ملوك وأمراء ومشاهير وجواسيس.. لما كانت فنادق لبنان “تبيض ذهبا”

حجم الخط

فينيسيا ـ لبنانالسان جورج ـ لبنانبيروت ـ لبنان

كان الزمن جميلًا.. وكان لبنان لؤلؤة هذا الشرق وسويسراه، والكل إليه يتهافت، عرب وأجانب، كان للكل مرتعًا ومتنفسًا، لا بل قُل حلمًا.. هنا في بيروتنا كما في جبالنا، كنت لترى كل أطياف العالم يجولون في ربوعنا، ملوك ورؤساء وأمراء، نجوم ومشاهير، وسياح تراكضوا إليه من الشرق والغرب، ألسنة “تترغل” بكل اللغات، ولبنان يلاقيها ويبسط يديه “أهلًا وسهلًا” وكل ما فيه “ينغل ويغلي”، فرحًا وازدهارًا فنًا وثقافة، فارضًا نفسه سيد هذا الشرق سياحة وترفيهًا، وقد أدمن حتى الثمالة فن ورقي استقبال ضيوف أتوه وفي البال الكثير الكثير، لكن وأولا، قضاء إجازاتهم، طويلة أم قصيرة، في فنادق لبنان، بكل نجماته، وما أدرانا أجيال اليوم بفنادق لبنان تلك الأيام، صروح عريقة صنعت مجده السياحي ونحتت صورته الراقية التي ضاهى بها أعرق البلدان السياحية الأوروبية.. نعم هي فنادق لبنان، تاريخ وحكايات عز ومجد، بـ”خمس نجوم”.

كانت أيام عزّ، وكانت واجهة لبنان فنادق مبهرة تلمع عراقة ورقيا، أزهرتْ مجدًا، كبرت وتمددت، بكل نجماتها، من بيروت صعودًا الى كل الجبال والمناطق اللبنانية ناسجة معها حكايا سياحة واصطياف وازدهار، لا تتسع لحكايات عزّها وأمجادها مجلّدات.

حكاية العزّ تلك تعود جذورها الى أيام العهد العثماني، يومها ما كانت لبيروت فنادق، إنما خانات خُصصت للآتين من خارج المدينة برًا أو بحرًا، وهم من التجار وأصحاب الأعمال والباحثين عن المشاريع التجارية أو الصناعية، تلك الحانات التي انتشرت في عدة مدن لبنانية أبرزها صيدا، سبقت إنطلاقة الفندق في لبنان، لا بل أرست لانطلاقته مع بدء القرن التاسع عشر حيث تبدلت المفاهيم محوّلة معها الفندق من مكان للمبيت لليلة أو ليلتين الى مكان يقصده المسافر لقضاء عطلة أو لاكتشاف بلد جديد على طريقة رحالة الشرق وغيرهم من البعثات العلمية والأدبية والتجارية.

وما تأخر لبنان الحلو المضياف عن فتح ذراعيه واسعًا لهذه الموجة الجديدة، لينخرط سريعًا حتى العظم برسم أولى ملامح لبنان السياحة. ويُروى أنه عندما كانت السفن تصل الى مرفأ بيروت كانت مجموعة من الزوارق تندفع لملاقاتها وعلى متنها وكلاء السفر الذين يأتون لاصطحاب السياح والفندقيون الذين كانوا ينادون على مزايا لوكنداتهم، كما كانت تُسمّى آنذاك، كمن ينادي على بضاعته في أحد الأسواق، فكانوا يصطادون السياح حتى قبل أن تطأ أقدامهم أرض المرفأ.

