أن تُولَد صغيرًا وتكبر فلا بد من العثرات في الطريق إلى أن يشتدَّ عضدك وتتسدَّد خطاك. أما لبنان الكبير هذا فقد وُلِدَ كبيرًا وما سَلِمَ على مدى قرنٍ من العثرات والكبوات، وما اشتدّ له عضدٌ ولا تُركَت لخطاه منافذ إلى برّ الأمان. نعود معًا إلى النهوض ومتابعة المسير، نتطلّع إلى الغد، نسترشد النجم القطبي علّنا نستهدي إلى الوطن المنشود، فلا نجد في حالك الليل الطويل هذا قبسًا يشي بأن الفجر لم يعد ببعيد.
منذ العام 1943، عام تحقيق الاستقلال، ما كانت الحال بأحسن حال، ولا طال الوقت قبل أن تحلَّ النكبة بفلسطين، واستطرادًا بلبنان، بسبب فلسطين. وراح الجو يعتمل والأزمات تنمو في رحم الوطن الوليد. يومها شكّل اللجوء الفلسطيني عاملاً مضافًا على أزمات الداخل الذي ما كان قد ثبّت ركائز الدولة بعد. وشكّلت اتفاقية القاهرة صاعق التفجير، فسقطت الدولة سقوطها الأول. وما كادت تنهض متوثّبة نهوضًا إعجازيًّا في 21 يومًا مع الرئيس بشير الجميل حتى حصل التفجير الثاني والسقوط الثاني على يد النظام المحتل. ولا أملَ اللبنانيون بانفراجٍ مرتجى بعد العام 2005 وظاهرة التفاعل الـ14 آذاري وانسحاب جيش النظام السوري حتى وجدوا أنهم عادوا إلى الحضيض في سقوطٍ ثالث، تُصارع قلّة منهم للخروج منه إلى الدولة المنشودة!
ربما يكون من سوء الطالع، أو من سوء إدارة البلد، أو من الإثنين معًا، أن يمضي أكثر من مئة عام ولا يتمكّن مجتمع من بناء دولة. بل بالأحرى أن تكون لديه دولة قابلة للحياة ولو كانت في حاجة إلى تطوير وتعديل بما يتناسب مع تركيبتها المجتمعية من جهة ومع التطورات الحاصلة من حولها والمؤثّرة عليها من جهة ثانية، ولا يحافظ عليها ويعمل على تطوير نظامها، بل يقدّمها هديّة لكل عابر سياسة في المنطقة من عبد الناصر إلى حافظ الأسد وياسر عرفات، وصولاً إلى نظام الثورة الإسلامية في طهران.
يوم حكم عرفات لبنان (السقوط الأول)
ما كاد عهد الرئيس كميل شمعون ينتهي على وقع ثورة 1958 حتى كانت منظمة التحرير الفلسطينية والكفاح المسلّح وحركات الثورة كلّها توسّع نفوذها مستفيدة من الانقسامات اللبنانية والدعم العربي والتطلّع إلى السلطة. يومها كان اليسار العالمي يشق طريقه عبر بعض الفئات اللبنانية خصوصًا بين الشباب والمهمّشين، وكان اليمين اللبناني يتحصّن خوفًا على المكاسب والمناصب. إلا أن عهد الرئيس فؤاد شهاب حديدي القبضة، والآتي صلبًا بعد اهتزاز الحكم في العام 1958، أرسى قواعد دستورية وأُسس حكمٍ مكّنته من إبعاد خطر عرفات وليس تعطيله. حَكَم شهاب واستمر عرفات، توطّدت الدولة اللبنانية وتوسّعت منظمة التحرير. كانت هناك أرض خصبة داخل المجتمع اللبناني غير المتماسك وداخل مؤسسات الدولة الدستورية والإدارية وحتى داخل الجيش، لتلقف فكرة التمدّد الفلسطيني، فلم يتأخر عرفات في اغتنام الفرصة، ونشْر “فتح لاند” أرضًا في الجنوب ونفوذًا في الدولة.
