كتب جو حمورة في “المسيرة” ـ العدد 1749
المعاناة في غزة “أمر طبيعي”
جسر بين ثقافتي الحرب والسلام… من يعبره؟
عندما تعصف الحروب بأرض البشر، يظهر الوجع في أبهى صوره، ويبرز الفقدان والألم والمعاناة بشكل يذكّرنا بضرورة تحقيق السلام والتعايش الإنساني. في منطقة النزاع بين إسرائيل وحركة حماس اليوم يواجه الإنسان، أحد أخطر الصراعات في العالم، وتحديات هائلة تتسبب في معاناة بشرية لا توصف. وحدهم الأبرياء يسقطون ضحية هذا الصراع المأساوي، حيث يفتقدون الأمان والاستقرار الذين يحتاجون إليهم في حياتهم اليومية. وكثير من هؤلاء الضحايا هم نساء وأطفال ورجال، لا علاقة لهم بالسياسة أو النزاع، لكنهم يعانون من فظاعة الحروب وأهوالها. في الميدان لا مكان للرحمة، وجميع المدنيين الإسرائيليين والفلسطينيين هم مشاريع ضحايا وشهداء.
وسط هذا الصراع المروع، لا تقتصر الخسائر على الأرواح فقط، بل تمتد إلى الحقوق الأساسية والممتلكات الشخصية. فيفقد الناس بيوتهم، ويتعرضون للتشرّد والعوز، ما يجعلهم يعيشون في ظروف غير إنسانية. وهذا يجعلنا نتساءل، أين العدالة والرحمة في واقع يعج بالمأساة والظلم وفي صراع ممتد على عشرات السنوات؟
في سياق هذا النزاع، يتساءل البعض عن كيفية فهم العنف والتصعيد الدائر بين الطرفين. يمكننا أن نستلهم بعض الأفكار الفلسفية من أرثور شوبنهاور، الفيلسوف الألماني الذي اهتم بمفهوم الإرادة والمعاناة. ويقول شوبنهاور، الذي يصادف شهر شباط من هذه السنة مع ذكرى ميلاده الـ236، بإن الإرادة هي القوة الحقيقية التي تحكم الحياة، والمعاناة تنبع من هذه الإرادة.
إذا نظرنا إلى النزاع بين إسرائيل وحماس من خلال عدسة شوبنهاور، نجد أن الإرادة لا تزال تسيطر على تلك الأحداث. الإرادة للسلطة، والإرادة للتأكيد على الهوية، والإرادة لتحقيق أهداف سياسية وعسكرية. ومن خلال هذه الإرادات المتصارعة، يتجلّى الصراع الذي يتسبّب في معاناة الأبرياء.
في فكر شوبنهاور، يمكننا أن نرى تأملاته حول العنف والمعاناة التي تأخذ أبعاداً أعمق. “إن القضية الأساسية هي كيف يمكن للإنسان أن يتخلص من هذه المعاناة. هل هناك إمكانية لتحقيق السلام والتعايش في وجود إرادات متنازعة؟”.
تتطلّب هذه الأسئلة الفلسفية أن نتأمل في طبيعة الإنسان وقدرته على التغيير. هل يمكن أن يعيش الإنسان من دون أن يتسبّب في معاناة الآخرين؟ هل يمكن أن يكون لدينا قوة داخلية تجعلنا نسعى للتفاهم والسلام بدلاً من الصراع والدمار؟
في فلسفة شوبنهاور يمكن أن يكون “الوعي حول المعاناة بداية التغيير”. عندما يدرك الإنسان أن الإرادة الشخصية قد تؤدي إلى المعاناة، يمكن أن يبدأ في التفكير بشكل مختلف. فهل يمكن أن يكون هناك حلاً يتجاوز الانقسامات ويجمع بين الثقافات والأديان؟
تتطلّب هذه الأسئلة تفكيراً عميقاً في كيفية بناء جسور التفاهم والسلام. وقد يكون من الضروري أن يكون هناك تحوّل في الإرادة، حيث يُفترض أن يكون التحوّل هو نتيجة للوعي بالمعاناة والفقدان. في النهاية، يمكن للفلسفة أن تلقي الضوء على فكرة أن هناك حاجة إلى تغيير جذري في النهج تجاه النزاعات الدولية. أيضًا، قد يكون من الضروري النظر إلى الآثار الاقتصادية والاجتماعية للنزاع بين إسرائيل وحماس، حيث يتأثر المدنيون بها بشكل كبير. ففقدان الوظائف وتوقف التعليم وتلاشي الفرص الاقتصادية كلها تضعف قدرة الفرد على تحقيق تحسين في حياته ويُقلل من إمكانياته.
