البروفسور علي الرفاعي واحد من الأطباء ـ الرسل، الذين حملوا بصيتهم وإنسانيتهم التي طغت على كل شيء، “لبنان في العالم”، فكانوا المثل والأمثولة. نجاح الرفاعي الباهر في ألمانيا وحيث خدم متطوعًا، ترافقه حسرة التقصير الرسمي والقوانين اللبنانية البالية. فالطبيب الذي سطّرت مراكز الأبحاث الطبية الألمانية باسمه العديد من الدراسات والاكتشافات في مجال جراحة المسالك البولية والسرطانية والعقم عند الرجال، يعجز عن مزاولة مهنته في المستشفيات اللبنانية، على الرغم من كل النجاحات التي حققها، لأنه بكل بساطة، خريج الجامعات الألمانية، ولم يجتَز الـColloquium اللبناني. وعلى الرغم من الغصة التي تجعله عاجزًا عن مساعدة اللبنانيين داخل بلدهم، هو الذي ترك أثره في كل العالم، يعوّل الرفاعي على تغيّر ما في النمطية القانونية اللبنانية، بحيث يتمكن يومًا ما، من المرور في لبنان، طبيبًا لامعًا كما مرّ في أكثر من 28 دولة عمل بها في العالم.
في عائلة مؤلفة من خمسة أولاد وأبوين، نشأ وترعرع ابن بعلبك، البروفسور علي عبد العزيز الرفاعي. لم تبدّل أجواء الانقسام في ثمانينيات القرن الماضي لا في نظرة الوالدين الى لبنان وميزة التعايش فيه ولا في طريقتهما في تربية أولادهما، فالوالد ترك بعلبك لظروف عمله وقصد مع عائلته مدينة طرابلس حيث استقر هناك. سجّل أولاده ومن بينهم الدكتور الرفاعي في مدرسة الفرير، ومن هناك تخرّج التلميذ المجتهد محصلًا الشهادة الرسمية في العلوم الاختبارية في العام 1982، وعَكَسَ تأثره بمدرسته على قرار مصيري غيّر حياته. فالرفاعي تلقى تشجيعًا كبيرًا من أحد مدرائه في المدرسة الأب الألماني Hermann، للسفر الى ألمانيا والالتحاق بإحدى جامعاتها كي يكمل تحصيله العلمي، وكانت المواجهات الدائرة في تلك الفترة والظروف المحيطة بها، من سقوط الضحايا والجرحى، حافزًا أساسيًا ساعده على اتخاذ قرار المغادرة من دون تردد، فترك لبنان قاصدًا ألمانيا. هناك تعلّم لغة البلاد الصعبة، هو اللبناني الفرنكوفوني الهوى، وانضم الى جامعة هامبورغ وليبزغ فحاز على شهادة الطب العام، ثم أكمل اختصاصاته في جراحة المسالك البولية والسرطانية في جامعة فرانكفورت.
ظروف الرفاعي الصعبة، كما ظروف لبنان في تلك المرحلة منعته من العودة لممارسة الطبّ فيه، فبدأ مسيرته الطبية من ألمانيا، باحثًا وأستاذًا في مجال العقم والسرطان والسلس البولي خاصةً عند الرجال، كما ترأس أحد مراكز السلس البولي (Incontinence urinaire) في ألمانيا، وهو واحد من أصل خمسة مراكز في البلاد، مساهمًا في تطوير العديد من الأبحاث وأبرزها حالات الـIncontinence Urinaire عند الرجال والعلوم السرطانية، إضافة الى دراسات طبية معمقة أجراها في Antiperistlaltic في سرطان المثانة عند الرجال، وهو يعمل اليوم على دراسات تتعلّق بالعقم وأخرى مرتبطة بـSingle use flexible endoscopy لجراحة الحصى في المسالك البولية.
تولى الدكتور الرفاعي رئاسة قسم الجراحة في المستشفى الجامعي في ألمانيا التابع لجامعة Magdeburg، لثلاث سنوات، بعدها انتقل الى العمل في سويسرا، رئيسًا لقسم جراحة المسالك البولية والسرطانية في مستشفى Zollikerberg وبعدها في مستشفى Einsiedeln، وبين هذين الموقعين البارزين، تنقل لأكثر من 14 عامًا، طبيبًا متطوعًا في البلدان النامية ومع الفئات المهمشة والأكثر حاجة، فكان للبنان (المخيمات الفلسطينية حصرًا) وسوريا والعراق وكردستان النصيب الأكبر من خبرة الرفاعي الطبيّة، هذا إضافة الى أكثر من 28 بلدًا آخر.
