قد يضيع اللبنانيون في همومهم المعيشية ومشاكلهم السياسية وينسون لبرهة أنهم شعب لا ييأس ولا يتعب، حتى تعود بهم الذاكرة الى قصص وحكايات لشباب طبعوا في مجالاتهم فحملوا لبنان على أكتفاهم. أمير أبو عديلة، واحد ممن سطع نجمه في مجال اختصاصه، رافعًا راية القيادة في عالم البصريات وقياس النظر. أبو عديلة، الشاب الثلاثيني الذي فاز بجائزة القائد الشاب في ذكرى العالم البصري البارز، الدكتور بول بيرمان في أيلول الماضي، عاد وحمل تألقه الى مكان عالمي آخر، بعد ما تم تعيينه في آب الماضي، عضوًا في لجنة الصحة العامة في المجلس العالمي للبصريات، علمًا أن هذا المجلس هو الصوت الوحيد لاختصاصيي البصريات في منظمة الصحة العالمية. فمن هو أبو عديلة وكيف خطف الأضواء في مجال يُعد هو من أربابه؟
من حوش الحريمة في البقاع الغربي، الى بلدة برالياس الزحلية، وبعدها الى أشرفية بيروت ومن ثم عاصمة الإمارات أبو ظبي، تألق أبو عديلة. هو الذي تحدى ظروفه الاقتصادية الصعبة، واضعًا الريادة والنجاح نصب عينه. لم تثنه عزيمته عن السير قدمًا على الرغم من كل العراقيل، ولم تنل التحديات والتنمر الذي عاشه صغيرًا بسبب ظروفه المادية من إصراره، فبرهن لمن يعنيهم الأمر، أنه بالإمكان تحويل الضائقة الى إنتاجية والصعوبات الى نجاح، لا بل نجاحات.
يفتخر أبو عديلة بما حققه، على الرغم من أنه يطمح الى الكثير بعد، هو الذي كان يقصد بيروت للعمل في المطاعم أو يساعد الطلاب في مشاريعهم لكسب بعض المال، ليسدد تكاليف مدرسته. من بر الياس انتقل الى الأشرفية، وبعدما نال منحة جامعية، تخصص في علم البصريات وقياس النظر ونال شهادة البكالوريوس من الجامعة الأميركية للعلوم والتكنولوجيا، علمًا أنه كان يرغب بأن يكون طبيب طوارئ أو أن يتخصص في العلاقات الدولية والعلوم السياسية، ولم يكن موضوع البصريات في ذهنه قبل نيله المنحة.
“بعد تخصصي لم أعد أفكر بما كنت أرغب القيام به، صار هاجسي النجاح”، يقول أبو عديلة، الذي عاد وعمل لحيازة دكتوراه في مجال تخصصه من جامعة كوازولو نتال في جنوب أفريقيا.
دراسيًا، علم البصريات لم يكفِ طموحه، فقرر توسيع البيكار، حائزًا على ماجستير في إدارة الأعمال من جامعة الحكمة في بيروت.
من شخصيته الثورية التي تهوى التحدي ومساعدة الناس، قرر أبو عديلة تأسيس جمعية العناية بالنظر، قائلًا لنفسه: “أنا وجدت من ساعدني لأتعلم وأريد مساعدة الآخرين على طريقتي، وأستطيع ذلك في مجالي”. من هذا المنطلق، أُسست الجمعية التي عملت على مستويات ثلاثة: الإنساني والتعليمي والتشريعي.
إنسانيًا وصحياً، قامت الجمعية بحملات فحص نظر مجانية، وتقديم نظارات طبية وعدسات لاصقة وعيون اصطناعية والمساعدة بالعمليات الجراحية، بالإضافة الى توقيع اتفاقيات تعاون مع المركز الطبي للجامعة اللبنانية الأميركية ـ مستشفى رزق وعدد من الجمعيات والجامعات. بعد ذلك، عملت مع وزارة البيئة على إعادة تدوير النظارات الطبية.
بعد فترة وجدت الجمعية أن هناك حاجة مهنية وتعليمية عليها أن تلعبها، فنظمت ندوات ومحاضرات ومؤتمرات علمية لطلاب واختصاصيي البصريات تحت شعار “التعليم قبل التشريع”.
من التعليم، بدأت الجمعية بالعمل التشريعي. فقانون المهن البصرية الذي كان مقدمًا منذ 20 عامًا والذي بقي قابعًا في الأدراج، وضع على طاولة مجلس النواب بعد الحملات الإعلامية والإعلانية التي خاضتها الجمعية. تحت الضغط أجريت بعض التعديلات غير الكافية لكنها بالتأكيد كانت أفضل بكثير من القانون القديم. يوضح أبو عديلة لموقع “القوات اللبنانية” الإلكتروني، أن التعديلات شملت تصنيف المهنة بين الـOptician أي تقني البصريات الذي يقوم بتنفيذ النظارات، والـ Optometristأي اختصاصي البصريات.