بعد انتهاء عهده، مهّد شهاب الطريق لشارل حلو المثقّف اللائق، فيما كانت المرحلة تتطلّب من يحكم ويحسم. لكن شارل حلو كان المرشّح الوحيد الذي لم يعترض عليه أيّ نائب أو كتلة نيابية، إضافة إلى أنّ الرئيس شهاب اعتقد، كما ينقل عنه الصحافي باسم الجسر، “أنّ حلو، بحكم ثقافته ونزاهته ومواقفه المبدئية، هو أفضل المرشّحين لإكمال السياسة الإصلاحية والاجتماعية التي بدأها في عهده. إنما الواقع كان خلاف ذلك حيث جاء انتخاب حلو في ذروة الاستقطاب الدولي والحرب الباردة، وفي مناخ إقليمي وعربي عاصف”.
يتابع الجسر: “ما نغّص ضمير شارل حلو (كان لدى رجال السياسة ضمير آنذاك) اتفاق القاهرة الذي عُقِد سنة 1969، فحاول كثيراً التنصّل منه، خصوصاً بعدما تبيّن أنّه مهد للحرب الأهلية – الإقليمية عام 1975. الاتفاق هو النقطة السوداء في عهد حلو. كان بدايةً للتفريط بسيادة لبنان وسلطة الدولة على أراضيها. وقّع على الاتفاق آنذاك رئيس منظمة التحرير الفلسطينية ياسر عرفات وقائد الجيش العماد إميل البستاني عن الدولة اللبنانية. ولكن يبقى السؤال: هل كان حلو هو صاحب قرار التوقيع؟ فجهاز المكتب الثاني الشهابيّ كان يستحوذ على القرار في عهده، ظنّاً منه أنّ حلو سيكون ضعيفاً وأنّ بإمكانه الإمساك بمفاصل الحكم، فبقي شهاب الرئيس غير المنتخَب مرجعيّة الجهاز في القرار والتوجيهات”.
هنا تكمن المشكلة أننا في كل مرّة يُبَدّي المسؤولون مصالحهم على مصلحة البلد نقع في المحظور. كان شهاب يمهّد للعودة إلى الحكم بعد حلو، فعمل من خلال تسهيل الاتفاق على إرضاء السنّة وتطمين عرفات وكسر الحلف الثلاثي عبر التنسيق مع عبد الناصر. فوُقِّع الاتفاق ووَقَع الخلاف، وكسب عرفات الجولة والدولة. ولم يُنقذ انتصار الحلف بالإتيان بسليمان فرنجية رئيسًا بعد حلو ما كان يؤمل إنقاذه، فوقع الصدام بين دولة عرفات ودولة بشير كما كان يردد الرئيس الياس سركيس. “أمضى “الرئيس” ياسر عرفات سنتين في “دولته” اللبنانية في حي الفاكهاني في بيروت، يطرق بابه كل رجال السياسة، بصرف النظر عمن يمارسها أو عمن يطمح إليها ويحتاج لبلوغ مرتجاه الحصول على رضى أبو عمار». وذلك قبل أن ينتقل السيناريو نفسه وتقريبًا الأشخاص أنفسهم إلى “دولة” عنجر!
ففي الثلث الأخير من عهد حلو فجّر العامل الفلسطيني أوّل لغم في موزاييك التركيبة اللبنانية المعقّدة. كان حلو قد عاد في كانون الثاني 1969 إلى تكليف رشيد كرامي رئيساً للحكومة، وهو أحد أهمّ أقطاب الشهابية والمعروف بحنكته السياسية وبراغماتيّته ونَفَسه الطويل. وفي الشهر الرابع من عمرها تصدّعت حكومة كرامي بسبب تظاهرة تدعم العمل الفدائي الفلسطيني. حصلت مواجهة بين المتظاهرين وقوى الأمن أدّت إلى سقوط قتلى وجرحى، فقدّم وزير الداخلية عادل عسيران استقالته، واضطرّ رئيس الحكومة إلى تقديم استقالة حكومته، فدخل البلد في دوّامة أزمة حادّة دامت 7 أشهر. بعدما أُعيد تكليف كرامي الذي ظلّ مكلّفاً من دون أن يتمكّن من تأليف حكومة بسبب خلافه مع الرئيس حلو على كيفيّة التعاطي مع الوجود الفلسطيني المسلّح.
