كتب جهاز التنشئة السياسية ـ “المسيرة” – العدد 1739
ثقافة المظلومية ونهج التغلّب
حزب الله: النشأة والعقيدة والممارسة (2)
إن كان تاريخ تأسيس «حزب الله» قد تأثر بعوامل سياسية، عسكرية واجتماعية، يبقى أن عقيدة الحزب قد تأثرت بشكل كلي، بالبعد الديني، وما أرساه الإمام الخميني من أفكار طبعها في هوية إيران بعد العام 1979 وفي صلب «حزب الله» نفسه. مرد هذا الأمر يعود إلى أن تأسيس «حزب الله» كان بإرادة وتوجيه إيرانيين بشكل أساسي، وغير نابع من رغبة لبنانية أو شيعية عامة، حيث لم يكن لتلك الأخيرة سوى خيار تلقف نشأة «حزب الله» سلباً أم إيجابياً، ومن ثم الإنخراط فيه بالإقتناع، بالإكراه، أو بحكم الحاجة.
تمتاز العقيدة الدينية والسياسية لـ»حزب الله» بأنها شمولية وشاملة، فهي تأخذ من الإسلام، والعقائد الشيعية الخاصة مراجع لها، وتقدم تفسيراتها للحياة والتاريخ والقيم والفن والفلسفة والقانون والصراعات والأفكار من منظار ديني بحت، وهو منظار جامد إيديولوجيًا، قليل التطوّر، وشامل التصوّر. وهكذا، تشرح الأوراق السياسية التي نشرها «حزب الله»، وتحديداً «الرسالة المفتوحة إلى كل المستضعفين في العالم» (1985)، و»الوثيقة السياسية» (2009)، عقيدته، ونظرته الشاملة لكل ما تواجهه الأمة الإسلامية والعربية، لبنان، والأفراد من مخاطر وفرص، فيما مضمون أفكاره تجاه كل تلك القضايا، لا يحيد عن منظار الفهم الإيديولوجي الجامد المشبع بالأفكار الدينية، والذي يشكل المنطلق الفلسفي لفهم «حزب الله» لكل قضية من القضايا.
في الجزء الثاني من الدراسة عرضٌ لأبرز الأفكار العقائدية التي يحملها «حزب الله»، وذلك عبر الإستناد إلى مضمون الوثائق السياسية الأساسية التي أصدرها الحزب نفسه. يلحظ ممارسات «حزب الله» في السنوات القليلة الماضية، وكيفية تقويضها لسيادة الدولة اللبنانية، النظام السياسي اللبناني والحياة السياسية بشكل عام، كما ممارسته وحمايته لسلسلة من الموبقات الاجتماعية التي يعيشها لبنان والمجتمع اللبناني عمومًا، والشيعي خصوصًا.
مواقف «حزب الله» العقائدية
خلال مؤتمر صحفي في بيروت في 30 تشرين الثاني 2009، أعلن الأمين العام لـ«حزب الله» حسن نصرالله «الوثيقة السياسية» الجديدة للحزب، والتي صدرت بعد 24 عاماً من «الرسالة المفتوحة» التي كانت الأداة الرئيسية لتقديم وجهات نظره إلى العالم. وعلى عكس هذه الأخيرة، فإن «الوثيقة السياسية» منظمة بشكل جيد، ولا تتضمن الكثير من التعابير الدينية والفقهية المعقدة، الراديكالية والغامضة.
تركز الوثيقتان على خمسة مواضيع أساسية هي: الظالمين والمظلومين، مناهضة أميركا والرأسمالية، الموقف من إسرائيل وعملية السلام، الوحدة الإسلامية والعروبة، والديمقراطية وإلغاء الطائفية السياسية في لبنان.
