما سعيدا كتلك اللحظة، لأنك ايقنت ان بتحريره تحرر المسيحيون كافة من نير العبودية ومن سجن الصراع المسيحي المسيحي. ويوم عاد ميشال عون من باريس، كنت سعيدا لان المسيحيين عادوا معه من المنفى، كنت تريد ان نلتقي جميعا في الحرية تحت سقف الوطن، وهذا ما حصل سيدنا، وانت اول المساهمين في كل مشهديات اللقاء والكرامة والوطنية تلك.
سامحتَ كل من اساء اليك، كلهم من دون استثناء، ومن أساء اليك عرف حجم خطيئته وتراجع عندما اكتشف أنك بطريرك للموارنة جميعا وللبنانيين جميعا ومن كل الطوائف. “لبنان ليس للمسيحيين ولا للمسلمين، بل ان المسيحيين والمسلمين هم للبنان”، تقول، اي كلام بعد أجمل من تلك القيم الوطنية الكبيرة يا سيدنا؟!
دخلتَ بقلب ثورة الارز وكنت أول الناس في ساحة الشهداء، حتى لو لم تنزل ولا مرة الى هناك، كنا نحمل البيارق وانت في القلب بيرق حب وايمان يا ابي… تستغرب المناداة؟ بالتأكيد، لكن نحن تعودنا ان نناديك بتلك الكلمة الفائقة الحنان والرعاية، كنت السند سيّدنا وأبي سند البيت، كنت الركن بطركنا وأبي ركن البيت. كنتَ البال المرتاح الى الكرامة سيدنا، وبالنا الان مشوّش، مغلوب على امره، منهك بالمواجهات، ولا نعرف من اي اتجاه نسدّ الريح سيدنا.
مات البطرك صفير؟ اريد ان اقتنع ان لا يموت رجل مماثل في لبنان مهما أوغل في الغياب، كما البطريرك الدويهي ما زال حاضرا بنضاله في الكنيسة ولبنان، تبقى حاضرا فينا وبلبنانك ولبناننا تاريخ انتصار، ايقونة، ايقونة وليس اقل سيدنا ولكن…
مات البطريرك مار نصرالله بطرس صفير؟ هذه المرة نعم مات، وفي الزمن البائس الذي تحدّث عنه، مات سيّدنا ليموت معه شيء كثير كبير فينا، كأن انهار فينا ألق ما، وهج صنعته انتَ للبنان سيدنا، صنعت الاستقلال الثاني واي صناعة لبنانية تاريخية أعظم من تلك سيدنا؟! مات شيء ما فينا سيدنا، لكن في الوقت ذاته ليحيا فينا مع موته ذاك الموج، تلك الريح، شيء كثير من تلك الروح السامية النبيلة الفائقة الحضور، الثورة وان كانت هادئة احيانا، لكن فيها ما فيها من ضجيج الحق ما لا يمكن لإنسان حر ان يتغاضى عنه او يتجاهله. هذا ما كنت عليه سيدنا وانت الهادئ السمات دائما.
كنت غضب الحق حين يصرخ في وجه الباطل، كي لا يتحوّل لبنان الى وطن باطل تافه من دون لون ولا ارادة ولا موقف، وطن مطرود من جغرافية النضال والانجيل والحق والايام، انت سيدنا، أنتَ من اعدتَ لبنان الى قدسية الموقف والمكان…
كلمة بعد سيّدنا، تبقى ايقونة نضال الموارنة، ولآخر العمر، لآخر العمر وحياتك رح نضل نحبّك.
إقرأ أيضاً: