كتب أنطوان مراد في “المسيرة” ـ العدد 1750
سيدة النجاة… وللحقيقة البيضاء مذبح
القوات هنا والكنيسة هنا والشهداء في قلبيهما
بعد نهاية الحرب وبداية عهد الوصاية، تعب العقل الأسود للنظام الأمني المشترك من التفكير في كيفية كبح جماح “القوات اللبنانية” بقيادة سمير جعجع، وأقنع نفسه بضرورة تغيير الهدف والوسائل، فبات الهدف إلغاء القوات والقضاء على قائدها سياسيًا وإذا أمكن جسديًا، عبر تركيب ملف أمني قضائي يصيب القوات ومعها الكنيسة والمسيحيين في الصميم.
اعتقد أهل الوصاية وأتباعهم المحليون أن مبادرة “القوات اللبنانية” إلى تسليم سلاحها العسكري، والتي كانت خطوة حتمية في السياق العام، بعدما هيمن النظام السوري بغطاء دولي على الدولة وقرارها، اعتقدوا أن من السهل تطويع سمير جعجع والتعاطي معه كواحد من الأزلام، لا سيما بالترغيب والابتزاز. وتبيّن لهم أن القوات تختلف عن سواها من القوى السياسية، إذ رفض قائدها أكثر من مرة المشاركة في الحكومة، واكتفى مرة واحدة بمشاركة رمزية لم يطل أمدها من خلال الوزير روجيه ديب.
وما زاد من هواجس الوصاية، أن “القوات اللبنانية” تمكّنت تدريجًا من إستقطاب جانب من الرأي العام الذي تعاطف مع العماد عون، لا سيما وأن الحكيم تمنى على القواتيين التعاطي معهم كأخوة واحتضانهم باعتبار أن هناك مبادئ أساسية مشتركة لا خلاف عليها.
أما الشعرة التي قصمت ظهر بعير الوصاية، فهي نجاح سمير جعجع في قيادة المعارضة المسيحية إلى اتخاذ موقف شامل وصارم برفض المشاركة في الانتخابات النيابية العام 1992، بعدما تم تقسيم الدوائر بما يناسب حسابات النظام الأمني وحلفائه من جهة، وعبر تشتيت الصوت المسيحي وتهميشه بهدف توجيه ضربة موجعة للمعارضة المسيحية بقيادة القوات من جهة أخرى.
وقد نجح رهان المواجهة مع الوصاية، إذ لم تتجاوز المشاركة المسيحية نسبة 13 في المئة، كما أن المقاطعة شملت شريحة واسعة من المسلمين وبالكاد وصلت نسبة المشاركة العامة الى 29 في المئة. وهذا ما أثار غضب النظام الأمني الذي استشف قدرة كبيرة لدى القوات على الحشد والتنظيم والتأثير، فأكبَّ العقل الأسود على التخطيط لتوجيه ضربة أرادها قاضية للقوات وقائدها، فكان استهداف كنيسة سيدة النجاة، بعد نيف وعام على الانتخابات النيابية المهزلة.
لقد اختار العقل الأمني المشؤوم بعناية المكان والزمان، في وقت كان البطريرك الماروني مار نصرالله بطرس صفير يصعّد بشكل مدروس مواقفه الاعتراضية على أداء نظام الوصاية، وبخاصة بعدما تعرض لخدعة كبيرة، عندما جاءه رئيس حكومة الانتخابات آنذاك رشيد الصلح إلى الصرح مدّعيًا الوقوف على خاطره وساعيًا إلى طمأنته، وكان ما كان بما ناقض تلك الإيحاءات.
وقع الخيار على كنيسة سيدة النجاة الرعوية في ذوق مكايل، والتابعة للرهبانية المريمية المارونية. أما التوقيت فكان في منتصف قداس الأحد حيث تعج الكنيسة بالمؤمنين. وتجلّى الهدف عبر هذه الوسيلة الدموية الدنيئة، باتهام “القوات اللبنانية” وقائدها بالوقوف وراء التفجير، لعرقلة مسيرة الدولة وإعادة عقارب الساعة إلى الوراء عبر تعكير الأمن وبث الفتنة.
ولتعزيز وقع الاتهام، رسا الخيار على كسروان قلب المناطق المسيحية وعاصية الموارنة، وفي قلب الكنيسة خلال القداس، في رسالة ثلاثية المرمى: إتهام القوات وملاحقتها وشيطنتها، التهويل على الكنيسة وسيد بكركي للتخلّي عن خطابه الاعتراضي، وإفهام كل من يفكر بالاعتراض على نظام الوصاية بأن مصيره على كف عفريت إذا ما تجاوز الخطوط الحمر.
فتح تفجير الكنيسة وما رافقه من دعاية خبيثة بحق القوات، شهية الوصاية على إثارة قضايا أخرى في وجه القوات ورئيسها لإحكام الطوق عليهما، لكن قضية الكنيسة بقيت القضية المحورية، إذ كان واضحا أن الرأي العام لا سيما المسيحي منه لم يصدّق أن القوات يمكن أن تكون وراء التفجير، وهذه كانت قناعة البطريرك صفير المعروف بتحفظه، والذي طوّر موقفه من الحذر حيال اتهام القوات، إلى الاعتراض الهادئ ومن ثم الأشد وقعًا، ملمّحًا إلى مسؤولية السلطة الحاكمة والمتحكمة.