وهنا يقول الجسر: “شعر الرئيس حلو بحراجة الموقف: بلد بلا حكومة ويتعرّض لضغط داخلي وخارجي، فاتّصل بالرئيس شهاب طالباً النصح، فاقترح عليه الأخير الاستعانة بعبد الناصر الذي تدخّل وأنتجت وساطته اتفاق القاهرة. عزّز الاتفاق موقع القوى المساندة للوجود الفلسطيني المسلّح، وشكّل كرامي الحكومة واستعان بجنبلاط وزيراً للداخلية لطمأنة منظمة التحرير، فيما غرّد ريمون إدّه وحيداً خارج السرب معارضاً علنًا اتفاق القاهرة، معتبراً أنّه ينتهك سيادة لبنان، فحصلت القطيعة مع حلفائه التي أدّت إلى انفراط عقد الحلف الثلاثي”.
كان عرفات في لبنان، منذ أن وطئت أقدام الثورة الفلسطينية الأرض اللبنانية، واحدًا من أهم رموز القرار اللبناني. فهو استقر به المقام بعدما احتضنه عبد الناصر وقدَّمه إلى زعماء الكرملين كرمز للثورة الفلسطينية التي كانت بدأت. ثم حظي بما لم يخطر في البال عندما ارتضى الرئيس شارل حلو إبرام اتفاق يجيز للمقاومين الفلسطينيين أن تكون لهم “أرضهم” في جنوب لبنان. وبموجب اتفاق القاهرة بات الفلسطينيون يتصرفون على أساس أنهم أصحاب حق مكتسب في الأرض… فكان السقوط الأول! وهنا تكمن العبرة ويتكرر الخطأ. ففي زمن دولة “الفاكهاني” كان اتصال من عرفات يُبدِّل في بنود جدول أعمال مجلس الوزراء، ويلغي قرارات ويدفع بأخرى إلى التنفيذ… فهل من مثالٍ أبلغ من هذا ليوصف حال الدولة بالسقوط؟
حافظ الأسد: أطماع ورُعاع (السقوط الثاني)
الأحداث المتواترة والمزدادة تفجّرًا في الداخل، لم تكن معزولة في الزمان والمكان. فبعد الحرب الإقليمية في العام 1967 بين دول الطوق العربي وإسرائيل وما نتج عنها من تداعيات، وبعد اتفاق القاهرة، نشأ واقع جديد في لبنان والمنطقة كان البلد الصغير حلقته الأضعف ومتنفسه الأوحد، فاعتملت أزماته أكثر وزادت تعقيدًا. وما كان من وصول الضابط السوري حافظ الأسد إلى السلطة في دمشق 22 شباط 1971 إلا أَنْ ضاعفَ التأثير جذريًّا في الأحداث. ولم تمرَّ سنتان على الواقع الجديد حتى اندلعت الحرب العربية الإسرائيلية الثانية في العام 1973 فزادت الوضع اعتمالا، وراحت وتيرة الأحداث تتوالى في الإقليم وتتسارع في الداخل اللبناني متمحورة حول العامل الفلسطيني وقضم السيادة وتلاشي هيبة الدولة.