وعندما نتحدث عن الفلسفة، يمكن أن يكون لفكر شوبنهاور أثر كبير في إلهام التفكير حول حلول للنزاع. فهو يشدّد على أهمية التحوّل الداخلي والتناقضات الداخلية في الإنسان. قد يكون هناك حاجة إلى تجاوز تلك التناقضات والبحث عن وسائل لتحقيق التوازن والسلام.
ربما يكون الحلّ في التركيز على القيم الإنسانية المشتركة، بدلاً من التفرقة والتباين. إن الاعتراف بحقوق الإنسان والتضامن الإنساني يمكن أن يكون أساساً لبناء جسور الفهم وتعزيز التعايش السلمي.
النظر في الوضع من منظور شوبنهاور يوفر لنا فرصة للتفكير في إمكانية تحويل الألم إلى فهم، والتحوّل الداخلي إلى تحوّل خارجي. إن إدراكنا للألم والمعاناة يمكن أن يكون بداية لمساعدتنا في تطوير رؤية جديدة للمستقبل.
قد يتساءل البعض عن كيف يمكن أن تؤدي الفلسفة إلى حلّ فعّال في وقت النزاعات العنيفة. يمكن أن تكون الإجابة في البحث عن أسس مشتركة للفهم والتعايش، حيث يتم التركيز على الإنسان ككائن يشعر بالألم والفقدان.
في النهاية، يبقى التساؤل الملحّ على الطاولة: هل يمكننا أن نعيش بسلام في هذا العالم المعقد؟ هل يمكننا أن نتجاوز الانقسامات ونبني جسوراً من التفاهم والمحبة بدلاً من الحروب والدمار؟
إن تكامل الفلسفة في حياتنا اليومية وفي تفكيرنا حول الصراعات يمكن أن يقودنا إلى إجابات أعمق وأكثر ارتباطًا بالإنسانية. يمكن للأفكار الفلسفية أن تلقي نظرة على جذور الصراع وترسم خارطة الطريق للتغلّب على الإرادات المتنازعة. في النهاية، قد يكون في تأملاتنا الفلسفية العميقة مفتاح لفهم العالم بشكل أفضل والعمل نحو بناء مستقبل أكثر إنسانية وسلامًا.
ولكن “على من تقرأ مزاميرك يا داود؟” أعلى الجندي الإسرائيلي المشرّب ثقافة العنصرية والاضطهاد والدمار، أم على مقاتل “حمساوي” يريد رمي كل إسرائيلي في البحر؟ هذا صراع فيه شيء من الأبدية، والاستمرار الدائم في الزمن. تماماً، كالمعاناة التي تحدث عنها شوبنهاور في كتاباته والتي اعتبرها “أمرًا طبيعيًا”، واستنتج، في الختام، بأن الموت وحده هو العلاج الحقيقي للمعاناة.
وهكذا، يستمر الموت في غزة ومحيطها الإسرائيلي، من دون أمل في وقف الحرب الدائرة هناك. حرب لم تجر إلا المعاناة وفقدان الأمل، والكثير الكثير من الضحايا.
للإشتراك في “المسيرة” Online:
http://www.almassira.com/subscription/signup/index
from Australia: 0415311113 or: [email protected]