على عكس ما ظنّ ويظن كثيرون، فإن البطريرك الماروني مار نصرالله بطرس صفير، لم يشك لحظة في براءة “القوات اللبنانية” في قضية كنيسة سيدة النجاة في ذوق مكايل، لكن طابعه الحذر هو الذي دفعه للوهلة الأولى الى موقف متحفظ راوح بين الصلاة والصمت والاكتفاء بالدعوة الى الوحدة الوطنية واجتناب الفتنة.
على أنه، وقبل أن تنطلق الحملات الصريحة على “القوات اللبنانية” بتهمة الكنيسة، لم يمجّ عباراته خلال صلاة الجنازة لأرواح الشهداء، بل واصل انتقاداته اللاذعة للسلطة والوصاية التي تخضع لها، وألقى عظة تاريخية، حذر فيها من تجهيل الفاعل الحقيقي، ولفظ جملته الشهيرة التي ما زالت تضج في الذاكرة والضمائر إذ قال: “ونحن الذين لجأنا الى المغاور والكهوف في عهد الظلم والظلام طوال مئات السنين ليسلم لنا الإيمان بالله وعبادته على طريقتنا في هذه الجبال وعلى الشواطئ ولتبقى لنا الحرية التي إن عدمناها عدمت الحياة”. كما لفت الى فداحة “وجود دولة تكثر فيها الأجهزة الأمنية ولا توفر الأمن وتلاحق فريقًا من أبنائها وتغمض العين عن فريق”.
وحيال موقف سيد بكركي، بدا أن السلطة تتجه الى تسريع وتيرة التصعيد بحق القوات على خلفية اتهامها بالتفجير، فكان الحصار التصاعدي على مقر سمير جعجع في غدراس، مرورًا بقرار حل الحزب وصولًا إلى اعتقال قائد القوات في 21 نيسان 1994.
وقد حافظ البطريرك صفير على تحفظه، بل إنه أجاب الرئيس رفيق الحريري عندما زاره في بكركي وقال له إن إسرائيل وراء التفجير، بالقول: “لا نعرف من وراءه، وعلى الأجهزة المعنية أن تظهر ذلك”. وفي عظة الأحد في 13 آذار رفض التنكيل بشباب “القوات اللبنانية”، وأبلغ رئيس الحكومة بعد أيام بأن المتهم بريء حتى تثبت التهمة عليه، وتاليًا لا بجوز اعتماد أساليب التعذيب والضرب والإهانة.
لم تفلح الحملات والزيارات المتعاقبة للمسؤولين السياسيين والقضائين والأمنيين بهدف التحريض على “القوات اللبنانية” في جرّ سيد بكركي الى اتخاذ موقف يتماهى مع السلطة، بل إنه واصل انتقاداته وراهن على إظهار الحقيقة.
بعد اعتقال سمير جعجع، تصاعدت حركة الجمهور القواتي نحو بكركي، فخاطبهم أكثر من مرة مشددًا على إظهار الحقيقة، “لأن المتهم بريء حتى تثبت إدانته، فإذا كانت العدالة لبعض الناس وليست للبعض الآخر فهي ليست بعدالة”.
والملفت أن مبادرة السلطة الى فتح الملفات على التوالي في وجه جعجع، دفعت بالبطريرك صفير وعبر مجلس المطارنة الموارنة في 4 أيار الى القول صراحة: “إن ما يجري حاليًا هو محاكمات سياسية أكثر منها جزائية، والتحقيق في متفجرة سيدة النجاة لم يسفر عما يطمئن الرأي العام، والانتقال من هذا الملف الى ملفات أخرى يحمل على الظن بأن هذه الجريمة تمثل الدرجة الثانية من الاهتمام الرسمي، وأن ما يتعرض له الشبان المنتمون الى القوات اللبنانية من ملاحقات ومعاملة مهينة يؤذي سمعة لبنان”.
لقد شعر سيد بكركي في تلك المرحلة بأنه يقف وحيدًا في وجه فظائع السلطة، لا سيما مع التمديد للرئيس إلياس الهراوي، واعتماد الترهيب في وجه كل صوت معارض.
وعندما صدر الحكم بتبرئة سمير جعجع من تفجير الكنيسة، كان الحكم أكثر من كاف، كما ورد في كتاب “السادس والسبعون” لمؤلفه طوني سعد، ليعتبر البطريرك الماروني أن خلفية الإجراءات القضائية والقانونية هي سياسية قمعية، وتهدف الى إحكام القبضة السورية على لبنان.
والملفت أنه بعد صدور الحكم في قضية اغتيال دوري شمعون وعائلته، طرح سيد بكركي شكوكًا معبرة، وقال “إن الضمير بإمكانه أن يبقى على جهل مما جرى ويجري، وأن يصدر أحكامًا خاطئة”. أما في العظة التي تلت صدور الحكم، فألمح بوضوح إلى تدخل السياسة في القضاء وتأثيرها على أحكامه.
لقد مثّل البطريرك صفير ضمير القضية في عز القمع والاغتيال والاعتقال، ومع اتضاح المزيد من النوايا والحقائق، فتح أبواب الصرح واسعة أمام ستريدا والمحامين والقواتيين، موفرًا رعايته الأبوية لقضية وجد فيها الكثير من الظلم والقليل من العدالة.