مع اضمحلال نظريات وعقائد الأحزاب القومية في الشرق عامة ولبنان خاصة حتى سقوطها بعد مرورها بالتجارب المخيبة لآمال المحازبين الملتزمين المؤمنين قبل الأنصار والمؤيدين الذين أعجبوا بفكرة القومية المستوردة من أوروبا آنذاك، لا تزال بعض بقايا وفلول تلك الأحزاب الآيلة الى الانقراض الفعلي والزوال النهائي تقيم المهرجانات والاحتفالات لمناسباتها، الحزبية في محطات أثرت في تاريخ أحزابها ووسمت وطبعت عقيدة هذا النوع من “الأحزاب”، ونخص منها في هذا المقال الحزب السوري القومي الاجتماعي وظاهرة وجدلية مؤسسه الزعيم أنطون سعادة.
أتت ذكرى إعدام مؤسس ورئيس الحزب السوري القومي الاجتماعي في الثامن من تموز 1949، مع استمرار طرح الأسئلة المبرّرة والمشروعة على ما مرّ به الحزب منذ التأسيس، مرورًا بالإعدام وصولًا الى ما هو عليه اليوم من انقسامات داخلية وولاءات خارجية بعيدة كل البعد عن عقيدة الحزب ودستوره ونهج زعيمه ومؤسسه وتعاليمه، من مثل ارتباط الحزب القومي السوري العلماني وتبعيته لنظام حزب البعث في سوريا والتحاقه اليوم بالحزب الإسلامي الشيعي حزب الجمهورية الاسلامية في لبنان.
لقد وجهت الاتهامات للحزب السوري القومي الاجتماعي وزعيمه منذ نشأته وحتى الساعة، عن استيراده للفكرة القومية من ألمانيا النازية، وعن استنساخه ونقله في الشكل والمضمون العقائدي وفي الإسم والطقوس والخطابات عن الحزب النازي الوطني الاشتراكي، وما يؤكد توجيه مثل تلك الاتهامات هو دفاع الحزب بشخص زعيمه، محاولًا إنكار وردّ التهمة عنه، رسالة توجيهية لأنطون سعادة إلى رئيس وأعضاء مجلس إدارة جريدة “سورية الجديدة” في 10 تشرين الثاني 1939 يقول فيها: “إن سياسة الحزب السوري القومي هي سياسة سورية قومية مستقلة غير مختلطة مع أية سياسة أجنبية، كما هو مبين ومشروح في مبادئ الحزب وخطاب الزعيم ومقالاته. ولذلك فإن سياسة “سورية الجديدة” لا تخرج عن التوجيهات الرسمية، إن سياسة الحزب السوري القومي ليست فاشية، إن سياسة الحزب السوري القومي ليست نازية”. ولتأكيد المؤكد، عاد سعادة وقال في الاجتماع الأول للقوميين في 1 حزيران 1935: “أريد بهذه المناسبة أن أصرّح أن نظام الحزب السوري القومي الاجتماعي ليس نظاماً هتلريًا ولا نظامًا فاشيًا، بل هو نظام قومي اجتماعي بحت لا يقوم على التقليد الذي لا يفيد شيئًا، بل على الابتكار الأصلي الذي هو من مزايا شعبنا”.
كل ما ورد من نفي وتبرير وإنكار، لم يقنع الكثيرين آنذاك وما زال غير مقنع للقارئين المقارنين بين العقائد والنظريات والخطابات والتطبيقات، إذ إن الوقائع والمؤلفات ودستوريّ الحزبين المقارنَين، يشي بعكس ما حاول ويحاول الحزبيون القوميون السوريون الاجتماعيون إنكاره أو تأكيده، وهذا ما سنقوم على تفنيده في هذا المقال البحثي العلمي العقائدي.
فالكثيرون من اللبنانيين وأبناء الهلال الخصيب ونجمته قبرص في “أمة” سعادة السورية، كانوا يرون في سعادة “متعاملًا” مع النازيين الألمان، معاديًا لفرنسا وبريطانيا والإسرائيليين.
كما أن نخبة من المفكرين رأوا في تسميتيّ الحزب السوري القومي الاجتماعي والحزب النازي الوطني الاشتراكي، تشابهًا ونقلًا من الأول عن الثاني، إذ إنه من المعروف أن كلمة “National” قد تترجم بعدة طرق، فقد تأتي بسياق قومي أو بسياق وطني، فالاثنتان تنشقان من وطن أو أمة “Nation”، وقد يكون الانتماء الى الأمة وطنيًا أو قوميًا، لفظان يعنيان معنى واحدًا.
كما أن كلمة “Social” والتي ترجمت كاشتراكي للحزب النازي، قد تترجم لاجتماعي في عبارة أخرى. فـ”Social” تأتي من “Society” التي تعني “مجتمع”، وبالتالي “Social” تعني اجتماعي بقدر ما تعني اشتراكي.
نجد إذًا أن الحزبين متشابهان في التسمية، بحيث أن الحزب السوري القومي الاجتماعي، هو ترجمة حرفية لـ”ssnp” Syrian social National Party المستنسخة من: National Socialist German Workers Party أي الحزب الألماني الذي يحمل العقيدة النازية.