وفقا لتفسيره للمفاهيم القرآنية، ينظر «حزب الله» إلى العالم على أنه منقسم بين الظالمين (المستكبرين) والمظلومين (المستضعفين)، وهما المفهومان الأكثر أهمية في عقيدة «حزب الله» السياسية والدينية. تقدم «الرسالة المفتوحة» التفسير التالي:
«أيها المستضعفون الأحرار: إن دول العالم المستكبر الظالم في الغرب والشرق قد اجتمعوا على محاربتنا، وراحوا يحرّضون عملاءهم ضدنا يحاولون تشويه سمعتنا وافتراء الأكاذيب علينا […] في محاولة خبيثة للفصل بيننا وبين المستضعفين الطيبين… لقد حاولت أمريكا عبر عملائها المحليين أن توحي للناس بأن من قضى على غطرستها في لبنان وأخرجها ذليلة خائبة وسحق مؤامرتها على المستضعفين في هذه البلاد، هم ليسوا إلا حفنة من المتعصبين الإرهابيين الذين لا شأن لهم إلا بتفجير محلات الخمور والقمار وآلات اللهو وغير ذلك… إننا متوجهون لمحاربة المنكر من جذوره، وأول جذور المنكر أمريكا».
وجاء في «الوثيقة السياسية»، إن معايير الإختلاف والنزاع والصراع في رؤية «حزب الله» ومنهجه إنما تقوم على أساس سياسي – أخلاقي بالدرجة الأولى، بين مستكبر ومستضعف، وبين متسلّط ومقهور، وبين متجبّر محتل وطالب حرية واستقلال». ويشير «حزب الله» إلى الظالمين في الولايات المتحدة الأميركية وإسرائيل وحلفائهما، وكذلك القوى المتمثلة على نحو رئيسي بشبكات الإحتكارات الدولية من شركات عابرة للقوميات بل وللقارات، والمؤسسات الدولية المتنوّعة، وخصوصاً المالية منها والمدعومة بقوة فائقة عسكرياً». يقدم «حزب الله» هذا الإنقسام العامودي بين الطرفين ليتمكن من إثارة الشعور بالظلم لمن تصله رسالته، ويتبعها بدعوة لرفض هذا الظلم من خلال «وحدة المظلومين».
إن رفض النظام العالمي الذي تقوده الولايات المتحدة وإسرائيل وإنشاء نظام قائم على العدل والحرية والوحدة هو الحل المقترح الذي يقدمه «حزب الله» للمشكلة. يوفر مفهوم الظالم والمظلوم للناس تصوّراً لما يجب أن يُنظر إليه على أنه عادل، والذي يمكن أن يؤدي إلى تسييسهم بداية، ومن ثم تعبئتهم. يمكن عملياً لمفهوم الظالمين والمضطهدين، بهذه الطريقة، أن يجذب الناس خارج المجتمع المسلم اللبناني.
هذا الفهم البسيط والمبسّط للعلاقات الدولية، والقائم على افتراض وجود طرف خيّر وآخر شرير، لا يزال في صلب عقيدة «حزب الله» السياسية، على الرغم من أن معظم الأفكار السياسية الحديثة قد تخطّت هذه الثنائية، إذ إن الظلم ليس محصوراً في جهة من دون أخرى، كما أن المظلومين لا يسكنون في جزء واحد من العالم، فيما الظلم مفهوم نسبي، قد يمارسه القوي على الضعيف. والضعيف على الأضعف، أو حتى الضعفاء على القوي. وهو في جميع الأحوال، ليس نظاماً قائماً بذاته، بقدر ما هو ممارسات قابلة للتغيير.
إن العداء تجاه الولايات المتحدة هو سمة بارزة في «الرسالة المفتوحة» وأُعيد تأكيدها في «الوثيقة السياسية»، ولكن في حالة موقف «حزب الله» من الرأسمالية، فقد تمت معالجتها بمزيد من التفصيل في وثيقة عام 2009. يذكر «حزب الله» أن الولايات المتحدة كانت خلال القرن العشرين تتطلع إلى الهيمنة العالمية الكاملة، والتي تحققت بعد تفكك الاتحاد السوفياتي. نتج عن الأمر ظهور نظام عالمي أحادي القطبية، وشن على أثر ذلك الحروب الإرهابية على العالم.
