صحيح أن فوز المرشح الإصلاحي في إيران الطبيب مسعود بزشكيان كان الدافع لكثيرين من “محبّي الديمقراطية” والإصلاح والتغيير في العالم، أن يتفاءلوا خيرًا “مغاليًا” مبالغًا فيه بتغيير محوري وجذري في السياسة الإيرانية، أكانت داخلية أو خارجية، إقليمية كانت أم دولية، أما الصحيح أكثر، أن وصف الغلو والمبالغة لـ”محبي الديمقراطية” ومريديها في إيران مردّه الى السياسة العميقة في النظام بعقده وعقيدته وتركيبته وبنيته منذ الثورة الإسلامية وقيام جمهوريتها في ظل وحكم الولي الفقيه المطلق الصلاحية غير المحددة في التطبيق والمحددة في الدستور الإيراني ومن هنا نبدأ.
“لقد حدَّدت المادة 110 من الدستور الإيراني وظائف المرشد وصلاحياته، فهو “يرسم السياسات العامة للنظام بعد التشاور مع مجمع تشخيص مصلحة النظام”، كما يصدر الأمر بالاستفتاء العام، وينظّم العلاقات بين السلطات الثلاث، التشريعية والتنفيذية والقضائية.
ووفقًا للمادة ذاتها، فإن مرشد الثورة يقود القوات المسلحة، ويُعتبر قائدها الأعلى، ويُعيِّن رئيس السلطة القضائية، ورئيس الإذاعة والتلفزيون، ورئيس أركان القيادة المشتركة للجيش، والقائد العام لقوات حرس الثورة.
ويُناط بالمرشد أيضًا توقيع حكم تنصيب رئيس الجمهورية بعد انتخابه من الشعب، ويحق له أيضًا عزله إذا اقتضت مصلحة البلاد ذلك، لكن هذا الأمر لا يتم إلا بعد صدور حكم عن المحكمة العليا، يقول بتخلّفه عن وظائفه القانونية، أو بعد إصدار البرلمان قرارًا بعدم كفاءته السياسية، وفقًا لما تنص عليه المادة التاسعة والثمانون.
ويحق له أن يُصدر العفو العام أو أن يصدر قرارًا بتخفيف العقوبات عن المحكوم عليهم “في إطار الموازين الإسلامية”، وبناءً على مقترح من رئيس السلطة القضائية.”
في حالة الرئيس الإصلاحي المنتخب في 5 تموز 2024، تكفي الإشارة الى أنه تسجّل في الانتخابات الرئاسية لعام 2021، لكن مجلس صيانه الدستور الخاضع بكليته وتفاصيله وقراره للولي الفقيه مرشد الثورة الإسلامية علي خامنئي، “لم يوافق على مؤهلاته”، مسقطًا حقه في الترشح لتتم الموافقة مع نفس المجلس بنفس الولاية وإرشادات المرشد على مؤهلات نفس الشخص للانتخابات الأخيرة التي أجريت بعد وفاة الرئيس إبراهيم رئيسي في 19 أيار 2024، وليكون بزشكيان المرشح الإصلاحي الوحيد الذي تنافس على الرئاسة بعد منع عشرات من المرشحين الآخرين من التيار والمؤهلات نفسها على الترشح.
لقد صرّح الرئيس الإصلاحي المنتخب بعد فوزه أن “فك العقد التي تواجهنا ستكون بإشراف القائد وحكمته” لتكون “الصفحة الجديدة” التي تحدّث عنها، هي من نفس “كتاب” مرشد الثورة الإسلامية التي أطلقها الإمام السلف الراحل الخميني والذي أصرّ الرئيس الجديد على زيارة ضريحه إثر إعلان فوزه، ليؤكد على ما للولي الفقيه من سلطات زمنية حددها الدستور، كما قرأنا، وسلطات روحية الهية تتخطى الدساتير والقوانين على ما هو منصوص في التعاليم وكما رأينا في حكم مَن سبقَ بزشكيان من الإصلاحيين، كالرئيس محمد خاتمي الذي ترأس الجمهورية من 3 آب 1997 وحتى 3 آب 2005 والرئيس حسن روحاني الذي ترأس من 3 آب 2013 حتى 3 آب 2021، من دون اي مس بجوهر الثورة والولاية الراعية لها. وما الانفتاح السابق على الغرب والانفتاح المنتظر اللاحق الا من قرارات المرشد واجتهاداته التي تبيح المحظورات أمام الضرورات من مثل ما حصل في الثمانينيات مع صفقة الأسلحة مع الإسرائيليين، بإجازة وسماح ومتابعة من الإمام الراحل الخميني حيث نقرأ في كتاب حلف المصالح المشتركة التعاملات السرية بين إسرائيل وإيران والولايات المتحدة للكاتب الإيراني ـ الأميركي الدكتور تريتا بارزي (الصفحة 141-143).
