كتبت جومانا نصر في “المسيرة” – العدد 1704
شربل القسيس… صخرة الكسليك
أشعل سيجارته الأخيرة وهمس… «بعد بكير تا يدوب التلج» (2)
صمام أمان الجبهة اللبنانية
بعد انتخاب الأباتي بولس نعمان حاول الرئيسان كميل شمعون وبيار الجميل إقناع الأباتي القسيس البقاء في الجبهة اللبنانية التي ساهم في تأسيسها لكنه رفض بحجة أنه ما عاد رئيسًا عامًا للرهبنة، وكراهب عادي فهو ملزم بالطاعة للرئيس العتيد. وعلى رغم إلحاح أعضاء الجبهة اللبنانية إلا أنه بقي على قراره برفض الحضور والمشاركة في الإجتماعات. ويروي الخوري واقعة تؤكد على دور الأباتي القسيس كصمام أمان داخل الجبهة: «عام 1978 شارك الشيخ بيار الجميل بالعيد الوطني لدولة الكويت والتقى بالسفارة ياسر عرفات وجلسوا جنبًا إلى جنب وتحدثوا وتصدرت صورتن الصحف باليوم التالي. مما أثار غضب الرئيس سليمان فرنجية. خلال إجتماع الجبهة ولعت القاعة على خلفية هاللقاء، ويُقال إنو قد ما كان الشيخ بيار معصّب ضرب إيدو ع الطاولة وطاروا الفناجين. بس لاحظ الرئيس شمعون إنو الأمور بلّشت تطلع عن حدّا المعقول طلب من الأباتي القسيس التدخل قللن الأباتي: «اسكتوا تا إحكي». وساد صمت في القاعة. أضاف الأباتي «إذا كنا حزب بالجبهة خلوني ضب وراقي وإمشي لأنو ما بفوت بالأحزاب. وكمّلوا بمحاكمة بيار الجميل. وإذا كنا تجمّع فنحن لا ندين لبعضنا البعض إلا بالولاء للقضية وعدم خيانة بعضنا البعض. وبهالحالة قبل ما تحكموا ع بيار الجميل اسألوا شو حكي مع ياسر عرفات… يجوز أنه استعمل معو عبارات الذم… وهيدا بيأكد إنو كان صمام أمان الجبهة اللبنانية».
آخر أيام العمالقة
خضع الأباتي القسيس لعمليتي قلب مفتوح وذلك بعد نهاية فترة توليه رئاسة الرهبنة اللبنانية المارونية. لكن علاقته مع السيجارة لم تنقطع: «كان عندو علاقة خاصة مع السيجارة. كان يدخن سيجارة «فانتادج» وكان يستعمل الفيلتر. بعد أول عملية وقّف التدخين. بس بعد العملية التانية رجع يدخن وبكترة. بس شفتو حامل سيجارة تفاجأت. سألتو كيف عم تدخن وإنت عامل عملية قلب مفتوح مرتين؟ جاوبني «ما هني غيّرولي كل الشرايين ورجعت شاب. بعد في 50 سنة قدامي… ما كان عارف إنو الرئتين راح يغدرو بقلبو الجبار اللي بقي ينبض حياة ومقاومة ووطنية حتى آخر لحظة من عمرو».
من الهوايات التي عشقها الأباتي القسيس إلى جانب الزراعة وتربية الأبقار رياضة المشي في الطبيعة: «كان يمشي بالطبيعة ساعات طويلة ليتنشق الهوا النضيف وكانت ضيعتة قرطبا منفذو الوحيد للمشي وتنشّق الهوا النقي. إلى أن أصيب ذات يوم ب «برقة» في ظهره مما اضطره إلى ملازمة الفراش والتوقف عن السير في الطبيعة، مما أدى إلى إصابته بداء الرئة فنقل إلى مستشفى سيدة المعونات».
3 أشهر أمضاها الأباتي القسيس في المستشفى طريح الفراش لكن الراهب المقاوم بقي جباراً وعملاقاً حتى في لحظات الوجع: «كان يستقبلنا بالغرفة ونقعد نحكي ساعات… مرة طلب مني سيجارة، قلتللو مش حامل، قللي هلق بتنزل بتجبلي سيجارة. وهيك صار وبس رجعت قللي سكر الباب ودخن سيجارتو… كان بعدو مقتنع إنو بعد بكير تا يدوب التلج».