أما في «الرسالة المفتوحة» فقد تم التركيز على العداء للولايات المتحدة الأميركية والرأسمالية من باب الواجب الديني، إذ إن «الإمام الخميني القائد أكد، ولمرات عديدة، أن أمريكا هي سبب كل مصائبنا وهي أم الخبائث …. [ ونحن إذ نحاربها فلا نمارس إلا حقنا المشروع في الدفاع عن إسلامنا وعزة أمتنا».
في المقابل، رأت «الوثيقة السياسية» أن «الرأسمالية المتوحشة قد حوّلت العولمة إلى آلية لبث التفرقة وزرع الشقاق وتدمير الهويات وفرض أخطر أنواع الإستلاب الثقافي والحضاري والإقتصادي والاجتماعي». هذا ويسعى الحزب إلى تشخيص أزمة النظام العالمي، ونحل الأفكار المناهضة للرأسمالية، والتقرب من حركاتها في العالم، وهو الأمر الذي يسمح له بجذب الحلفاء والحصول على التعاطف، وإبعاد صفة الإرهاب عن نفسه.
يصف «حزب الله» إسرائيل بأنها مشروع عدواني وعنصري واستعماري فرضه الغرب في قلب العالم العربي والإسلامي، كما ينظر إليها على أنها خطر على الشرق الأوسط بأكمله. يُعرّف دولة إسرائيل بأنها «كيان» ومشكلة ليس فقط للفلسطينيين، إنما للمنطقة بأسرها، ويعتبرها مصطنعة منذ إنشائها وتمثل «عدواناً مباشراً وخطراً جدياً طالا المنطقة العربية بأكملها، وتهديداً حقيقياً لأمنها واستقرارها ومصالحها»، بحسب «الوثيقة السياسية».
وتنص الوثيقة نفسها على أن مقاومة هذا «الكيان الدخيل» مسؤولية تاريخية للأمة، كما يعلن دعم «جميع أشكال المقاومة» التي يختارها الفلسطينيون، ويرفض مفاوضات التسوية وتطبيع العلاقات مع إسرائيل.
تم تخفيف حدة اللغة في وثيقة عام 2009 إلى حد ما، وذلك على عكس «الرسالة المفتوحة» التي رأت أنه «يجب محو إسرائيل تمامًا من الوجود». علاوة على ذلك، كثيراً ما يُلام «حزب الله» على أنه يحمل مشاعر معادية للسامية، ولا يميّز بشكل واضح بين اليهود والصهاينة. ينعكس هذا التغيير في «الوثيقة السياسية» حيث يؤكد «حزب الله» على «أن الصراع الذي نخوضه… ليس قائماً على المواجهة الدينية أو العنصرية أو العرقية من جانبنا… إنما على الدفاع عن النفس ضد العدوان».
من خلال هذه المراجعة وهذا التغيير في ما بين الوثيقتين، يعمل «حزب الله» على مناشدة جمهور أوسع، ويسعى إلى إظهار قدرة أكبر على التكيّف مع الظروف السياسية المتغيّرة، الأمر الذي يقدم دليلاً على قدراته البراغماتية في تغيير مضمون العقائد خدمة للمصالح السياسية الآنية.
وفقاً لرسالته المفتوحة، يتمسك «حزب الله» بدعمه القوي ودعوته إلى الوحدة العربية والإسلامية. تماماً مثلما تؤكد «الوثيقة السياسية» على أن «ثمة حاجة أكيدة إلى تضافر الجهود لتجاوز حالة الصراعات التي تشق الصف العربي، إذ إن تناقض الإستراتيجيات واختلاف التحالفات، على رغم جديتها وحدتها، لا تبرر الإنسياق في سياسات الإستهداف أو الإنخراط في المشاريع الخارجية القائمة على تعميق الفرقة وإثارة النعرات الطائفية وتحريك عوامل التجزئة والتفتيت، بما يؤدي إلى إنهاك الأمّة».