 

“أوروبا” الطلياني.. أول فندق في بيروت

مما يُروى أيضًا، أن الإيطاليين واليونانيين كانوا أول من أرسى لإنشاء الفنادق في بيروت، فحملوا معهم خبراتهم وتركوا بصمات كثيرة لناحية الهندسة أو الخدمات، فكان بناء أول فندق عرفه مرفأ بيروت عام 1849 على يد الفندقي الشهير باتيستا تحت إسم “أوروبا” الذي صار مركزًا للسياح الأوروبيين، لتكرّ وراءه سلسلة فنادق انتشرت بشكل لافت، ولتشهد ساحة البرج إقامة عدد كبير من الفنادق الشهيرة وأبرزها “لوكندة كوكب الشرق” و”فندق الخديوي” و”أوتيل غاسمن” نسبة الى صاحبه السويسري والذي تبدل اسمه بعد الحرب العالمية ليصبح “أوتيل رويال”.

نزولًا نحو البحر، الى منطقة الزيتونة وعين المريسة، قامت فنادق عدة لا تزال شهرتها تتوارد حتى أيامنا بعد أن حوّلت ليل بيروت مرتعًا عالميًا للهو والسهر، وليسجل العام 1849 افتتاح أول فندق كبير هو أوتيل “بل فو” لصاحبه أنطوان ترمستي، وقد تحوّلت ملكيته لاحقًا الى شاب كان يعمل دليلًا سياحيًا هو نقولا بسول الذي جنى بإدارته المميّزة للفندق أرباحا كبيرة، فقرر بيعه وبناء فندق ضخم أطلق عليه إسم “الشرق الكبير” الذي تمتع بشهرة كبيرة جعلت من عائلة بسول ركنًا كبيرًا في القطاع الفندقي اللبناني.

وكرّت السلسلة، فكان أوتيل “كونتيننتال” الذي بني مكانه لاحقًا “النورماندي” أو “أوتيل رفول” وله قصة شيّقة رواها صاحبه رفول موقديه في إحدى المقابلات وتقول: “قبل 1940 لم يكن في بيروت فنادق درجة أولى باستثناء فندق السان جورج الذي لم يكن كافيًا لاستيعاب النزلاء، فقرر رفول موقديه بناء فندق ضخم في بيروت قرب البحر. اندلعت الحرب العالمية الثانية عام 1939 وكان الفندق جاهزًا إلا من بعض الأثاث. تهافت الضباط الإنكليز على هذا الفندق نظرًا لما كانوا يرونه من مآدب فخمة وسهرات عامرة وكان “الميتر دوتيل” طلياني”.

 

“عند رفول بالنورماندي” سياسة وضحك

في مرحلة الاستقلال، صار “النورماندي” مقرّ الرئيس رياض الصلح ورجال السياسة، وكان الصلح يعطي مواعيده “عند رفول بالنورماندي”، ومن هؤلاء الرؤساء بشارة الخوري وصائب سلام وفؤاد شهاب وسليمان فرنجية وخليل تقي الدين وغيرهم، ما دفع برفول الى تخصيص صالون خاص بهم لعقد الاجتماعات السرية حيث كانت تُشكَّل هناك، ومن على طاولة الصلح، الحكومات وتوزّع الوزارت، ومن هناك كان “رياض بك يرسل في طلب الفكاهي الشهير نجيب حنكش وصاحب مؤسسة الصياد الإعلامي الكبير سعيد فريحة وتنطلق جلسات الضحك”.

وما كان ذلك وحسب، فإلى أهل السياسة، ملوك وأمراء ومشاهير نزلوا في “النورماندي” بينهم الملك حسين والكاتبان إحسان عبد القدوس وطه حسين والمغنيان الفرنسيان شارل أزنافور وجيلبير بيكو. وفي هذا الفندق أُقيم عرس منى الصلح، إبنة رياض الصلح، والأمير طلال، والذي طنطنت لفخامته ورقيه كل بيروت.

وعلى ذمّة صحافة السبعينات، أقفل “النورماندي” أبوابه بسبب سأم صاحبه، خصوصًا إثر اغتيال نزيله الأبرز رياض بك الصلح وتكاثر الفنادق من حوله.

نعم تكاثرت الفنادق في بيروت، وصارت ملاذًا ومقصدًا ممتعًا مجتذبة إليها السياح العرب والأجانب ورجال الأعمال والمستثمرين.. وإليكم القليل من فيض حكاياتها..