الثلاثاء 13 شباط 2001. السابعة مساء إنطفأ قلب آخر العمالقة. «بتذكر هني ومطلعينو من الغرفة وقفت ع جنب وبكيت… كان جبار وما في شي بيهزّو. بس وفاة الأباتي عمانوئيل خوري هدتو. كان مآمن فيه وراهن عليه خصوصًا إنو كان حامل إرثو ومطبّع بثقافتو وشخصيتو للأباتي القسيس. كان حاطط فيه كل أمل بالتغيير داخل الرهبنة، بس للأسف رحل بعد 40 يوم على تعيينو علما إنو ما كان يعاني من أي مرض. وبتذكر كلمات الأباتي القسيس بس رجعنا من مراسم الدفن قللي: «كان آخر العمالقة».
بعد رحيل الأباتي عمانوئيل خوري إعتكف الأباتي القسيس ولم يعد يتدخل في مسألة التعيينات .
في المحفظة التي تحوي أوراق مذكراته الكثير الكثير مما سيكتب بعد عن راهب مقاوم مناضل جعل من سيرته الرهبانية منبرًا لكلمة الحق والدفاع عن الحقيقة. قبله كانت سيرة الرهبنة اللبنانية مجرد خبر عادي يتلقفه اللبنانيون… معه صارت الرهبنة على كل شفة ولسان ولسان حال من عرفوه « كان الصخرة التي اتكأت عليها الرهبنة اللبنانية خلال الحرب اللبنانية…
جردة عمر
ي المخرج يوسف الخوري بعضاً من محطات عاشها مع الأباتي شربل القسيس وفي تدوينها إنعكاس لشخصية هذا الراهب المقاوم.
• عام 1980 كان الرهبان اللبنانيّون الموارنة على موعدٍ مع انتخاب رئيس عام جديد لهم. كانت المنافسة على المنصب حامية بين المرشَّحين الآباتي شربل القسيس (لولاية ثانية) والأب بولس نعمان الذي حُسمت المعركة لصالحه وفاز بالمنصب. حضر السفير الأميركي في لبنان آنذاك «جون غانتر دين» للتهنئة، ولم يستطع أن يخفيَ دهشته حين وجد الآباتي القسيس يتقبّل التهاني مبتسمًا إلى جانب الآباتي الجديد. أنهى «غانتر دين» زيارته، وقبيل مغادرته همس في أذن القسيس قائلًا: «لم أشهد في حياتي مرشّحًا راسبًا في الانتخابات يتقبل التهاني إلى جانب منافسه الرابح»! فأجابه القسيس بصوته الجَهَر: «إنتهت الانتخابات يا صاحب السعادة وتبدّلت الأدوار، فالآباتي نعمان هو رئيسي الآن وأنا أدين له بالطاعة كما كان هو يطيعني حين كنت رئيسه». شدّ «غانتر دين» على يد الآباتي القسيس وودّعه قائلًا: «إن في سلوككم الرهباني ديمقراطيةً لأعظمُ من ديمقراطية أميركا نفسها»!
بعد الإنتهاء من تقبل التهاني خرج الأباتي القسيس إلى الباحة العامة، توجه نحو سيارته من نوع مرسيدس سوداء وكانت تحمل الرقم 699 (منهم من حاول مقاربتها بعدد الوزراء في الحكومة آنذاك وكانوا 6، وعدد النواب 99). جلس في المقعد الخلفي كما كان يفعل أيام توليه الرئاسة. إنتظر قليلاً ليكتشف أنه لم يعد هناك سائق وعليه أن يقود سيارته بنفسه. فاضطر أن يستعيد قليلاً من قواعد القيادة تمامًا كما جمع أرقام الهاتف حيث كان يتكل على سكريترة المقر العام للرهبنة لإجراء إتصالاته.