يتذكر الدكتور علي الرفاعي زيارته الى لبنان في العام 2000. “خلال هذه الرحلة وأثناء قضاء يوم مشمس على البحر، تعرّفت الى زملاء لبنانيين، اقترحوا عليّ المساعدة في إجراء عمليات جراحية لمرضى لا قدرة لديهم على دفع المال لمعاينة الطبيب أو المتابعة صحيًا”، يشير الرفاعي في حديث خاص لموقع “القوات اللبنانية” الإلكتروني. هكذا، وبهذه البساطة، بدأ رحلة “الطب التطوعي المجاني” التي دامت حتى يومنا هذا، فتنقل الرفاعي في بلدان عديدة من شمال أفريقيا إلى الهند مرورًا بالشرق الأوسط، وتخلل هذه المسيرة التطوعية فترة انقطاع قصيرة خلال جائحة كورونا.
في السعودية، كان للدكتور علي الرفاعي بصماته الطبية لسنوات عديدة، إذ عمل كرئيس استشاريين في مستشفى الريّان في الرياض، قبل أن يتلقى اتصالًا هاتفيًا من أحد زملائه، ينصحه فيه بتقديم مستنداته الخاصة الى مستشفى Zollikerberg, Zürich في سويسرا، حيث كان يتنافس 9 أطباء على مركز رئاسة قسم جراحة المسالك البولية والسرطانية في المستشفى. لفتت مسيرة الرفاعي القيمين فعيّن وهو الأجنبي الوحيد بين الأطباء التسعة، في هذا الموقع، وفي العام 2018، تم تعيينه رئيسًا لقسم جراحة المسالك البولية والسرطانية في مستشفى Einsiedeln، وهو لا يزال في موقعه حتى اليوم.
عندما اختار البروفسور علي الرفاعي مهنة الطب، لم يخطر بباله أنه سيجري حوالي 20 ألف عملية جراحية، فهو انتقى المهنة منطلقًا من كونها رسالة. “عندما قررت دراسة هذا الاختصاص، كان لبنان في أوج فترة المشاكل العسكرية والنزاعات، كنت أرى الجرحى وأجد نفسي عاجزًا عن المساعدة، فقررت دراسة الطب كي أتمكن من ذلك”، يقول الرفاعي الذي يبدي حزنه الشديد لعدم تمكنه من العودة الى لبنان أو ممارسة مهنته فيه. “حزت على شهادة الـ Science Ex في العام 1982 من لبنان، لكن هذا الامر لم يساعدني ولم يفتح أمامي في ما بعد أبواب المستشفيات اللبنانية، لأنه في القانون اللبناني، على كل طبيب تخرّج من خارج الجامعات اللبنانية الخضوع الى اختبار الـColloquium الخطي قبل الخضوع للاختبار الشفهي، والمشكلة في هذا الامتحان الخطي، أنه يعتمد على تعدد الإجابات (Multiple choice system) في وقت لا يتعدى الـ180 دقيقة، إذ عليك الإجابة على 180 سؤالا، بمعنى آخر، لكل سؤال دقيقة، وبالتالي كانت السرعة المطلوبة للإجابة عاملاً سلبيًا بالنسبة إليّ، مع الإشارة الى أن القيمين على الامتحان لا يعطون أي أهمية لعدد الأسئلة التي تمت الإجابة عليها إنما للسرعة والإجابات الصحيحة بالوقت المحدد. تقدمت الى امتحان الـ Colloquium عام 2004 ولم أوفّق بنتائجه، وما أصابني بالصدمة والجنون أنهم راحوا يقنوعنني بالوساطات وبدفع الرشاوى على الطريقة اللبنانية، وأنتِ أدرى كيف يحصل ذلك. رفضت هذا المنطق، ورفضت مزاولة المهنة في لبنان علمًا أن خبرتي في هذا المجال، ستفيد أبناء وطني وهم الأحب الى قلبي، واكتفيت مكرهًا بفكرة أن تعترف الدولة اللبنانية بشهادتي الطبية التي حصلت عليها من ألمانيا من دون أن تسمح لي بمزاولة المهنة في لبنان. هذا