 

السان جورج.. وبار الجواسيس

هو أقدم فنادق العاصمة اللبنانية بيروت، وأيضًا أشهر فنادقها قاطبة. بدأ نشاطه عام 1934، ليتحوّل سريعًا مقرًا لسياح بيروت الأكثر تميّزًا، ومكان التقاء للشخصيات السياسية اللبنانية والعربية وللأثرياء وكبار رجال الأعمال في مجال النفط والمصرفيين.

ما كان نزلاء ذاك الفندق عاديون، كانوا شخصيات تحرك سياسة الشرق الأوسط.. ففي قاعاته، أُبرمت الصفقات السياسية والتجارية، على مقاعد باره الشهير كُتبت مانشيتات الصحف والتحليلات السياسية، والى مقاعد ذاك البار، تهافت السياسيون والمراسلون والديبلوماسيون العرب والأجانب، وأيضًا جواسيس عالميون، ليُطلق على ذاك البار لقب “بؤرة الجواسيس” وقد عززها، إدمان كيم فيلبي، الضابط البريطاني الشهير لـ MI6 الذي تجسس لحساب السوفيات لأكثر من 30 عامًا، على ارتياد ذاك البار بعد ظهر كل يوم لشرب خمس أو ست كوكتيلات قبل الذهاب مترنحًا إلى شقته في شارع القنطاري القريب منه.

وفي العام 1973 صنّفت مجلة “فورتشون” العالمية بار السان جورج أحد أبرز سبعة بارات في فنادق العالم التي تصلح كمراكز للأعمال الدولية.

وليس هذا وحسب، ففي ذاك الفندق “الخمس نجوم”، كنت لتلتقي وجوه المجتمع الفني الراقي ومشاهير العالم من إليزابيث تايلور وريتشارد بورتون وبريجيت باردو أو بيتر أوتول أثناء إستراحته من تصوير فيلم “لورانس العرب” في الأردن، أو شاه إيران السابق، أو أم كلثوم، أو ملك مصر فاروق والكثيرون الآخرون… نعم كان السان جورج الأقدم والأشهر، لكنه ما كان وحيدًا على الساحة، كان ثمة من يقارعه…

 

“فينيسيا” الأسطوري.. مشاهير وقصص حب

هو فندق “إنتركونتيننتال فينيسيا” الأسطوري بعمارته البيضاء وشرفاته المزخرفة، وتاريخه العريق، بكل حلوّه ومرّه. بدأت حكايته أواخر العام 1953، يومها كانت الصناعة الفندقية بدأت بالازدهار، وكانت الحاجة ملّحة الى فنادق كبيرة من فئة الخمسة نجوم، فأسس رجل الأعمال نجيب صالحة شركة الفنادق الكبرى مع عدد من زملائه وبنوا فندقًا ضخمًا في عين المريسة ليصبح ثاني فندق في العالم تديره شركة “إنتركونتيننتال” العالمية خارج الولايات المتحدة والأول في الشرق الأوسط.

افتتح الفندق عام 1961 فكان الأكبر في الشرق الأوسط، ومع ذلك، اضطُرت شركة الفنادق الى توسيعه لأنه كان يضيق دائمًا بالنزلاء، حتى أن الإدارة اضطُرت الى تأجير الغرف لزبونين في اليوم الواحد. ومنذ افتتاحه، شكل فينيسيا نقطة جذب لرجال الأعمال والسياح العرب والأجانب ومحط أنظار الشرق والغرب، مستضيفًا أسماء لامعة في عالم السياسة والفن والإعلام، ومؤتمرات وقمم عربية وعالمية.

ومن أشهر نزلائه عمر الشريف، وشيرلي باسي، ومحمد عبد الوهاب، ومارسيل كارنيه، وجيلبير بيكو، ومارلون براندو وغيرهم. وفيه تم تصوير مشاهد لأكثر من فيلم سينمائي، نذكر بينها واحدًا من سلسلة أفلام العميل البريطاني (007 جايمس بوند). وفيلم twenty- four hours to kill في العام 1965.