بعد مرور أسبوع على تقبّل التهاني، إتّصل الرئيس كميل شمعون بالآباتي شربل القسيس طالبًا منه أن يستمر بحضور إجتماعات الجبهة اللبنانيّة كونه أحد مؤسسيها، فاعتذر الآباتي من فخامته قائلًا: «كنت أشارك في اجتماعات الجبهة كرئيس للمؤتمر العام الدائم للرهبانيّات الكاثوليكيّة ورئيس عام الرهبانيّة اللبنانيّة المارونيّة، أما اليوم وقد رجعت راهبًا عاديًا خاضعًا لتوجيهات رؤسائي، فلم يعد بمقدوري مشاركتكم القرارات والمواقف إلا بعد مراجعة رئيسي العام وأخذ موافقته، وهذا أمرٌ قد ينعكس سلبًا على أدائي داخل الجبهة». ثمّ انسحب الآباتي من الحياة السياسيّة بعد الدور الكبير الذي لعبه في بداية حرب الـ1975، وأنشأ مزرعة للأبقار ومعملًا لإنتاج الحليب ومشتقاته، وقد شهدته بأم العين يحلب البقرات وينظّف الأرض من الرَوث بتواضع جبّار…
• خلال معركة شكا توجه الأباتي القسيس إلى مستشفى البترون الحكومي حيث كان يتم نقل الجرحى والمصابين وسلم إدراتها شيكا على بياض وقال: «ممنوع أي شب أو مواطن يموت ع باب المستشفى، والحالات اللي بيستوجب نقلها إلى مستشفيات بيروت بتنقلوها واللي مفروض تتعالج بالخارج بتسفروها».
وفي الإطار الإنساني نفسه يُحكى أنه في ليلة خريفية عاصفة كان الأباتي القسيس يقوم بزيارة إلى دير الأنطش في جبيل .تلك الليلة وقع حادث سير مروّع أدى إلى سقوط ضحايا . في اليوم التالي تنامى إلى الأباتي القسيس أن الجرحى الذين أصيبوا إصابات بليغة فارقوا الحياة خلال نقلهم إلى بيروت بسيارة الإسعاف لأن مستشفيات المنطقة غير مجهزة لاستقبال حالات طارئة. وأدرك الأباتي أن لا مستشفى كبير مجهّز على الساحل الممتد من طرابلس إلى بيروت، وهذا ما دفعه إلى أخذ القرار فوراً بتشييد مستشفى حديث ومجهّز بأحدث المعدات. فكان مستشفى سيدة المعونات الجامعي.
– في المسائل الوطنية أيضًا كانت للأباتي القسيس مواقف تاريخية. ويروى أنه خلال لقاء جمعه بالرئيس صائب سلام بادره الأخير قائلا: «نحنا يا حضرة الأباتي صرنا عدديًا أكتر منكن وهيدا بيستوجب منح الطائفة حقوق مضاعفة». فبادره الأباتي القسيس قائلا: «حسب نحنا شو؟ ديمقراطية عددية أو ديمقراطية تعددية».
– دأب الأباتي القسيس على تكثيف جولاته إلى الولايات المتحدة لتوضيح واقع مسيحيي لبنان للرأي العام الأميركي. وخلال إلقائه كلمة في إحدى الندوات حيث كان يحاضر عن مفهوم الكرامة والمواطنة والوجود المسيحي، لا حظ أن هناك تململاً لدى الحضور. فسحب ورقة من جيبه كانت عبارة عن ورقة نعي جدته. فرفعها في وجه الحضور وقال لهم بالإنكليزية: «هاي ورقة نعوة ستي اللي توفت عن عمر بيناهز ال100 سنة، وصلتني من دقائق قبل ما فوت ع القاعة. حبيت فرجيكن اياها تا قلكن إنو إنتو اللي عم تعيّرونا بتاريخنا ومقاومتنا، ستي توفت عن عمر بيناهز عمر أميركا».
– عندما توفي البطريك بطرس المعوشي في 11 كانون الثاني 1975 توجه الأباتي القسيس مع مجموعة من الرهبان إلى المقر البطريركي في بكركي ولاحظ عدم وجود أية ترتيبات تليق بمراسم دفن البطريرك المعوشي الذي ستشارك فيه شخصيات رسمية وديبلوماسية وروحية من لبنان والخارج. شمّر عن زنده وعمل مع الرهبان على تنظيف المقر ولم يتوانَ عن حمل السجاد الأحمر ومدِّه على طول الطريق المؤدية إلى مدخل بكركي، كما تولى تنظيم الترتيبات البروتوكولية.
(انتهى)
إقرا ايضاً: شربل القسيس… صخرة الكسليك – 1
للإشتراك في “المسيرة” Online:
http://www.almassira.com/subscription/signup/index
from Australia: 0415311113 or: [email protected]