اعتُقل سمير جعجع، واستمرت محاولات تسميم الرأي، في موازاة التنكيل بكل من أو ما يمت للقوات بصلة، لكن القواتيين لم يستسلموا كل من موقعه، بدءًا بالمنزل في يسوع الملك، والذي حوّلته ستريدا إلى حلقة تواصل غير مباشر مع الحكيم ومحجّة لمن استطاع أو سُمح له بالوصول إليه، إلى أن حان موعد المحاكمات، على الرغم من المبادرة إلى إمرار ملف اغتيال داني شمعون وعائلته أولاً، سعيا لاستثارة المزيد من الاحتقان السياسي والشعبي بحق القوات.
لقد كنت في حينه مديرًا للأخبار في إذاعة لبنان الحر، وكاتبًا أسبوعيًا في مجلة “المسيرة” التي تمثل الذاكرة المكتوبة والمصورة للمقاومة، وقد تعمّدتُ في أحد المقالات التنويه برئيس المجلس العدلي ورئيس مجلس القضاء الأعلى القاضي فيليب خيرالله، لافتاً إلى أنه إبن عائلة مارونية مؤمنة من فتوح كسروان، وكان إلى جانب والدي في مدرسة القرية الابتدائية، ولا يمكن لرجل من طينته أن “يحمّل ضميره” ويدين سمير جعجع بتفجير الكنيسة.
وبالطبع علمت أنه قرأ ما كتبت واستحسنه، ولكن من دون أن يبدي أي ردة فعل ظاهرة. وقد اتبعتُ ذاك المقال بمقال آخر، أشرت فيه مستحضرًا أمثلة ونماذج عدة، إلى أنه “يمكن للقضاء أن يخطئ في أحكامه، سواء لضعف الأدلة أو لخلل فيها، أو نتيجة ضغوط ومغريات، مع الأمل في ألا يقع المجلس العدلي ورئيسه في هذا المحظور”.
وبعد ثمان وأربعين ساعة على صدور العدد، أُبلغتُ بأن النائب العام التمييزي عدنان عضوم، وخلال اجتماع قضائي رفيع، طرح مسألة ملاحقتي بتهمة التشكيك بالقضاء، لكن القاضي خيرالله رفض هذا الأمر وتم تخطيه.
انتظر اللبنانيون بمزيج من التهيّب والتعاطف صدور الحكم في قضية الكنيسة، لأنها القضية الأم، باعتبار أن الأكثرية الساحقة كانت تدرك حقيقة تركيب الملفات وخلفياتها. وكانت إذاعة لبنان الحر في حينه، وعلى رغم بعض الصعوبات والعراقيل، وسيلة الإعلام الوحيدة التي تابعت المحاكمات وتولّت نقل وقائعها عبر مراسلتها الخاصة، وعندما أبلغتنا بخبر حكم البراءة، طلبت إلى المذيعة أن تبث الخبر على الفور، فنزلت بسرعة قياسية، ومن فرط حماسها لم تنتبه إلى إغلاق بابَي الستوديو السميكين، وأذاعت الخبر العاجل لينفجر الهتاف والتصفيق من قبل العشرات الذين تجمّعوا في الاستوديو وجواره، فسُمع كل شيء على الهواء، وهذا ما أفقد الأجهزة الأمنية صوابها، فأبلغتنا رسائل تهويلية على خلفية الاحتفاء وفتح الشمبانيا.
وفي الغداة، اتصل بالإذاعة الضابط جميل السيد متوّعدًا ومطلقاً الشتائم لأننا أبرزنا عنوان براءة سمير جعجع من دون إضافة كلمة “للشك”.
وبعد نحو ساعتين، وصلت إلى مدخل الإذاعة ملالة وشاحنة وسيارة جيب عسكرية، ونزل ضابط وصحبه من العسكر حيث رابطوا أيامًا عدة في رسالة تهويلية واضحة.
مضت الأيام والأشهر والسنون الثلاثون، وطوى الزمن الألفية الثانية وبتنا على مشارف الربع الثاني من القرن الجديد، وما زالت دماء شهداء كنيسة سيدة النجاة تستصرخ الضمائر، وقد انضم إليهم شهداء كثيرون إغتيالات وتفجيرات من دون كشف الحقائق المعروفة في القلوب والعقول. لكن اللافت أن أيًا من أهالي شهداء الكنيسة لم يبادر إلى أي خطوة بحق القوات، لأن الأهالي يدركون أن “القوات اللبنانية” أيضًا كانت ضحية التفجير الغادر، وأن شهداء الكنيسة هم شهداء القوات والحق والإيمان، ولن تذهب شهاداتهم سدى.
أنطوان مراد ـ مستشار رئيس حزب “القوات اللبنانية” لشؤون الرئاسة
للإشتراك في “المسيرة” Online:
http://www.almassira.com/subscription/signup/index
from Australia: 0415311113 or: [email protected]