كما يظهر جلّيًا عند القارئين التطابق في تأليه الزعيم بين “القومي السوري” و”القومي الألماني”. فدستور الحزب 1934 يقول: “تأسس الحزب السوري القومي الاجتماعي بموجب تعاقد بين الشارع صاحب الدعوة إلى القومية السورية الاجتماعية وبين المقبلين على الدعوة، على أن يكون واضع أسس النهضة السورية القومية الاجتماعية زعيم الحزب مدى حياته، وعلى أن يكون معتنقو دعوته ومبادئه أعضاء في الحزب، يدافعون عن قضيته ويؤيدون الزعيم تأييدًا مطلقًا في كل تشريعاته وإدارته الدستورية”، كما أن سعادة يقول بنفسه في شروح العقيدة صفحة 132: “آمنتم بي معلّمًا وهاديًا للأمة والناس… وآمنت بكم أمّة مثالية معلمة وهادية للأمم. وقد قوي إيمانكم بي إيماني بكم”، ويضيف في الصفحة 171: “المسيحية ابتدأت بفرد، وكذلك المحمدية، وكذلك القومية الاجتماعية”.
حتى سعادة نفسه يشير إلى نفسه بلفظ “الزعيم”، مما يعطي قيادته نوعًا من القدسية المستمرة.
بالنسبة للشعار، يكفي النظر الى شعاري الحزبين القوميين، لإدراك التشابه الكبير الى حد التطابق الكبير بين شكل “الصليب” عند ذاك و”الزوبعة” عند هذا.
في مقاربة الرجلَين “الزعيمَين” لما أسمياها “السلالات”، كذلك نقع على تشابه ونقل ونسخ بين السابق واللاحق، فيقول السابق أدولف هتلر في كتابه كفاحي في الصفحة 167: “ولا خلاف أن وجود أعراق منحطة، بالنسبة الى الأعراق المتفوقة، كان شرطًا أساسيًا لتأسيس الحضارات”، بينما ننقل ما نقله عنه الزعيم “القومي السوري” أنطون سعادة في “المحاضرة الرابعة ـ من المحاضرات العشر”، إذ يقول: “مع ذلك، لا بد من الاعتراف بواقع الفوارق السلالية ووجود سلالات ثقافية وسلالات منحطة وبمبدأ التجانس والتباين الدموي أو العرقي، وبهذا المبدأ يمكننا أن نفهم نوعية المزيج المتجانس الممتازة والمتجانسة تجانسًا قويًا ونوعية البيئة”.
كما ينقل سعادة عن هتلر من نفس كتاب هذا الأخير ما ورد في صفحته الـ162 عن نتيجة التزاوج مع السلالات الأدنى والذي يقول فيه: “إن التزاوج مع السلالات الأدنى يوجِد شعوبًا أدنى، أو يفني الحضارات وإن كل اختلاط بين الأجناس يفضي الى تدني مستوى الجنس المتفوق. ومن المحاضرة الرابعة ـ المحاضرات العشر، ينكشف النقل بقول سعادة: “ولذلك تبقى مسألة المزيج السلالي مسألة علمية ثابتة لا يمكننا أن نتهرب منها، فالسلالة المتفوقة ينتمي اليها السوريون الكنعانيون… أما غيرهم فمن سلالات منحطة”.
كما نجد استيرادًا ونقلًا واقتباسًا مماثلًا في نشيد “القوميين” والذي جاء فيه أن “سورية فوق الجميع” على غرار نشيد حزب هتلر “ألمانيا فوق الجميع”.
كما أن النقل والاقتباس يتجليّان في القمصان التي ارتداها القوميون السوريون المشابهة لقمصان “الشباب النازي” والتحية للحزب والزعيم الواحدة المتطابقة بين أتباع الحزبين السوري والألماني.
وتأكيدًا على ما بينّا، نخلص الى ما كتبه الشهيد كمال جنبلاط في 13 أيار 1955 في جريدة الأنباء وفي عز صعود “القومية السورية” المستوردة المقتبسة من أوروبا والمسقَطة على لبنان واللبنانيين، والناقلة حرفيا وأداءً وطقوسًا عن “القومية الألمانية”، إذ يقول: “آخذ مثلًا على ذلك، إعلان الزعيم، بعد رجوعه من المهجر تبنّيه لعلم الزوبعة من دون سواه وهو الصليب المعكوف المعدّل، السواستيكا الهندو آرية ـ وتلقيبه بالزعيم أي الفوهرر، وانتهاجه وتقليد المسؤولين معه لحركات الألمان وأحاديثهم وتصرفاتهم الآلية الخارجية، ولأساليب النازية في محاولة التأثير على الضعفاء في مقابلتهم للزعيم، وفي طرق الدعاية العنفية الكلامية المرتكزة الى إيقاع خاص للكلام… نورد فقط شاهدًا على ما توصّلت اليه هذه العقلية الجرمانية المقتبسة في ذهن سعادة ذاته، من تطوّر خطير، ونظرًا لضيق العجال، هذه الفقرة من توجيهات رئيس الحزب القومي لجماعته فور عودته من المهجر، يستعرض بعض الفصائل النازية وكأنه هو حقا الفوهرر، بقوله، ولكن سيأتي يوم، وهو قريب، يشهد فيه العالم منظرًا جديدًا وحادثًا خطيرًا. رجالاً متمنطقين بمناطق سوداء، على لباس رصاصي، تلمع فوق رؤوسهم حراب مسنونة يمشون وراء رايات الزوبعة الحمراء يحملها جبابر من الجيش”، ليشرح جنبلاط بعد ذلك في مقالته: “اللباس الرصاصي بمقابلة قمصان الكاكي النازية السمراء، الحراب المسنونة هي ذاتها التي يحملها الأنفار البروسيون على قبعاتهم، أعلام الزوبعة مقابل أعلام الصليب المعكوف، والمناطق السوداء هي على ما نظن ذاتها عند الفريقين”.