أما في ما يتعلق بالعلاقات الإسلامية، فيتخذ «حزب الله» الموقف نفسه الذي اتخذه في «الرسالة المفتوحة» التي أكدت على أهمية «الوحدة بين المسلمين… والتعاون بين الدول الإسلامية في جميع المجالات». كما يؤكد على ضرورة دعم الشعوب الإسلامية لإيران «كقاعدة إستنهاض ومركز ثقل استراتيجي وأنموذج سيادي واستقلالي وتحرري داعم للمشروع العربي – الإسلامي الإستقلالي المعاصر، وقوة تزيد دول وشعوب منطقتنا قوة ومنعة».
في المقابل، إن دعوات «حزب الله» للوحدة العربية والإسلامية ما هي إلا محاولات لحشد عدد كبير من الناس حوله لا أكثر. أما دعوته إلى الوحدة العربية، في وقت يذوب «حزب الله» في الإرتهان للقيادة الإيرانية، عقائدياً وسياسياً، فهو من العوامل الأساسية التي تجعل من قبول «حزب الله» عربياً أمرًا صعباً، فيما أعمال إيران غير المسالمة في المناطق العربية كافة، تمنع الوحدة الإسلامية أو حتى العربية الحقيقية.
أما في موضوع الديمقراطية وإلغاء الطائفية السياسية في لبنان، فقد نصت «الرسالة المفتوحة» على:
«إن «حزب الله» في حالة مواجهة متصاعدة … حتى يُتاح لجميع أبناء شعبنا أن يقرروا مصيرهم ويختاروا بكامل حريتهم شكل نظام الحكم الذي يريدونه، علماً بأننا لا نخفي إلتزامنا بحكم الإسلام وندعو الجميع إلى اختيار النظام الإسلامي الذي يكفل وحده العدل والكرامة للجميع، ويمنع وحده أية محاولة للتسلّل الإستعماري إلى بلادنا من جديد… إن كل طرح للإصلاح السياسي على ضوء النظام الطائفي العفن لا يعنينا فيه شيء».
في «الوثيقة السياسية»، يؤكد «حزب الله» أنه يسعى لإرساء الديمقراطية في لبنان وإلغاء النظام السياسي الطائفي، حيث يرى أن:
«المشكلة الأساسية في النظام السياسي اللبناني، والتي تمنع إصلاحه وتطويره وتحديثه بشكل مستمر هي الطائفية السياسية. كما أن قيام النظام على أسس طائفية يشكّل عائقاً قوياً أمام تحقيق ديمقراطية صحيحة يمكن على ضوئها أن تحكم الأكثرية المنتخبة وتعارض الأقلية المنتخبة، ويُفتح فيها الباب لتداول سليم للسلطة بين الموالاة والمعارضة أو الإئتلافات السياسية المختلفة».
إن هذه الدعوة الصريحة إلى إلغاء الطائفية السياسية ما هي إلا تعبير عن رغبة في الإستئثار بالحكم، وليست نابعة من إيمان «حزب الله» العميق بالديمقراطية، إذ إن إلغاء الطائفية السياسية يعني، عملياً، تحكّم الطوائف الكبرى بالسلطة السياسية، وانتفاء للنظام التعددي والتوافقي، حيث تصبح السلطة من حق الجماعات التي تتمتع بأكبر عدد من الأفراد، وهو الأمر الذي سيؤدي إلى انتفاء دور لبنان، مجتمعه التعددي، ودوره الحضاري كما نعرفه.
