تطبع المجتمعات تواريخ انتصار أو انكسار تلازمها مدى الأدهار. ولا يمكن لهذه التواريخ أن تمحى لأنّ محوها يجلب العار، واستذكارها عند كلّ مفصل يقلق الأخيار ويعيد عتم الليل إلى ضياء النّهار. 13 نيسان 1975 تاريخ لا يمكن لأيّ لبناني شريف أن ينساه. أمّا أولئك الذين يتفاخرون اليوم، بعد قرابة النّصف قرن على هذه الذّكرى الأليمة، بأنّهم لم يلطّخوا أيديهم في 13 نيسان 1975، فيكفيهم الشرف بأنّ ينعتوا بالهاربين، أو المتهرّبين من آداء واجبهم الوطني.
13 نيسان 1975 عندما قالت عين الرّمانة صرخة لا مدويّة بوجه الغزاة الذين اعتبروها مدخلًا للقضاء على فكرة الوطن اللبناني، ليعبروا فيها عبر شارع مارون مارون حتّى مزار سيّدة المراية وصولًا إلى الوطن البديل عن تلك الأرض التي اغتُصِبَت منهم أم باعوها أم تخلّوا عنها قسرًا ولجؤوا إلى لبنان. وتحت ذريعة تحرير أرضهم جعلوا وقتذاك من أرضنا ممرًا لعملهم العسكري، فاستباحوا الـ10452 كم 2 كلّها، وجعلوا من لبنان كلّه ساحة لصراعاتهم.
اليوم بعدما قارب النّصف قرن على مرور 13 نيسان 1975، ما زالت بعض جدران عين الرّمانة شاهدًا حيًّا على ما عانته هذه المنطقة. يكفي أن تتحدّث مع بعض الأمّهات الثكلى اللواتي قدّمن فلذات أكبادهنّ لتبقى هذه المنطقة حرّة، ولتصبح هي المدخل للحفاظ على لبنان كلّه. وحتّى الساعة إن صادفت كهلًا تجاوز الخامسة والسّتين من الذين هبّوا للدفاع عن لبنان، تراه بلحظة واحدة يعود هذه الخمسين مسترجعًا بطولاته وبطولات رفاقه. ولكنّ الدّمعة العالقة في عينيه كفيلة بأن تكتب لك أطاريح من التجارب التي يعلّمنا أن نردّد معه: “ولكن نجّنا من التّجارب”.
كميل شعيا هو من أولئك البواسل الذين حملوا بندقيّتهم في 13 نيسان من العام 1975 من دون أيّ تردّد ليدافع عن منطقته، وأشار الى أنّه وجد نفسه “مجبرًا على خوض هذه التّجربة لأنّ الغزاة هم الذين اعتدوا على منطقتنا. فهم الذين دخلوا شارع مارون مارون مطلقين علينا الرّصاص”. لا يخفي كميل أنّ شعور الأهالي العزّل بأنّهم متروكون، وما من جريء ليدافع عنهم، هو الذي دفعه ورفاقه ليردّوا الصاع صاعين للمعتدين. فانقلب السحر على الساحر، وتكبّدوا الخسائر.
يكشف كميل في حديث خاص لموقع “القوّات اللبنانيّة” الإلكتروني، بأنّ عدد البوسطات في 13 نيسان 1975 كان ثلاث، واحدة تجاوزت مزار سيدة المراية باتّجاه محمصة صنين اليوم، والثانية تابعت متّجهة صوب طريق صيدا القديمة؛ فهربتا بعدما رؤوا المواجهة التي احتدمت على المراية. ولا يخفي سرًّا عندما يستذكر تلك النّزعة القياديّة التنافسيّة بين الرفاق. هذه النّزعة التي برأيه “أضعفت المواجهة قليلًا”، معتبرًا أنّ وصول الدّكتور سمير جعجع إلى قيادة القوّات قلب المقاييس كلّها. وهذا برأيه ما حجّم أولئك المتسلّقين على أدراج القيادة لحبّ الظهور وليس للتضحية.
يتذكّر كميل كيف ذاع صيت مجموعة شباب عين الرّمانة الذي كان له الشرف بأن يكون من أوائلها. هذه المجموعة التي شاركت في المحطات النضالية المختلفة. وبرغم ذلك كلّه، لا يشجّع كميل شباب اليوم على خوض التجربة نفسها. فهو يردّد دائمًا على مسامعهم: “المسألة ما بدّها فورة دمّ بدّها حكمة وحكيم”. ولا يوفّر كميل أيّ جهد في تحفيز الأجيال الطّالعة اليوم على الانتماء إلى منطقة عين الرّمانة. فبالنسبة إليه هي القلب والرّوح، ومهما تمّ بيع شقق أو إيجار بعضها للغرباء فهي حتمًا ستحافظ على هويّتها الحضاريّة وانتمائها الوطني اللبناني الهويّاتي الذي لا يشبه أيّ هويّة أخرى. ويحثّ الأجيال الطالعة رافعًا شعار “لا تخافوا عين الرّمانة ستبقى لأهلها”.
