كتب جو حمورة في “المسيرة” ـ العدد 1749
للبحر الأحمر تاريخ يرقص على موجات التجارة والحروب، إذ تحوّل عبر القرون من ممرٍ يعبُره تجار العالم والنسيم المحمَّل برائحة القرفة والبخور، إلى خندق صاخب تتردى فيه قذائف الموت.
يمتدّ هذا الشريان الحيوي، بصفائه اللازورديّ وحقوله المرجانية، من المحيط الهندي حتى منبسط البحر الأبيض المتوسط، حاملاً على رحاه أكثر من 10 في المئة من التجارة العالمية، وشاهداً على صعود وسقوط حضارات عظيمة.
لكن، في غياهب أعماق هذه المياه الهادئة، تختبئ اليوم توترات جيوسياسية مشتعلة، تُحوّل البحر الأحمر إلى ساحة مفتوحة للصراعات الإقليمية.
اشتعل فتيل الحرب اليمنية سابقًا، ليرمي بظلالها الداكنة على مضيق باب المندب؛ بوابة البحر الأحمر الجنوبية، مهددًا تدفق التجارة العالمية، إذ يمر عبره ثلث شحنات النفط الخام الموجهة إلى آسيا وأوروبا.
تسلّلت جماعة الحوثي إلى العاصمة صنعاء، وأطبقت الخناق على باب المندب، لتُشرّع في قنص السفن التجارية العابرة، مسبّبة أزمة دولية عارمة. في المقابل، هبّت مصر ودول الخليج العربي للتصدي لهذا التهديد، فنشرت قواتها البحرية وطائراتها لتأمين الملاحة وضمان استقرار المنطقة. ولم تتأخر الولايات المتحدة الأميركية عن الدخول على خط الأزمة، فأنشأت قوة بحرية دائمة في البحر الأحمر، وأطلقت ضربات جوية عنيفة على معاقل الحوثيين في اليمن.
لم يخلُ موقف إيران من الغموض، إذ اتُهمت بدعم الحوثيين وتزويدهم بالأسلحة الصاروخية. كما صبّت طموحاتها التوسعية في المنطقة زيتاً على النار، فتمركزت قواتها البحرية في جزيرة سقطرى اليمنية أحيانًا، وسعت إلى إنشاء خط أنابيب نفطي يصل بين شواطئها والموانئ اليمنية. هذا بالإضافة إلى رفد الحوثيين بآلاف الأطنان من المتفجرات والأسلحة والصواريخ، إضافة إلى الخبراء العسكريين والفنيين الذين جاؤوا من إيران، سوريا ولبنان.
لم تعد حكايات البحر الأحمر تروى حول كنوز القراصنة، وبقايا السفن الغارقة وتجّار التوابل في العهود القديمة، بل حول طائرات مسيّرة تخترق سماءه النقية، وصواريخ باليستية متفجّرة تلطخ سطحه الأزرق. أدى الصراع المتجدد هناك إلى فقدان الاقتصاد المصري الكثير من الأرباح بعد تقييد الملاحة في البحر الأحمر، وتراجعت عائدات قناة السويس، الشريان المائي الموازي. ولم يسلم الخليج العربي من تبعات الأزمة، حيث تزايدت تكاليف التأمين على شحنات النفط المارة بالبحر الأحمر، وألقت الخشية من التصعيد بظلالها القاتمة على أسواق النفط العالمية.
يصعب التكهن بمستقبل البحر الأحمر، فالمعركة الدائرة على مياهه ليست صراعًا عسكريًا فحسب، بل معركة مصالح اقتصادية ونفوذ جيوسياسي تتشابك فيها الخيوط الإقليمية والدولية، ويصعب التمييز بين أصدقاء الأمس وأعداء اليوم. فالقوى العظمى تتنازع على موطئ قدم في هذه المنطقة الحيوية، ما يجعل التنبؤ بالمسار القادم محفوفاً بالمخاطر، هذا طبعاً مع بقاء “جماعة الحوثي” على أعمالها المنافية لكل قانون وشريعة.