قصص حب عديدة وُلدت في أروقة هذا الفندق ودُوّنت في مذكرات وكتب. فنجمة الستينات الإيطالية إلسا مارتينللي كانت في فندق “فينيسيا” عندما تعرفت إلى خطيبها ويلي ريتزو المصوّر المعروف في مجلة “باري ماتش”. وكذلك فاتن حمامة وعمر الشريف اللذان شهد “فينيسيا” تكملة لقصة حبهما خلال افتتاح فيلم من بطولتها “الباب المفتوح”. فالتقط لهما مصوّر الفندق صورًا فوتوغرافية، وهما في حالة انسجام وحب. ولا تنسى ذاكرة الفندق النجمة بريجيت باردو التي زارته في ألقه ونزلت في الفندق مع زوجها غانتر ساكس، فاختارا مطعم “لو باناشيه”، كي يشكل أول محطة لهما بعد زواجهما في 14 تموز 1966.  وتروي صحف تلك الأيام أن حربًا خفية كانت تدور بين فنادق بيروت الفخمة، إذ كان سائقو التاكسي يتقاضون من صاحب الفندق بين 10 و15 ليرة عن كل سائح يحضرونه، ويشتد الصراع أكثر على مستوى الطيارين الذين كانوا يتمتعون بصدقية المسافرين والسياح، ليسجل أن أوتيل فينيسيا وحده كان قادرًا على استيعاب ركاب طائرة كاملة.

 

“الكارلتون” لوّ حكى…

ليس بعيدًا عن كل ذاك العزّ، كان لبيروت أيضًا أوتيل الكارلتون العريق، قبلة السياح من مختلف أنحاء العالم، ومعقل المثقفين والثوريين على امتداد عشرات السنوات. فالفندق الذي لفظ أنفاسه الأخيرة عام 2008، طاويًا ذاكرة وتاريخًا سياحيًا وسياسيًا حافلًا امتد من الستينات وحتى منتصف السبعينات، عكس منذ انطلاقته في شباط 1960، طابعًا خاصًا به، بعدما كان أول الفنادق العصرية الراقية التي بُنيت في لبنان في هذه الحقبة، وساهمت في استقطاب السياح بمواصفاتها العالمية. ولو أُتيح لجدران الكارلتون أن تحكي، لروت الكثير الكثير عن خفايا وكواليس اجتماعات كبار الشخصيات السياسية والتي نتجت عنها خيارات سياسية كبيرة حدّدت معالم لبنان الحديث.

كان الكارلتون محطة لا بدّ منها لأهم رجالات السياسة في العالم، الذين حضروا الى لبنان، من الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون الى القادة العرب. وفي العام 1977، أثناء ما عُرف بـ”حرب السنتين” جمع الفندق وزراء الخارجية العرب في سعي منهم لإنهاء الوضع المتأزم في لبنان. إلا أن الأوضاع السياسية التي أحاطت بفندق الكارلتون وطبعت مسيرته، لم تخلع عنه ثوب الفرح والسياحة التي شيّد من أجلهما، حيث أقيمت في صالاته أهم حفلات الزفاف وأضخمها لكبار الشخصيات. ومع أن الاحتفال بانتخاب ملكة جمال العالم قبل الحرب اللبنانية في الأعوام 1964 و1965 و1966 كان يُقام في كازينو لبنان، فإن الكارلتون اختير ليكون مقر إقامة المرشحات لهذا اللقب، بعدما كان استقبل انتخاب ملكات جمال لبنان لأعوام عدة. كما استقبل الكارلتون في مرحلة ازدهاره حفلات لكبار الفنانين اللبنانيين والعرب، وأقام فيه كبار الممثلين المصريين الذين كانوا يأتون الى لبنان لتصوير أفلامهم. لكن الحرب اللبنانية لم تترك من الكارلتون إلا الذكريات الجميلة. فبعد رحلة طويلة من العراقة والإزدهار، انتهت مسيرته الطويلة ليتحوّل بطبقاته العشر وموقعه المطلّ على أروع المناظر، في العام 2011، الى ثلاثة أبراج سكنية فخمة… وما اقتصرت هذه المأساة عليه.