العائق لا يزال يرافقني حتى اليوم. وللمفارقة، أن الدول الأخرى التي عملت بها تجيز للطبيب مزاولة المهنة إذا كان قد أنهى تخصصه وعمل كاستشاري لأكثر من 5 سنوات. هذا الأمر لا ينطبق على لبنان، فأنا استشاري منذ 20 عامًا، ورئيس استشاريين منذ 15 عامًا، وعلى الرغم من ذلك ممنوع من العمل في لبنان، بسبب القانون اللبناني”، يقول الرفاعي الذي يعترف بأن العمل خارج الدول الأوروبية كان يشده، لأنه مفتوح على أمراض وحالات طبية قلّما يصادفها في أوروبا. “هنا، الطب متطور وهناك حالات لا يمكن رؤيتها إلا في البلدان النامية، إذ في الغالبية الساحقة من الأحيان لا تصل اليك إلا الحالات الطبية المستعصية. هذه التجربة علّمتني كثيرًا وراكمت من خبرتي في مجال عملي، وعمّقت سبب اختياري لمهنة الطب، لأنني لطالما أردت المساعدة ولطالما رغبت في القيام بالأعمال الإنسانية التي تشعرني بسعادة لا توصف”، يقول الرفاعي الذي يشير الى أن أكثر الحالات الطبية استعصاء التي واجهته كانت في أفغانستان، إذ كانت طالبان تصوّب على المقاتلين في أعضائهم التناسلية، بينما كان هو يقوم بعمليات الترميم في ظروف صعبة وإمكانيات طبية شبه مستحيلة.
يحمل الدكتور الرفاعي لبنان في قلبه تمامًا كما يرفعه على جبينه. “انا نمأنافخور لكوني لبنانيًا. أحب هذا البلد بتفاصيل كثيرة غير موجودة في دول أخرى. ضعي السياسة جانبًا، جغرافيًا لبنان بلد رائع، مناخه رائع وشعبه رائع. الحضارة اللبنانية والكرم والأخلاق والنخوة واستقبال الضيوف والتعاطي بين الناس والمحبة، كلها أمور نفتقدها في أوروبا، على الرغم من الراحة المادية التي نحصل عليها. أعترف أن أكثر ما يشدني الى لبنان هو رقي الشعب اللبناني المثقف والمهذب والخلوق والمحب والكريم، وهذه الأمور نفتقدها في الغربة. لا مثيل للحياة الاجتماعية في لبنان على الكرة الأرضية، الخلطة اللبنانية هذه بثقافاتها وتعددها ورقيّها، توقد دائمًا وأبدًا الحنين الذي بداخلنا، للتفكير بالعودة الى البلد. وأتمنى أن أتمكن من القيام بذلك لقضاء فترة التقاعد”، يجزم الرفاعي.
في المقابل، لا يخفي الرفاعي تعلقّه بألمانيا التي قدمت له الكثير. ففي هذا البلد تعلّم أن يكون موضوعيًا متجردًا، صادقًا مع نفسه ومع العلم. “أفتخر بما اكتسبته في بلدي الثاني، لأن ذلك ساعدني على أن أكون طبيبًا جديرًا بالثقة في كل أنحاء العالم. أنا فخور بهذا النجاح العلمي وبهذه الخبرة التي حملتها معي الى خارج أوروبا، لاسيما في ما يتعلق بالحالات شبه المستعصية، وهذا ما فتح أمامي أبواب التقدم وجعلني أكون في مركزي اليوم، متقدمًا على أبناء البلد حيث أقيم. وكم أتمنى أن يقدّرنا لبنان ويقدّر علمنا، أسوة بغيره من البلدان”، يختم الرفاعي.
حمل البروفسور علي الرفاعي المحبة شعارًا وفلسفة له، “قالها السيد المسيح وذكرها الرسول: لا يسلم أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحبه لنفسه، المحبة هي قمة الإيمان والإنسانية”. بهذه الفلسفة كبر وعمل وتميّز، فكان إيمانه بفلسفته مفتاح عبوره الى إنسانية لامحدودة.