من المثير للإهتمام، كذلك، أن تلاحظ أنه خلافاً «للرسالة المفتوحة»، التي تدعو صراحة إلى تبنّي نظام حكم إسلامي في لبنان، فقد تم المرور على نفس الفكرة بشكل موارب وغير جازم في «الوثيقة السياسية». كما تم تخفيف حدة النقد للنظام السياسي الحالي في الوثيقة، وسط اهتمام «حزب الله» بجذب تعاطف ليس فقط من المجتمع الشيعي إنما الآخرين عبر معارضة الطائفية السياسية و»غياب الديمقراطية الحقيقية» التي تتبنّى معارضتهما مجموعات أخرى في لبنان.
من اللافت أن حزباً دينياً بكل ما للكلمة من معنى، كـ»حزب الله»، يُقرّ بأن الطائفية على أشكالها، وخاصة الطائفية السياسية، هي مشكلة في النظام اللبناني. يعود ذلك إلى رغبته الخاصة في تعديل موازين القوى في لبنان لصالح الأكثرية الشعبية التي يجد بها طريقاً للتسيّد على السلطة اللبنانية، أكثر بكثير من حقيقة نبذه للطائفية أو للتعصّب الديني على حد سواء.
«تطوّر» «حزب الله» بين الوثيقتين
بعد أن قوي عود «حزب الله» في لبنان، شعر مسؤولوه بأن حزبهم بحاجة إلى إصدار وثيقة جديدة توفر رؤية أوضح وأوسع لهويتهم، عملهم السياسي، وخططهم المستقبلية. تبعاً لذلك، لم تكن «الوثيقة السياسية» عام 2009 تراجعاً عن «الرسالة المفتوحة»، بل هدفت إلى تحديد القضايا التي لم يتم تناولها في الوثيقة الأولى وتحديد المسار السياسي المستقبلي لـ»حزب الله» في لبنان «وطن الآباء والأجداد، كما وطن الأبناء والأحفاد وكل الأجيال الآتية».
إن فهم أوضاع «حزب الله» عامي 1980 و2009 ضروري لفهم الوثيقتين. صدرت «الرسالة المفتوحة» عام 1985 ووُجهت إلى الطائفة الشيعية في المقام الأول. في ذلك الوقت كان «حزب الله» عبارة عن مجموعة عسكرية ودينية صغيرة مع حد أدنى من القوة، ومجرد فصيل آخر من الجماعات المقاتلة خلال الحرب اللبنانية. احتاج الحزب إلى مزيد من الشعبية في مجتمعه من أجل هزيمة ميليشيات «أمل» والشيوعي والسوري القومي الاجتماعي، والسيطرة على الطائفة الشيعية في لبنان وتوحيدها تحت رايته. ولهذا السبب الأخير بالذات، كانت «الرسالة المفتوحة» معبأة بعبارات وكلمات ومفاهيم يمكن أن تصيب مباشرة قلوب وعقول أبناء المجتمع الشيعي. حتى عنوان الرسالة الموجهة «إلى كل المستضعفين في العالم» استُخدم لاستهداف الطائفة الشيعية التي ترى نفسها، وجدانياً وفي ذاكرتها التاريخية، مستضعفة ومضطهدة.
من ناحية أخرى، تم الإعلان عن «الوثيقة السياسية» عام 2009 في فترة تنامي قوة «حزب الله» في لبنان. كان دور الحزب السياسي داخل البلاد، خلال تلك المرحلة، أكثر رسوخاً من أي وقت مضى، سواء من خلال قوته العسكرية أو نفوذه في السلطات التنفيذية والتشريعية اللبنانية. فخلافاً لما حدث عام 1985، أصدر «حزب الله» وثيقته عام 2009 من موقع قوة ووجهها إلى قلوب وعقول اللبنانيين وغيرهم.