“البريستول”.. وولائم القصر الجمهوري  وها هو منافس “الكارلتون” الأبرز في منطقة راس بيروت يسير على خطاه، كان ذلك في العام 2020 حين أقفل  فندق “البريستول” العريق مع نجومه الخمس، أبوابه وهو على أبواب سبعينه. كان “صادمًا” خبر إقفال الفندق الذي كان يُعدّ منذ تشييده عام 1951، أحد الفنادق الكبرى في الشرق الأوسط، والأكثر شهرة في بيروت ولبنان، وأيضًا الأكثر حظًا لبنائه في قلب فردان وخارج نطاق منطقة عين المريسة، مما نجّاه من سعير حرب الفنادق الشهيرة.

والفندق الشهير الذي يُسجل له استضافته أول حلبة للتزلج على الجليد في لبنان، لطالما كان نقطة جذب لشخصيات كبيرة أمثال ألبرت الثاني أمير موناكو ومحمد رضا بهلوي شاه إيران وجاك شيراك رئيس فرنسا وأميرة إيران ثريا، والشاعر الشهير نزار قباني، كما كان الأمين العام السابق للأمم المتحدة السيد بطرس غالي أحد ضيوف الفندق البارزين. ولطالما كانت قاعة المؤتمرات فيه الشاهدة بسرية على ما كان يدور ما بين السياسيين، ولتشهد قبته على لقاءات البريستول الشهيرة.

ذاعت شهرة مطبخ البريستول في الوسط البيروتي وكانت لافتة قدرته على تعهد خمس أو ست دعوات خارجية يوميًا، إذ كان يملك أكبر كمية من أدوات المائدة في لبنان تكفي لخدمة الآلاف، ما جعل القصر الجمهوري والقصر الحكومي يتعاملان معه، ولكم تحدث عماله عن الغداء الشهير الذي إقامة الرئيس الراحل سليمان فرنجية في مطار رياق على شرف وزير الخارجية الأميركي هنري كيسينجر عام 1974.

فمطبخه الشهير ذاك، اجتذب إليه عددًا كبيرًا من الملوك ورؤساء الدول للإقامة فيه والاستمتاع بأطباقه وحلوياته، ما جعله منافسًا كبيرًا لفندق السان جورج. وما ساعده على البقاء بقوة استمراره بالعمل خلال الحرب، إذ لم تتوقف المآدب والمؤتمرات. وكان البريستول المكان المفضل لانعقادها، خصوصًا أنه كان يتمتع بالتيار الكهربائي والماء والثلج حتى في أكثر أيام الحرب ضراوة ودمارًا.

وجاء إقفاله لاحق بمثابة الخبر “القاتل” بعدما كان البريستول جزءًا من تاريخ وتراث بيروت زمن الازدهار الاقتصادي، ومعلّمًا مرادفًا لأيامها الذهبية.

 

الى عاليه.. مرتع الملوك والأمراء

من بيروت صعودًا الى الجبل.. هناك يركن “مثلث العزّ الذهبي” لعصر السياحة الخليجية في لبنان، عاليه وبحمدون وصوفر، مصايف “جنّنت” السيّاح الأجانب والعرب على حدٍ سواء، وقد عزّز معظمها بصالات للحفلات الفنية وأيضًا لألعاب الميسر، وما كان كازينو لبنان أبصر النور بعد، لتستحق عاليه لقب “لاس فيغاس الشرق”.

حكاية الفنادق في عاليه بدأت عام 1885 عندما بنى ميشال حبيب بسترس الفندق الأول، وكرّت السبحة الى أكثر من عشرين فندقًا بدرجات متفاوتة صاروا قبلة العرب والخليجيين، فغصت بهم فنادقها ومطاعمها حتى “التفويل”، لتفيض بسواحها على جارتيها صوفر وبحمدون، ومنهما الى كل البلدات المجاورة وصولًا حتى المتن الأعلى.