مع الإشارة الى أن الجمعية بدأت في العام 2023، خوض مجال الأبحاث، وقد تم إطلاق العمل على بحثين علميين موجهين الى طلاب المدارس.
لأبو عديلة تجربة رائدة أخرى. العيادة المتنقلة. يقول: “لدينا أول عيادة متنقلة لطب العيون من حيث المساحة والتجهيزات في الشرق الأوسط، فيها كل الخدمات المتعلقة بطب العيون، وتستطيع الوصول الى كافة المناطق اللبنانية. فكرة العيادة المتنقلة أتت بعد حصولنا على دعم مادي، فكنا أمام خيارين: إما نفتح مكتبًا للجمعية وإما ننشئ عيادة متنقلة، ففضلنا العيادة، علمًا أن اجتماعاتنا لا تزال تقام في الـcoffee shops”، لافتًا الى أن كلفة تأسيس العيادة وتشغيلها كانت مرتفعة، لكن السياسة التي اتبعتها مكنتها من القيام بعملها المجاني في كل لبنان مقدمة أفضل ما لديها لأكثر من 18 ألف لبناني، في ظل هذا الوضع المعيشي والاقتصادي الصعب.
من جمعية العناية بالنظر الى مجلس البصريات العالمي WCO، مشوار من نوع آخر. تقسم منظمة الصحة العالمية العالم الى 6 مناطق جغرافية وكذالك الـWCO، ومنطقتنا (دول شرق المتوسط) تضم 22 دولة وقد تولى أبو عديلة منصب رئيس لجنة الإعلام والعلاقات العامة في مجلس بصريات دول شرق المتوسط (EMCO) وهي المنطقة التي تضم لبنان، في العام 2022 ولمدة سنتين، ومن ثم انتخب رئيساً للجنة الصحة العامة في المجلس نفسه لعامين جديدين اعتبارًا تشرين الثاني 2023. كما مكّن الجمعية التي أسسها من أن تكون عضوًا دوليًا في EMCO، وفي مجلس البصريات العالمي WCO.
يلفت أبو عديلة الى أنه بعد استلام جائزة العالم البصري بول بيرمان في استراليا، طالبت رئيسة لجنة الصحة العالمية بانضمامه الى اللجنة، وتم تعينه في لجنة الصحة العامة في مجلس البصريات العالمي WCO، بعدها اختير ممثلًا لدول شرق المتوسط في كانون الثاني من العام 2024، وبالتالي هو يمثل اليوم جغرافيًا ما يقارب 22 دولة، مبديًا فخره واعتزازه لكونه لبناني، لكنه لا يخفي في المقابل، الحمل الكبير الملقى على عاتقه، لتمثيل بلده ومنطقته أفضل تمثيل.
بعد هذا السجل الحافل، يضع أبو عديلة نصب عينيه تحسين مهنة البصريات وقياس النظر في لبنان، مستشهدًا بمستواها المتقدم في كل من أميركا وكندا، ويشدد على أن هذه الورشة تتطلب مساعدة كبيرة من الجامعات والوزارات المعنية (التربية والصحية) والجمعيات والنقابات كما العمل على رفع المستوى التعليمي، واضعًا نصب عينيه “الهدف الحلم”، بتأسيس مستشفيات شبه مجانية للعيون في كل محافظات لبنان، ما يحتم تشريعات جديدة مواكبة وخلق فرص عمل.
وفي هذا السياق، يشرح أبو عديلة دور دكتور البصريات في أميركا وكندا، الذي يُعدّ المصفاة لمن يعانون من مشاكل بالنظر، من خلال توجيههم الى أطباء العيون بمختلف اختصاصاتهم.
ما هي مهاراتك الاستثنائية سألت؟ “أنا مدمن على العمل والدراسة وكسب العلاقات الاجتماعية، ولا أسافر الا لحضور المؤتمرات والمشاركة فيها. آخر مرة أخدت استراحة كانت منذ 20 عامًا. للأسف أشعر بأن النوم مضيعة للوقت”، يجيب، مؤكدًا أن ظروفه أجبرته على النجاح.
بين لبنان والإمارات، صارت حياة أبو عديلة الذي ترك منصبه كـChief Optometrist في المركز الطبي للجامعة اللبنانية الأميركية ـ مستشفى رزق، والتحق بمستشفى Cleveland Clinic في أبو ظبي، والهدف عائلي بامتياز، إذ لا يزال مسؤولًا عن تعليم أخواته في لبنان.
يختصر أبو عديلة تجربته بجمل معبّرة: “ثابرت ونجحت. على الرغم من وضعنا المعيشي الصعب، عائلتي الداعمة كانت صمام نجاحي، كما هي زوجتي اليوم التي أبدّي عملي على قضاء الوقت معها. أفضل بدل أن أرتاح أن أقوم بما أعتبره يخدم مجتمعي. مشاريعي كثيرة، ولي من الله التوفيق”.