على الرغم من تغيير الأسلوب اللغوي، إلا أن هناك إستمرارية وتواصل بين محتوى ومضمون الوثيقتين، إذ إن رؤية «حزب الله» للعالم وخصومه، كما تم التعبير عنها في الوثيقتين، لا تزال نفسها. إن «الرسالة المفتوحة» التي تُعتبر المدماك الإيديولوجي الأساسي لـ»حزب الله»، قد صيغت في خضم الحرب الأهلية والسيطرة الإسرائيلية على أجزاء من لبنان. وهي عكست في مضمونها، وجهة نظر مانوية (الديانة الإيرانية القديمة التي تشرح الصراع بين الخير والشر) للعالم، مقسمة بين قوى الشر، أي الغرب وحلفائه المحليين، وقوى الخير، إيران و»حزب الله». كما رفضت «الرسالة المفتوحة» الوجود والتدخل الأجنبي في لبنان وفي الأمّة الإسلامية بشكل عام، وأكدت على الحاجة إلى صد الوجود والتأثير المفسد للغرب على العالم الإسلامي والقتال حتى التدمير النهائي لإسرائيل..
أما وثيقة عام 2009، فتتبنى نفس أفكار «الرسالة المفتوحة» إلا أنها تقدم تطويراً لمفاهيمها تعكس النضج السياسي لـ»حزب الله» وقدرته على التأقلم البسيط مع المتغيّرات في العالم، على سبيل المثال، يشير «حزب الله» في «الرسالة المفتوحة» إلى الولايات المتحدة والغرب كقوى شريرة وقمعية بحق العالم الإسلامي، فيما ترى «الوثيقة السياسية» أن خطة الولايات المتحدة العالمية تسعى وراء «الهيمنة العالمية» وتقوم باستخدام: «تطور هائل في آليات التسلّط والإخضاع غير المسبوقة تاريخياً، مستفيدة في ذلك من حصيلة مركّبة من الإنجازات المتعددة الأوجه والمستويات العلمية والثقافية والمعرفية والتكنولوجية والإقتصادية والعسكرية، والمدعومة بمشروع سياسي إقتصادي لا ينظر إلى العالم إلا بوصفه أسواقاً مفتوحة ومحكومة لقوانينها الخاصة».
بمعنى آخر، وعلى الرغم من التشابه اللافت في المحتوى بين الوثيقتين، تعكس «الوثيقة السياسية» فهم «حزب الله» المتزايد للسياسة الدولية ومحاولته إستخدام المصطلحات والمفاهيم التي ترتبط بشكل شائع بالحركات اليسارية وتلك المناهضة للعولمة، في محاولة من الحزب لتجاوز حدوده الوطنية والتعريف عن نفسه على أنه حركة إقليمية ودولية.
في وثيقة عام 2009 يعترف «حزب الله» بحلفائه الإقليميين، وهو عنصر سياسي مهم لم يكن موجوداً في «الرسالة المفتوحة» عام 1985، حيث يشير إلى تصوّر الحزب لذاته كجزء من محور المقاومة الإقليمي (سوريا، إيران، إلخ.). وجاء في وثيقة عام 2009، كذلك، أن «سوريا سجلت موقفاً مميّزاً وصامداً في الصراع مع العدو الإسرائيلي، ودعمت حركات المقاومة في المنطقة، ووقفت إلى جانبها في أصعب الظروف، وسعت الى توحيد الجهود العربية لتأمين مصالح المنطقة ومواجهة التحديات»، مضيفاً «ضرورة التمسك بالعلاقات المميّزة بين لبنان وسوريا بوصفها حاجة سياسية وأمنية واقتصادية مشتركة».