وأن نتحدث عن عاليه السياحة والاصطياف هو أن نتحدث عن علامتين فارقتين صبغت تاريخ عز الفنادق في لبنان، هما فندقا “الجبيلي” و”طانيوس” العريقان والشاهدان على محطات مهمة من تاريخ لبنان السياحي قبل أن تأتي الحرب وتدمّر وتخطف عزّ كبير ما بقي منه سوى حكايات وحنين لأيام وزوار “ما كانوا حيالله نزلاء وزوار”.

نزلاء فنادق “عروس المصايف”، كان بينهم الرئيس الفرنسي شارل ديغول، الإمبراطور هيلاسيلاسي، الملك السعودي فيصل بن عبد العزيز، قيادات سياسية عربية ومحلية، وكبار فناني العالم العربي كفريد الأطرش وأم كلثوم ومحمد عبد الوهاب وعبد الحليم حافظ وغيرهم الذين أحيوا حفلات فنية ضخمة في صالات الفنادق. ولم تقتصر علاقة هؤلاء بفنادق عاليه على إحياء الحفلات، إذ غالبًا ما كانوا يمدّدون إقاماتهم للتمتع بطقسها المنعش صيفًا، لتضيق الفنادق التي يقيمون فيها بمحبيهم ومعجبيهم.

ويروى أن عبد الوهاب صوّر عددًا من مشاهد فيلم “دموع الحب” في فندق “الجبيلي”، وأن أمير الشعراء أحمد شوقي والأخطل الصغير وشعراء آخرين كانوا من نزلائه. فيما غنّت صباح في فندق “طانيوس” عندما كانت في الثالثة عشرة من عمرها.

كانت عاليه نقطة الضوء والجذب صيفًا، وكانت فنادقها ركنًا أساسيًا في صناعة ذاك المجد. وسجلات زوارها الذهبية الشاهد الأكبر على تواقيع كبار الشخصيات والملوك والرؤساء والمشاهير، ممن كانت عاليه قبلتهم ومرتعهم المفضل، قبل أن تندلع الحرب وتشرّدهم وتغيّر وجهاتهم نحو بلاد أخرى، لتبقى عاليه في بالهم حنينًا وذكريات عن عزّ كان وحلم هيهات أن يعود.

 

صوفر وفندقها الكبير.. أرستقراطية وقمار

ومن عاليه “العروس” صعودًا نحو جارتها، كانت جنة أخرى للسياح في ربوعنا، هي صوفر وذاك الفندق الكبير، نقطة التقاء أرستقراطيي لبنان وطاولة “الروليت” المتمددة، تحفة هندسية وفنية حوّلت صيفيات صوفر ولياليها الى عرس دائم، وهنا حكاية عز أخرى.

كان ذلك في العام 1892 حين ارتأت عائلة سرسق الأرستقراطية بناء فندق كبير في هذه القرية الواقعة على خط القطار الآتي من بيروت، وكانت ضربة المعلم، بإلحاقه بكازينو كان الأول من نوعه في لبنان والشرق الأوسط، ما رفع عدد زواره، وتهافتت إليه العائلات الثرية خصوصًا البيروتية من آل بسترس وسرسق وتابت، وليتوّج سريعًا أبرز فنادق الشرق الأوسط مطلع القرن العشرين.

وما اقتصر زواره على الطبقة البورجوازية، الفندق الكبير سرعان ما اجتذب إليه نخبة نجوم الفن لبنانيين عربًا وأجانب، ولعب دورًا كبيرًا في أحداث سياسية بارزة في لبنان والعالم العربي، حين احتضنت قاعاته وحدائقه اجتماعات ولقاءات سرية جمعت أمراء ودبلوماسيين وجنرالات فرنسيين وبريطانيين. وهي صورة قديمة لوكالة “فرانس برس” التُقطت عام 1947، تؤرخ لاجتماع عقدته اللجنة السياسية لجامعة الدول العربية في هذا الفندق في أيلول 1947 خصصت لمناقشة قضية فلسطين قبل عام من إعلان قيام دولة إسرائيل.