إلا أن الأمل يبقى معلقًا على الدبلوماسية والحوار، فحربٌ أخرى على ضفاف البحر الأحمر لن تكون سوى إضافة مأساوية إلى تاريخ ملطخ بدماء الشعوب. وجدير ذكره أن تأمين الملاحة وحماية المصالح الآنية غير كافيين، إنما يجب البحث عن حلول سياسية شاملة تعيد السلام والاستقرار إلى ربوع اليمن، وتعيد للبحر الأحمر ألقه التاريخي الذي طالما سحر البحارة والعشاق والتجّار.
وليس خافيًا أن مهمة إنقاذ البحر الأحمر من براثن المعارك وإعادته إلى مجده التجاري تتطلب جهوداً دولية جبّارة. فعلى القوى المتصارعة تجاوز خلافاتها والتوحّد تحت راية الأمن والاستقرار، وعلى المنظمات الدولية بذل جهود أكبر في الوساطة والتسوية السلمية. كما على إيران “اللعب في ملعبها” لا في ملعب الآخرين. فبالنهاية، لن يدفع ثمن الحرب في اليمن أو عليها سوى اليمنييون أنفسهم. إن البحر الأحمر لا يستحق أن يكون ميدانًا للمواجهات، خاصة وأن الصواريخ التي يُطلقها الحوثيون على إسرائيل لا تصيبها ولا تغيّر في الصراع العربي – الإسرائيلي شيء يُذكر، ولا يغيّر حتى في الحرب الإسرائيلية – الفلسطينية في غزة شيء أيضًا. لا بل إن معظم هذه الصواريخ تسقط في البحر أو في الصحراء من دون أن تُضرّ إسرائيل أو تؤثر عليها، فيما غالبية السفن التي يعتدي عليها الحوثيون لا علاقة لإسرائيل بها، بل هي سفن تجارية من دولة شتى، تهدف إلى التجارة والمرور الآمن إلى مقصدها لا أكثر.
لكن، ماذا لو تصاعدت التوترات أكثر هناك؟ وماذا لو ازداد منسوب إطلاق الحوثيين لصواريخهم على كل سفينة مارة بالبحر الأحمر؟ ضمن هذا السيناريو، ستستمر التوترات في البحر الأحمر، وتتصاعد إلى حرب شاملة بين القوى المتصارعة، والتي ستكون على شكل تكثيف أميركي وغربي لقصفهم للحوثيين، من دون أن يعني ذلك أن وجود هؤلاء سينتفي عن السيطرة على أجزاء واسعة من اليمن. وقد يؤدي ذلك إلى اضطراب كبير في حركة التجارة العالمية، وارتفاعٍ حاد في أسعار النفط، وهو الأمر الذي بدأ يظهر على الصعيد العالمي. والأهم من ذلك، تعريض الممر التجاري إلى خطر هو بمثابة تعريض مصالح دول أوروبا والولايات المتحدة الأميركية للخطر على أمنهما الاقتصادي والقومي، وبالتالي لا يمكنهم السكوت عن التجبّر الحوثي المدفوع إيرانياً على أمن الممر الدولي للتجارة.
إذا تمكنت الأطراف المتصارعة من تحقيق السلام في اليمن، فسيفتح ذلك الطريق أمام جهود إعادة الإعمار والتنمية في البلاد. وسيعود البحر الأحمر إلى ألقه التاريخي، ممرًا للسلام والازدهار للجميع. إن إصلاح ما أفسدته الصواريخ الحوثية في اليمن لا يمكن أن يكون، فقط، عبر إطلاق الصواريخ الأميركية عليهم، إنما يفترض البحث عن تسوية للصراع الدائر في اليمن بذاته، والتوصل إلى اتفاق حقيقي بين مختلف مكوّناته وفصائله العسكرية والعشائرية.
قيل أكثر من مرة، وبشكل مكرّر، عن “اليمن السعيد”. إن تحقيق أمن حقيقي في البحر الأحمر لا يكون سوى بإعادة اليمن سعيداً عن حق، وهذا لا يتحقق من دون تحقيق سلام مستدام داخل اليمن بذاته.
للإشتراك في “المسيرة” Online:
http://www.almassira.com/subscription/signup/index
from Australia: 0415311113 or: [email protected]