“لقد سمح الإمام الخميني لعدد كبير من اليهود الإيرانيين بالعودة الى إسرائيل مقابل تعاون عسكري ومبيعات أسلحة إسرائيلية لإيران أثناء زيارة لإسرائيل قام بها الإيراني أحمد كاشاني، النجل الأصغر لآية الله ابو القاسم الكاشاني، ليكون الرئيس في إيران حسب الرئيس الإصلاحي محمد خاتمي “سيفًا بلا نصل” ورئيسًا لا يرأس وحاكمًا لا يَحكُم بل يُحكم.
لقد اعتبر الممانعون من اللبنانيين وتحديدًا المؤمنين الملتزمين بالولي الفقيه الحاكم الفعلي في إيران، أن الإنتخابات الإيرانية وما نتج عنها نموذج يجب أن يحتذي به اللبنانيون أو يجب أن ينسحب على الانتخابات الرئاسية في لبنان، كيف لا وأمين عام حزب الولي الفقيه في لبنان، هو وكيل شرعي للولي الفقيه الحاكم في إيران وهو القائل في 11 تشرين الثاني 2013: “نحن عندما نأخذ القرار، أو ندخل إلى أي ساحة، أو إلى أي قتال، نحن لا نلجأ إلى عقولنا، ولا إلى علومنا ولا إلى مستوانا العلمي، ولا إلى ولا إلى… نحن نلجأ إلى فقهائنا وكبارنا ومراجعنا، الذين هم على أعلى مستوى من الفقاهة والعلم والاجتهاد والتقوى والورع والأمانة والوعي أيضًا”. وهو الذي عبّر عن إيمانه والتزامه أمام الإيرانيين المقيمين في لبنان على ما نقل موقع “فردا نيوز” الايراني في 13 آذار 2018: “إن مكانة ولاية الفقيه فوق الدستور اللبناني، ونحن نؤمن بذلك، ونعتبر تنفيذ اوامر ولي الفقيه واجبًا إجباريًا”.
عليه تكون أوامر الولي بتنفيذ القرار المتخذ في إيران واجبًا إجباريًا نفذه الوكيل عن الأصيل من دون الأخذ برأي أحد من الشركاء على الأرض اللبنانية، وقد أكد عليه نصرالله أخيرًا بقوله في 7 تموز 2024: “كنا نعد لهذا المستوى من الموقف والقرار الذي اتخذناه في لبنان وهو فتح الجبهة مع العدو”.
قد يكون خير تعبير عن عبثية الخلط بين السلطة السياسية المنتخبة في إيران والقرارات المتخذة من مرشد الثورة الإسلامية في إيران الواجبة التنفيذ من الأتباع في المنطقة وخاصة لبنان وحزبها فيه، هو في توصيف نصرالله ومقاربته لولاية الفقيه ومفارقته عن السلطة السياسية في إيران في الجزء الأول عن “الحزب” في وثائقي أحزاب لبنان الذي أنتجه وبثه تلفزيون الـ”NBN” في العام 2001 إذ يقول حرفيًا: “نحن علاقتنا مع النظام السياسي في إيران هي علاقة مع دولة إسلامية صديقة نحبها ونودها… ونريد لها أن تكون قوية… ونتعاون معها… ونحن لا نعتبر أن نظام الجمهورية الإسلامية في إيران هو وليّ أمر المسلمين، وبالتالي أي حركة إسلامية يجب أن تلتزم بأوامر هذا النظام أو توجيهات هذا النظام ،لكن مقام الإمام هو مختلف، نحن ننظر الى الإمام بمعزل عن النظام على أنّ له هذا الموقع القيادي أو “الولايتي” إن صحّ التعبير، بالتصدّي لأمور المسلمين المختلفة، وعلى هذا الأساس كنا نتصل بالمسؤولين الإيرانيين في الجمهورية الإسلامية ونتعاون مع المؤسسات في الجمهورية الإسلامية، والنظام في الجمهورية الإسلامية يقدم أشكالًا متفرقة ومختلفة من الدعم، لكن العلاقة مع الإمام الخميني ولاحقًا وحاليًا مع الإمام الخامنئي هي علاقة من موقع هذه الرؤيا وهذه النظرة في الحقيقة”.
من كل ما تقدم وانطلاقًا من أن معرفة السبب تُبطِل العجب، تُفهم حركة “الحزب” و”الحركة” في جهودهما ومحاولاتهما الحثيثة في تشكيل “طاولة حوار” تكون بمثابة “مجلس صيانة دستور” لبناني، يكون خاضعًا لوكيل الولي الفقيه في لبنان ليسمي الرئيس ويسيّره ويدير شؤون الجمهورية والحكومة ووزرائها وقراراتها في السلم والحرب بـ”معزل عن هويتهم السياسية أو الطائفية”، لذلك يصبح من الواجب معارضة ومحاربة النموذج الإيراني الدكتاتوري في لبنان ولو أُلبس لباسًا انتخابيًا ديمقراطيًا إصلاحيًا.