هناك كنت لتشهد على اجتماعات زعماء سياسيين وعرب وأجانب يصنعون التاريخ، وكنت أيضًا لترى سيدات المجتمع المخملي متألقات بأفخر الجواهر وفساتين الديكولتيه الممهورة بأسماء كبار مصممي الأزياء العالميين يتمايلن ويرقصن في أرقى الحفلات. وصارت صوفر ملتقى المجتمع المخملي، لتتوّج وفندقها وذاك الروليت الحامل لقب أول كازينو في لبنان والشرق، جوهرة المصايف في لبنان بلا منازع.

 

من بحمدون الى برمانا

شهرة عاليه وصوفر وفندقها الكبير اجتذب إليهما عائلات مصرية وعراقية ميسورة في الثلاثينات والأربعينات، لكن غلاء الإقامة فيهما دفع الزوار الى التمدد باتجاه قرى مجاورة أقل غلاء، بينها بحمدون، لتتحوّل بدورها الى مقر جديد للاصطياف سرعان ما شهد ازدهارًا وإنماءً وازدحامًا، استدعى إنشاء فنادق جديدة أخذت تتمدد الى كل مصايف لبنان. وكان أبرز تلك المصايف برمانا الساحرة والتي ما كانت لتقلّ ألقًا وجذبًا وسحرًا، فصارت مقصدًا بارزًا للسياح الأوروبيين كما للعرب والخليجيين في الستينات والسبعينات، ولتشهد على تزايد كبير في عدد الفنادق مكّنها من استيعاب أعداد المصطافين والسياح المتنامي، مكرّسًا برمانا بفنادقها الشهيرة منافسًا أساسيًا وندَّا لعاليه وصوفر وبحمدون.

 

في “القاصوف”.. أول ملكة للبنان تسحر عبد الوهاب

ما كانت جارات برمانا بمعزل عن كل ذاك العز، من بيت مري الى ضهور الشوير وفنادقها الشهيرة، ومن لا يعرف أوتيل “القاصوف” التاريخي العريق الذي حمل السياح إسمه ورسمه على بطاقات بريدية تذكارية، والذي أدمن استقبال شخصيات سياسية وفنية كبيرة. زاره الملك المصري فاروق الأول، وكان مقرًا لفنانين عرب كبار بينهم أسمهان، فريد الأطرش، وأم كلثوم التي كانت تحيي حفلاتها على مسرحه ويصدح صوتها بقاعاته الضخمة.

ففي أوتيل “القاصوف”، أُقيمت أول مسابقة لانتخاب ملكة جمال لبنان عام 1935، لتتربع وقتها على العرش الملكة جميلة حداد الخليل، وقيل إن الموسيقار الراحل محمد عبد الوهاب غنى لها، وللمرة الأولى في لبنان، أغنيته الشهيرة “الصبا والجمال ملك يديكِ”.

وليس بعيدًا، فندق آخر شهير، هو “سنترال” الذي بُني عام 1905 وكان من أبرز رواده فيروز وعاصي ومنصور وفيلمون وهبي وزكي ناصيف، ويذكر التاريخ الحديث أن أنطون سعادة لجأ إليه عندما لاحقته السلطات اللبنانية. يومها ارتفعت الأصوات تلوم صاحبه لإيوائه مسؤولًا هاربًا من العدالة وتتهمه بالتواطؤ.

 

الى أرز الرب..

كان حلو الأزمان، السياح يتهافتون والفنادق تعلو بكل نجماتها، من المتن الى كسروان، فإلى الشمال صعودًا الى إهدن وزغرتا وبشري حيث غابة الأرز ووادي قاديشا، والتي حوّلت المنطقة الى نقطة جذب سياحية لافتة للسياح استدعت إنشاء الكثير من الفنادق لاستيعاب النزلاء الكثر الذين كانوا يتدفقون إليها صيفًا كما شتاء لمزاولة هواية التزلج وللتمتع بفرجة أرزات لبنان الخالدة.