وصول حافظ الأسد إلى رئاسة سوريا لم يكن بداية مسيرته بل محطة فيها، ولا سيما ما خص لبنان، إذ كان في أساس مشروعه للسلطة السيطرة على الجار الغربي الصغير. ففي الأول من كانون الثاني 1965، ومن مكتب رئيس الاستخبارات العسكرية السورية العقيد أحمد سويداني في دمشق، أُعلِن تأسيس قوات الصاعقة الفلسطينية التي ظلت أداةً خادمةً لمؤسسيها في دمشق. ومن بيروت، كشفت قوات الصاعقة للمرة الأولى، أنها ستبدأ “مقاومتها المسلّحة للاحتلال الإسرائيلي” بإعلانها مهاجمة محطة ضخّ المياه في مستوطنة يهودية في أمّ القطن وتدميرها. طبعًا، وكما أثبتت الأحداث المتتالية في ما بعد، هكذا عمليات كانت من ضمن عدة الشغل لكسب الثقة والمصداقية والمشروعية، لغايات أخرى لا لسحق إسرائيل. ومن ثم الانتقال إلى المهمة الأساس المطلوبة من هؤلاء الأطراف بحسب الخطة الموضوعة.
في ذلك الوقت كانت هناك نواة لفدائيين فلسطينيين مقيمين في لبنان أو يفدون إليه من سوريا، ويقومون بنشاطات محدودة انطلاقًا من الحدود اللبنانية – الإسرائيلية. ويقول الصحافي نقولا ناصيف في كتابه: “المكتب الثاني حاكم في الظل”، إنه “خلافًا لما كانت عليه حال الفلسطينيين في مصر وسوريا والأردن منذ منتصف الخمسينات، حيث أُخضِعوا لإمرة الاستخبارات العسكرية، كانت نشاطاتهم، القليلة التأثير والفعالية عبر الحدود اللبنانية، مستقلّة عن إمرة الاستخبارات اللبنانية التي اكتفت بمراقبتهم وتقييد تحركاتهم عند الحدود الدولية. وقصر الفدائيون نشاطاتهم أول الأمر على التسلّل وشن هجمات عسكرية صغيرة داخل إسرائيل، بتفجير عبّارة أو وضع عبوة ناسفة أثناء مرور دورية أو جمع معلومات عن الدولة العبرية”.
إتاحة التحرّك المسلّح، أتاحت بدورها نفوذًا أكبر للمخابرات السورية كما لياسر عرفات. وبدأ دور قوات الصاعقة يتبلور أكثر في الأحداث اللبنانية بالتوازي مع توطيد الأسد حكمه في سوريا للانتقال إلى الخطوة التالية السيطرة على لبنان وإخضاعه أو ضمّه. ولم يترك الأسد حدثاً أو فرصة أو مناسبة لم يستغلها لتحقيق هذا الهدف. كان لبنان صار أرضًا خصبة لهذا الزرع، فسياسيوه متناحرون ودولته مفككة وشعبه منقسم وسيادته مسلوبة. نشطت إستخبارات الأسد بتوليد الفتن وتأجيج الصراعات. وعلى هذه الوتيرة بدأت منذ أواخر الستينات وبداية السبعينات تقع الحروب الصغيرة التي كانت ممهِّدَة للحرب الكبيرة في نيسان 1975. وترافقت تلك الحروب مع اغتيالات هدفت من جهة إلى تأجيج الفتنة، ومن جهة ثانية إلى إزاحة شخصيات قد يعيق بقاؤها تنفيذ الخطة.
لم تقع الحرب في العام 1973 كما كان مرتجىً لها، لكن أسبابها لم تعالج ولم يحل السلام، فوقعت في العام 1975. استغلها الأسد أيما استغلال وألقى بقواته تحت غطاء الصاعقة بداية ثم بجيشه علنًا داخلاً الأراضي اللبنانية ومجاهرًا في خطابه بجامعة دمشق بأنه لم يأخذ ولن يأخذ إذنًا بذلك لا من المسؤولين اللبنانيين ولا من القادة العرب… والبقية حتى العام 2005 معروفة.