بينما يواصل «حزب الله» دفع لبنان باتجاه الدوران في الفلك السياسي السوري، والذي لا يشكل، بالضرورة، عنصر قوة للبنان أو مصلحة لبنانية حقيقية، يُذكّر الحزب بتحالفه السياسي والإيديولوجي مع إيران. ولكن بصرف النظر عن إعتراف «حزب الله» الدائم والصريح بالدور الإقليمي الحاسم لإيران ومساهمتها الأساسية في نشأته، لا تذكر «الوثيقة السياسية» الدور الذي لعبته الجمهورية الإسلامية في دعم «حزب الله» وتطوّره السياسي والعسكري. ينبع غياب الإشارة إلى الشراكة الاستراتيجية بين إيران و»حزب الله» من حاجة هذا الأخير إلى تأكيد نفسه كحركة وطنية لبنانية، والتقليل من شأن وصفه الدائم على أنه مجرد دمية إيرانية. توازن الوثيقة، الموجّهة للجمهور اللبناني، بين الحاجة إلى ذكر الروابط الحالية مع إيران والحاجة إلى تصوير «حزب الله» على أنه عنصر لبناني مستقل.
إن كان الفكر العقائدي لـ»حزب الله» لم يتغيّر كثيراً في مجال السياسة الخارجية، إلا أن التغيير الأكبر، والذي يمكن ملاحظته، يعود إلى نظرته الفكرية تجاه لبنان وممارساته للسياسة الداخلية. في «الرسالة المفتوحة»، أعلن «حزب الله» رغبته في إقامة دولة إسلامية، ورفض المشاركة في النظام السياسي القائم بسبب «طبيعته الفاسدة». كما اعتبر أن إنشاء الدولة الإسلامية اللبنانية، على غرار تلك الإيرانية، لن يكون سوى خطوة نحو إنشاء دولة إسلامية أكبر توحّد جميع المسلمين في المنطقة تحت نفس الحكومة.
بشكل ملحوظ، أغفلت وثيقة عام 2009 الدعوة إلى إنشاء دولة إسلامية بشكل صريح، وأقرت بأن النظام السياسي اللبناني هو «البيئة الأنسب لـ»حزب الله» للعمل فيها». ولكن في الحقيقة، إن هذا التحوّل في الأولويات المحلية لا يفاجئ كثيراً من راقب «حزب الله» منذ دخوله الحياة السياسية عام 1992. من حينها، أضفى الحزب على النظام السياسي اللبناني شرعية جعلت التقليل من أهمية هدف إنشاء دولة إسلامية في لبنان أمراً محتماً، فبقي الهدف هذا تعبيراً عن رغبة طويلة الأمد أكثر من كونها هدفاً سياسياً عملياً يمكن تحقيقه على أرض الواقع.
هذا الإغفال المقصود عن ذكر هدف إنشاء دولة إسلامية في «الوثيقة السياسية» ليس إلا إخفاءً بسيطاً لهدف لا يتلاقى مع طموحات مجمل أبناء لبنان، فيما نيّة الحزب إقامة الدولة الإسلامية لا يزال يُعلّم في لقاءاته الداخلية، ويُكتب في كتب مسؤوليه، ويُتلى كهدف نهائي لوجود «حزب الله» بذاته. من ناحية أخرى، إن دوام إلتزام «حزب الله» اليوم في «أمر الطاعة» و»أمر الولاية» للمرشد الأعلى للثورة الإسلامية، كما يُعبّر قادته ووثائقه السياسية، يمثل دليلاً كافياً على عدم تخلّي الحزب عن هدف إقامة حكم الشريعة الإسلامية في الدولة اللبنانية كما أقامتها الثورة الإسلامية في إيران.
بالإضافة إلى ذلك، وعلى الرغم من أن وثيقة عام 1985 كانت محددة للغاية فيما يتعلق بشكل الهدف السياسي النهائي لـ «حزب الله» في لبنان، إلا أنها لم تكن دقيقة في وصف الوسائل والمراحل الآيلة إلى تحقيق إنشاء الدولة الإسلامية النموذجية. وعلاوة على ذلك، فقد نصت بوضوح على أن «حزب الله» يدعو إلى «تطبيق النظام الإسلامي على أساس الإختيار المباشر والحر للناس، وليس من خلال الفرض القسري»، وهو ما سمح لـ»حزب الله» بدرجة كبيرة من المرونة الإيديولوجية في تكييف أجندته الأصلية مع الأولويات الاستراتيجية المتغيّرة. وبهذا المعنى، فإن التهرّب العلني من هدف إقامة دولة إسلامية هو إعتراف بالواقع السياسي اللبناني المعقد، أكثر من كونه تغييراً حقيقياً في عقيدة الحزب.