فبعد تصنيف الأرز منطقة سياحية، بُني أول منتجع سياحي قرب الغابة حمل إسم “أوتيل لبنان الكبير” الذي شهد في آب 1941 زيارة الجنرال ديغول يرافقه الجنرال كاترو.. وكرّت السلسلة.

 

وكانت حرب الفنادق

كان عهد ذهبي تمدد بين الخمسينات والستينات وحتى بداية السبعينات، ازدهار كبير والكل يتدفق الى بلد الأرز الساحر، ليرتفع عدد السياح بين 1960 و1970 من 500 ألف الى 1.69 مليون زائر معظمهم من الخليجيين والأوروبيين. هم يتدفقون وفنادق لبنان تتكاثر وتنتشر وتزرع حولها إنماءً وازدهارًا وبريقًا، الى أن كان ذاك اليوم المشؤوم.

13 نيسان 1975، انطفأت أضواء بيروت وهوى نجمها… ونجماتها. اندلعت الحرب في وسطها، وصارت فنادق بيروت عنوانًا كبيرًا لحرب السنتين. وتحوّلت فنادق الخمسة نجوم الى متاريس للميليشات المتقاتلة، سان جورج، فينيسيا، هوليداي إن، الهيلتون، البوريفاج… كل ذاك العز صار خرابًا ودمارًا وأطلالًا يعبث بها المتقاتلون قنصًا وقتلًا ودمارًا.

وكان الانهيار الكبير، ودفعت فنادق لبنان الضريبة الكبرى. حزم السياح حقائبهم ورحلوا، وما بقي سوى الفراغ والذكريات والحنين وقصص تُروى عن عز كان.. خسر القطاع الفندقي خلال حرب السنتين ثلثي طاقته مع توقف 40 فندقًا عن العمل في بيروت، وليعود ويتلقى ضربة ثانية خلال الاجتياح الإسرائيلي عام 1982 ليخسر 41 في المئة من مؤسساته.

لكن لبنان طائر الفينيق عاد ليرفرف… انتهت الحرب، لملم لبنان جراحه وانطلقت حملة إعادة إعمار بيروت، نفضت العاصمة غبارها وعاد وسطها متألقًا يضاهي بجماله أجمل عواصم العالم. رممت فنادقها المدمّرة واستعادت بريقها وأمجادها وعادت لتضيء نهارات لبنان ولياليه وتعيد كتابة عزه الراحل من جديد، وعاد السياح وملأوا أرجاءها، وعادت الشركات الأجنبية للاستثمار في القطاع الفندقي اللبناني بعد طول غياب، فكان “الموفمبيك” و”الماريوت” و”ميتروبوليتان” و”هيلتون” وغيره، لتسجل عائدات الفنادق في العام 2010، 10 مليارات دولار أميركي، وهو رقم خيالي موثّق من وزارة السياحة. ولكن نكسات جديدة كانت تتربص به، ليسجل العام 2010 آخر السنوات الذهبية للسياحة، وما جاء بعده لم يشبه ما كان قبله، صراعات وأزمات اقتصادية ومالية وَضَعت قطاع لبنان السياحي في مهب الريح ووجّهت ضربات موجعة لفنادقه، على رغم كل ما تملكه من مقوّمات العيش والاستمرار، لكن القطاع اليوم، وعلى رغم كل الصعوبات يحاول النهوض من جديد، فهل يستعيد يومًا ذاك العصر الذهبي؟

إقرأ أيضًا

كتبت نجاح بومنصف في “المسيرة” ـ العدد 1754​

للإشتراك في “المسيرة” Online:

http://www.almassira.com/subscription/signup/index

from Australia: 0415311113 or: [email protected]​​​​​​​​​​​​​

المصدر:
المسيرة

خبر عاجل