كأمنية بعيدة المنال، بدت مهمة التخلّص من النظام السوري المحتل الذي أثقل كاهل البلد لسنوات طويلة، قبل أن تندلع شرارة ثورة الأرز في الرابع عشر من آذار 2005 وتوحّد لبنانيين من مختلف الأطياف والطوائف على مبادئ وطنية واحدة فتصبح رمزاً حيًّا لإرادة التغيير.
فاقت الثورة الشعبية، بمليونيتها، كافة التوقعات وكسرت حاجز الخوف حيث أتت كرد فعل غاضب على اغتيال رئيس الوزراء الأسبق رفيق الحريري في 14 شباط من العام نفسه فأنهت حقبة من الاحتلال الطويل الأمد. وحده فريق 8 آذار، الذي يضم الأحزاب الموالية لسوريا، سار عكس التيار.
مطلع الألفية الثالثة، لعب البطريرك الراحل مار نصرالله بطرس صفير دورًا محوريًا في تعزيز الصوت المسيحي المعارض للواقع السياسي القائم، واستمرّ داعمًا أساسياً لثورة الأرز خلال فترة الاحتجاجات والتحركات الشعبية. إلا أن صوت الثورة خفت بعد أعوام وتشتت التحالفات السياسية على وقع تحوّلات وأحداث خلّفت تداعيات سلبية على الساحتين السياسية والاقتصادية.
كان على اللبنانيين انتظار عقد ونيّف، ليشهدوا اندلاع ثورة 17 تشرين في تشرين الأول عام 2019. يومها راهن كثيرون على نجاحها ظنًا منهم أنها بزخمها ستفتح الباب أمام مرحلة جديدة خالية من الفساد السياسي. لكن وعلى عكس ثورة الأرز، فشلت في تحقيق أهدافها، وبدأ وهجها يتلاشى تدريجيًا حتى انطفأ تمامًا مع مرور الوقت.
الحلقة المفقودة
كشف سعي اللبنانيين نحو تحقيق تغيير جذري وفعّال في بلادهم، عن وجود نواة حقيقية للثورة في أعماقهم. ومع ذلك، فشلت هذه النواة في التبلور على مثال ثورة الأرز، ما أثار التساؤلات حول الحلقة المفقودة التي حالت دون ذلك.
العضو السابق في المجلس الدستوري ورئيس ﻛرﺳﻲ اﻟﻳوﻧﺳﻛو ﻟدراﺳﺔ الأدﻳﺎن اﻟﻣﻘﺎرﻧﺔ واﻟوﺳﺎطﺔ واﻟﺣوار في جامعة القديس يوسف، الدكتور أنطوان مسرّة يوضح لـ”المسيرة” أن جريمة اغتيالا الحريري أسفرت عن انتفاضة نفسية عارمة، حيث أدرك الشعب اللبناني، وليس فقط بعض الأحزاب، أنهم جميعًا “صغارٌ في لعبة الكبار. وهذه الانتفاضة الضخمة، بحسب علم النفس، أدت إلى إخراج الجيش السوري نهائيًا من لبنان، حيث لو لم تحدث، لكان لا يزال مسيطرًا على البلاد حتى الآن”.
وإذ يؤكد مسرّة أن روح الثورة لا تزال موجودة داخل اللبنانيين، يوضح في المقابل أن عوامل أساسية أدت إلى فشل الانتفاضات التي تلت ثورة الأرز، حيث يرى أولاً أن “العمل النضالي أصبح عرضة للاستغلال من قبل قيادات مرتبطة بالخارج، تسعى إلى تعطيل أي تحرك وطني”، مصوّباً على ما شهده لبنان من تجارب لتظاهرات صادقة ومشروعة، فشلت بعد تنظيم تظاهرات مضادة لخداع الناس بوجود انقسام داخلي”.
يضيف مسرّة: “هذه القيادات، باعتمادها على المخادعة الشعبوية، قدمت طروحات غير قابلة للتطبيق، كما أنها وقفت على مسافة واحدة من جميع القضايا حتى تلك المتعلقة بالدولة والسيادة الوطنية، ولم تتأخر عن الدعوة إلى طاولات حوار في شؤون جوهرية لا يمكن المساس بها”.