فنهاية دولة عرفات ومقر الفاكهاني في العام 1982 ولمعان بصيص دولة لبنانية قوية مع وصول بشير الجميل إلى السلطة لم يطل. كان ذاك الأسد في المرصاد، فسقط عرفات وبشير معًا ولم ينتقل الحكم إلى بعبدا بل إلى البوريفاج وعنجر حيث كانت قيادة المخابرات السورية في لبنان تتخذ مقر إدارة لها. أمعن نظام الأسد فتكًا بلبنان وتفكيكًا للدولة واغتيالات للمعارضين. وإن كانت جذوة المقاومة لم تخبت يومًا بوجه هذا الاحتلال وعلى رغم بطشه، إلا أنه نجح في تفجير مقومات الدولة، فكان السقوط الثاني.
لبنان ساحة إيران على المتوسط (السقوط الثالث)
انسحب جيش الأسد من لبنان في 26 نيسان 2005 لكن نهجه وحرس مشروعه ظلّوا مقيمين. هو كان استعد لذلك قبل 15 عامًا عندما فرض اتفاق الطائف حل كل القوى المسلّحة وتسليم عتادها للجيش، ورفضت دمشق أن ينطبق ذلك على “الحزب” باعتباره “مقاومة”. ومعلوم بحسب عقيدة “الحزب” أنه لا يهدف إلى الوصول إلى الحكم وإدارة الدولة، إنما مسعاه للسيطرة على الدولة هو لإبعادها من طريق تحقيق مشروعه من جهة، ولاستخدام مؤسساتها وسلطاتها في خدمة هذا المشروع من جهة ثانية. وعليه فهو سعى دائماً إلى شل المؤسسات وتعطيل الاستحقاقات الدستورية وهدم الدولة العميقة، بل وضرب مفهوم الدولة لدى المواطنين ليتاح له بناء مشروعه على أنقاضها. وقد عمل على تطبيق ذلك عبر: التهديد الذي رضخت له بعض الجماعات، وتحالفات المنفعة المتبادلة التي استقطبت جماعات أخرى، واستِمالة آخرين في مواقع أمنية وقضائية وإدارية عبر المال.
واليوم تُعتبَر الدولة اللبنانية في حال شلل عضوي تامّ ما يسهّل على الحزب تحقيق: تحرّك ميداني أكثر حرّية، وتأييد سياسي هو في أمسّ الحاجة إليه في هذا الظرف المصيري الدقيق، ودعم مالي لا يُستهان به من خلال الدولة وعبر منافذ عديدة تبدأ بالحكومة ولا تنتهي بالمشاريع وبالجمعيات الكثيرة التي أسسها أصلاً لتكون باباً يوفّر دعماً ماليًّا للحزب. فلديه مثلاً 55 مركزاً صحيًّا تابعاً للهيئة الصحّية الإسلامية تدفع عنها الدولة اللبنانية من خلال وحدتَي الاستجابة والصحة الأولية. و4 مستشفيات جامعية تستفيد من تقديمات الدولة. وهناك أيضاً مئات الجمعيات التي تأكل من جسد الدولة…
في المرحلة الثالثة من سقوط الدولة مع “الحزب” لم يعد ثمّة ما هو واقف منها إلا الأمل بانتفاض “فينيقها” من رماد هذا الدمار المتمادي المشبَع حرقًا على مدى نصف قرن. حتى شكلاً لم يترك “الحزب” ما يُهدي إلى ملامح دولة: المواقع الدستورية مفرغة، الجيش محيّد، القضاء مشلول، المجلس النيابي معطّل، الإدارة مجيّرة، الأكثريات النيابية مجمّدة، الشخصيات الحرّة مهدّدة، القرار الوطني مسلوب… وحتى ما يتوفر لهيكل الدولة المتهالك من مداخيل على قلّتها يعمل الحزب على تجييرها لإنفاقه. الخطورة في كل ذلك أن الحزب لا يريد من ذلك فقط بناء دولته كما كان يعمل عرفات، بل هدم الدولة اللبنانية من أساساتها لإزالتها وإزاحتها من طريق دولته… فنجح وسقطت، ليتحقّق بذلك السقوط الثالث.