لا يخفي سرًّا إذ يجاهر بأنّه خسر الكثير من صحّته، وفقد متانة بنيته الجسديّة التي سخّرها في تلك الفترة من تاريخنا فقط للدّفاع عن القضيّة اللبنانيّة، لكنّه برغم ذلك كلّه، ما زال ذلك المندفع والوطني. ولا يخفي امتعاضه بعض الشيء من جيل اليوم الذي يرى فيه جيلًا عمليًّا براغماتيًّا بعكس الجيل الذي انتمى إليه كميل والذي وصفه بـ”الجيل الوحوش”، مشيرًا الى أنّ الرّصاص مزروع في جسمه كالأتلام، لكنّ الأمل يفيض من قلبه، في الوصول إلى لبنان الذي حلم به ورفاقه الشهداء.
وكما في قلعة الصمود وعين الرّمانة كذلك في الأشرفيّة البداية التي منها كانت بداية التحرير واستعادة القرار في تثبيت المصير، مصير الوجود الحرّ في قلب التركيبة اللبنانيّة منذ ذاك الـ13 نيسان 1975. لذلك كان لموقع القوّات اللبنانيّة حديث مع المختار خليل واكيم وهو الذي يؤيّد المشاركة في تلك المرحلة من المواجهات، لأنّها بنظره كانت “الخطر الأكبر على الوجود المسيحي”. مشاركة واكيم كانت عن “اقتناع تامّ لدرء الخطر عن مناطقنا، لذلك قمنا كشباب بالاتّحاد والتّعاون للدّفاع بشراسة عن هذه المنطقة”.
لا ينكر واكيم أنّه “إذا تكرّرت الظروف نفسها فإنّنا سنقف الوقفة نفسها للدّفاع عن مناطقنا، بالشراسة عينها التي دافعنا فيها في 13 نيسان 1975، لا بل بشراسة أكثر”. ويرى أنّ ” هذه الحرب حقّقت أهدافها، وكلّ الذين استشهدوا – ما راحوا ضيعان، هم الذين يشكّلون سبب بقائنا الرّئيسي في لبنان اليوم، مؤكدًا كقوات مستمرّون بمسيرتنا.
يوجه واكيم كلمة لأجيال اليوم يدعوهم فيها لاستكمال مسيرة بناء الدولة التي بدأها مع رفاقه في العام نيسان 1975 إكرامًا لكلّ الذين استشهدوا، مخاطبًا أمّهات الشهداء ورفاقه الذين سبقوه قائلًا: “موتك يا رفيقي لأ ما راجح ضيعان. وما نحن عليه اليوم إنّما بفضل تضحياتكم. لذلك نحن مستمرّون مستمرّون مستمرّون”.
خليل واكيم بدأ مسيرته النّضاليّة فكان من أشرس المدافعين عن لبنان الذين، كما تسلّم مهامًا قيادية عديدة، وهو اليوم مختار منطقة الأشرفيّة بالقرب من مستشفى اوتيل ديو، يتابع حياته في خدمة أهالي المنطقة الأحبّ إلى قلبه في السلم كما خدمهم في الحرب.
قصص كثيرة. منها ما كُتِب. ومنها ما لم يُكتَب بعد. ومنها ما لا يمكن أن يكتب إلا بحبر الدّموع والدّماء والآلام. لكن بين المهم والأهمّ يبقى أنّنا اخترنا أن نكتب بعضًا من ملاحم الأبطال التي منها نتّعظ ونتعلّم لنفهم تاريخنا وأخطاءنا، لنبني على تصويب بوصلة مساراتنا الوطنيّة، لاسيّما التي نعيشها اليوم حيث تبدّدت معظم الخراف يوم ضُرِب الرّاعي، لنستعيدها كلّها. ونعني كلّها يعني كلّها لنستطيع استعادة لبنان الذي حلم به هؤلاء الأبطال؛ إكرامًا لدماء الشهداء الذين سبقونا، وتقديرًا لطموحات الأجيال الطّالعة، عسى أن نستطيع تسليم ما استلمناه أفضل ممّا استلمناه، لتبقى الأرض والانسان والحرّيّة الأقانيم الثلاثة في هذا الوطن أقنومًا واحدًا، وليبقى لنا لبنان وطن التّاريخ والحضارة والسلام حتّى تنذكر 13 نيسان وما تنعاد.