وبالمثل تلقي «الوثيقة السياسية» أهمية على سلسلة من المواضيع التي طوّرها «حزب الله» في فترة ما بعد نهاية الحرب، كأهمية اللامركزية الإدارية والإعتراض الصريح على نظام الفيدرالية والنظام الطائفي الحالي. تؤكد وثيقة عام 2009 أن المشكلة الأساسية في النظام السياسي اللبناني والتي تمنع إصلاحه وتطويره وتحديثه هي الطائفية السياسية». وبينما يصنّف «حزب الله» إلغاء الطائفية ضمن أولوياته الرئيسية، يزعم أيضاً أنه حتى تحقيق هذا الهدف «فإن الديمقراطية التوافقية تبقى القاعدة الأساس للحكم في لبنان». هذه النقطة مهمة بشكل خاص لأن التخلّي الظرفي عن إقامة حكم إسلامي وعدم التشدد في موضوع إلغاء الطائفية السياسية، قد أتيا في لحظة قوة عرفها الحزب عام 2009، حيث يمكن الفهم بأن مواقف «حزب الله» «المرنة» الداعية إلى الحكم التوافقي، ما هي إلا رسالة إلى الحكومة أو أي جماعة لبنانية أخرى لكي تأخذ الواقع السياسي وموازين القوى بعين الإعتبار، والحكم بالإتفاق مع «حزب الله». أما الفدرالية، فيرفضها «حزب الله» في «الوثيقة السياسية» بشكل كامل، ويفهمها، بشكل سطحي، على أنها «دعوة إلى تقسيم لبنان».
نقطة أخرى مهمة تظهر في «الوثيقة السياسية»، وهي رؤية «حزب الله» لدوره العسكري في لبنان. بالمقارنة مع غيرها، فإن هذه النقطة هي الأكثر وضوحاً في كامل الوثيقة، حيث يُعلن الحزب عن نيته الإستمرار في الحفاظ على تنظيمه العسكري، ورفضه مناقشة نزع سلاحه. كما يعتبر أن «التهديد الإسرائيلي الدائم يفرض على لبنان تكريس صيغة دفاعية تقوم على المزاوجة بين وجود مقاومة شعبية تساهم في الدفاع عن الوطن في وجه أي غزو إسرائيلي، وجيش وطني يحمي الوطن ويثبت أمنه واستقراره».
بالمقارنة بين هذا الموقف ووثيقة «الرسالة المفتوحة»، انتقل «حزب الله» من إعتبار الجيش اللبناني عدواً إلى معاملته كقوة مساعدة له معنية بالحفاظ على الأمن، وليس الدفاع عن لبنان. تضرب هذه الفقرة في «الوثيقة السياسية» سيادة لبنان بشكل مطلق، كما تنزع عن الجيش اللبناني دوره الطبيعي ووظيفته الأساسية كمدافع عن لبنان، كما تقلّل من أهمية جهود أي قوة محلية تهدف إلى نزع سلاح «حزب الله».
ـ يتبع ـ
• مكتب الأبحاث ـ دائرة الإعداد والتدريب ـ جهاز التنشئة السياسية ـ حزب القوات اللبنانية
إقرأ أيضاً: ثقافة المظلومية ونهج التغلّب (1)
للإشتراك في “المسيرة” Online:
http://www.almassira.com/subscription/signup/index
from Australia: 0415311113 or: [email protected]