العامل الثاني والأكثر أهمية، وفقاً لمسرّة، يتمثل في “فقدان المناعة الوطنية”، ويعيد أسبابه إلى “انعدام مفهوم وسيادة الدولة لدى اللبنانيين، على رغم كل التجارب والمعاناة المشتركة”.
أسباب هذا الخلل ليست طائفية بحسب مسرة، مورداً عن لسان أحد رموز ثورة الأرز السياسي الراحل سمير فرنجية، قوله إن “التمييز بات اليوم بين اللبنانيين الذين تعلموا من الأحداث اللبنانية وأولئك الذين لم يتعلموا وليس بين المسلمين والمسيحيين”.
أضف الى ذلك أن الذهنية اللبنانية لم تتخلّص حتى الآن من عقدة “الباب العالي”، ولم تسعَ إلى معالجتها لتجاوز الخوف المرتبط بها.
تحصين الجيل الجديد
بعد تسليط الضوء على جوهر المشكلة، استعرض مسرّة الحلول الممكنة لاستعادة الوعي الوطني، معتبراً أن الأمر ليس مستحيلاً على الرغم من التحديات العديدة.
والحل في رأيه من خلال خطّة وطنية تربوية تستهدف الجيل الجديد بشكل أساسي بهدف “تحصين المناعة الوطنية لديه بالمعنى الطبي”، على غرار عملية التلقيح للأطفال، مشيرًا إلى أن هذا الأمر لا يتطلب أكثر من خمس سنوات.
ويُعيد الدستوري العريق التذكير بخطة النهوض التربوي المنصوص عنها في وثيقة الطائف، كاشفاً أن تنفيذها بدأ فعليًا في وقت سابق، إنما تم تعطيلها بعد مضي خمس سنوات على انطلاقتها. وعلى الرغم من هذا التعثر، يوضح أن الملف أعيد فتحه من جديد إنما عبر الإطار العام للتعليم ما قبل الجامعي، حيث تمت الموافقة عليه في السراي الكبير بتاريخ 15 كانون الأول 2022، آملاً تنفيذه من دون معوقات في المستقبل.
ويُشدِّد مسرّة في هذا السياق على أهمية خدمة العلم في تعزيز المناعة لدى الجيل الجديد، معتبرًا أنها كانت تحتاج إلى مراجعة وليس إلغاء.
ولتأكيد نظريته حول ضرورة تحصين المواطنين يقدم النمسا وسويسرا كنموذجين واقعيين “لو تم جمع كافة خبراء الفتنة حول العالم، لن ينجحوا في زرع الفتنة بين أبناء هاتين الدولتين، حيث أن حكوماتهما خلقت مناعة لدى الشعب ومنحته الأمان والثقة في أن الدولة تضمن كامل حقوقه”.
ويبدى مسرّة استياءه من عادة شائعة لدى اللبنانيين، متمثلة في “التعميم عند انتقاد الطبقة السياسية” من دون التركيز على الجهة السياسية المسؤولة فعلياً عن الفشل والمخادعة، ويرى في هذا السلوك “ظلمًا كبيرًا” تجاه عدد من السياسيين الكفوئين الذين أثبتوا جدارتهم في تاريخ لبنان وبرزوا أيضاً على الساحة العالمية.
محطتان مهمتان في تاريخ لبنان يصوِّب عليها مسرّة، معتبرًا أنهما السبب الرئيسي لانهياره “الأولى تتمثل في اتفاقية القاهرة التي وُقّعت عام 1969 وأُلغيت عام 1987 في المجلس النيابي، والثانية أطلق عليها إسم إتفاقية قاهرة جديدة تم تجديدها في 6 شباط عام 2006، وهي الاتفاقية المعروفة باسم اتفاق مار مخايل.
والمطلوب الوقت الراهن انتفاضة بتوجيه من حزب سياسي ماروني في جبل لبنان تقلب الموازين وتنتشل لبنان من الجحيم حيث يقبع.
“المسيرة” ـ العدد 1750
للإشتراك في “المسيرة” Online:
http://www.almassira.com/subscription/signup/index
from Australia: 0415311113 or: [email protected]