تشابهات وفوارق وعِبر
في كل هذا السياق من عرفات إلى نصرالله، ومن فتح لاند إلى وحدة ساحات إيران على المتوسط، ثمّة ثلاث علامات في المراحل الثلاث لسقوط الدولة في لبنان، تختصرها: تشابهات وفوارق وعِبَر. فالنهج المشترك بين المراحل الثلاث، هو تدمير الدولة مفهوماً ومؤسسات، وخلق وتغذية أسباب التباعد بين اللبنانيين. السيادة المسلوبة، والقرار المصادر، وتخوين الخصوم، وتحييد قادة فعليين لحساب إنبات مجسمات خانعة توصف زورًا بأنها قيادات، فتعطى لها المراكز والنفوذ والمقاعد والحقائب والمكاسب… والأسوأ من ذلك كله أن الجميع في كل تلك الحقبات اعتمدوا أسلوب إعلان المقاومة ومصلحة البلد، والعمل عكس ذلك. ولم يسلم الرأي العام من سقوطه هو أيضًا ضحيّة لهذه الدعايات الصفراء.
أما في خانة الفوارق فهناك مغازٍ جديرة بالتوقف عندها. ففي المرحلة الأولى كانت منظمة التحرير مؤلفة من مجموعات غير لبنانية تنشط على الأرض اللبنانية، فلم يكن من لدنها نواب ووزراء وموظفون داخل الدولة، وإن كان لها النفوذ والسلطان. وفي المرحلة الثانية كانت مهمّة الهدم في أيدٍ غير لبنانية لكنها دولة كبيرة ذات حكم بارع وجيش متماسك ودور إقليمي متفوّق. إنما في المرحلة الثالثة الحاضرة، هناك منظمة تعمل لصالح الخارج، غير أن أفرادها لبنانيون، وتُفكِّك الدولة من الداخل لا من الخارج، وهنا مكمن الخطورة.
هل يعني ذلك أن الدولة سقطت ولا قيامة لها ولبنان على طريق الزوال؟
الجواب الواثق: طبعًا لا. وكما أنه ما ضاع حقٌّ وراءه مُطالب، كذلك ما انتهى وطن فيه مقاومون ومؤمنون وتضمّ أرضه شهداء وشهادات وتُنبِت أبطالا وقديسين. وبالوقائع أسقطت المقاومة المشروعين الأولين، وتعمل على إسقاط الثالث. ففيما عرف عهدا شارل حلو وسليمان فرنجية تمدد عرفات وتقلص الدولة واتفاق القاهرة وتفجّر الحرب، وعهدا الياس الهراوي وإميل لحود سيطرة أكبر للنظام السوري وهيمنة أكثر لجيشه في لبنان، وعهدا ميشال عون والفراغين السابق واللاحق لحكمه إكمال “الحزب” سيطرته على الدولة وسقوط آخر سقوفها وأعمدتها، عرفت كل تلك العقود كلمة لا ووقفات يرفعها التاريخ فوق العناوين والصفحات.
فالدولة في لبنان سقطت يوم سقطت هيبتها في السقوط الأول لا يوم خسرت ذاتها في السقوط الثاني، ولا يوم فقدت كل مقوّماتها في السقوط الثالث. والحق يُقال إن السياسيين اللبنانيين هم من جعلوا بتملقهم من عرفات حاكما للبنان، وهم من جعلوا بالفعل نفسه من غازي كنعان ورستم غزالة مفوضين ساميين، ومن نصرالله حاكما مطلقا تخضع له الرئاسات من غير أن تهتم أن بفعلها هذا تمعن بعد السالفين في دك آخر أسس إعادة بناء الدولة، فيما لو قدّر للمخلصين بناؤها يوماً… فعسى ألا تكون الثالثة ثابتة وألا يكون يوم القيامة ببعيد!
كتب سيمون سمعان في “المسيرة” ـ العدد 1754
للإشتراك في “المسيرة” Online:
http://www.almassira.com/subscription/signup/index
from Australia: 0415311113 or: [email protected]