بين اعتقال قائد واغتيال قضية: خميرة الصمود ذخيرة الحرية

حجم الخط

القوات اللبنانية سمير جعجع

مع بشير الجميل عشنا انتصارًا تاريخيًا بانتخابه رئيسًا للجمهورية، وبعد واحد وعشرين يومًا عشنا انكسارًا تاريخيًا باستشهاده غيلةً، ليبدأ زمن بشير الأسطورة والحلم المعلّق.

مع سمير جعجع، عشنا انكسارًا تاريخيًا باعتقاله وحلِّ الحزب وفاتحةَ زمن القمع والمنع والتنكيل، ومع خروجه من المعتقل في 26 تموز 2005 عشنا انتصارًا تاريخيًا توّج انتفاضة الاستقلال الثاني. صحيح أن بشير غاب ليتحوّل رمزًا وملهِمًا، وعانت القوات بعده سلسلة إرباكات وانتفاضات، لكن الصحيح أيضًا أن سمير جعجع هو اليوم رأس حربة الممانعة لمشروع الممانعة والمتماهين معه تزلفاً أو رهانا على صفقات ومكاسب.

قبيل خروجه من المعتقل، تحوّل منزل يسوع الملك خليّة نحل تعج بالرفيقات والرفاق المناضلين الذين صمدوا وعانوا الملاحقات والتضييق والتهويل، وتحوّلت “طاولة السفرة” الكبيرة المربعة أشبه بغرفة عمليات، مواكبةً وتحضيراً للحدث المنتظر، لا بل إن مجموعة صغيرة من الرفاق، اطّلعت من ستريدا على مسودة الكلمة التي سيلقيها الحكيم في المطار بعيد خروجه، وكان تشاور وتنويه بالمضمون مع بعض الرتوش الشكلي قبل الطبعة الأخيرة، وقد بدا للحاضرين أن سمير جعجع هو هو، متمسكاً بالثوابت والمبادئ ومتعاليًا على الجراح.

تلك اللحظات مع ما يرافقها من سعادة وتحفّز ونوع من القلق المشروع في العمق، لأن نوايا فريق السلطة ومن وراءها لم تكن صافية وسليمة، بدليل مسلسل الاغتيالات ومحاولات الاغتيال لرموز من 14 آذار، لحظات تعكس في مغزاها التحوّل المنطقي في إطار المسار الصحيح للتاريخ، فالحجر الذي رذله البناؤون في أواخر شتاء الـ1994، هو اليوم حجر الزاوية في مواجهة المشروع ذاته، ولو أن هويته اليوم باتت إيرانية المضمون لبنانية الواجهة، بعدما كانت سورية المضمون بواجهة تعج بمنظومة من الأتباع وتجار السياسة.

والمفارقة أنني أستذكر كما البعض، مرحلة القمع والنضال السري في الغالب والعلني أحياناً، بشيء من النوستالجيا، ليس حنيناً لها، بل تهيّبا إلى تقدير وإعجاب بما رافقها من صمود وتضحيات تبدأ بمعاناة الحكيم في الزنزانة وما عكسته من عزل مادي ومعنوي وسياسي، مرورًا بتضحيات الرفاق، لا سيما من استشهد منهم تحت التعذيب أو غدرًا، وبينهما القهر الذي عاشته ستريدا التي كانت في منزلها أيضًا تعاني العزلة المثلثة، وكم قصدتُها وكانت وحدها تحافظ على ابتسامتها المرة، وتتابع أدق التفاصيل، وتواظب على زيارة زوجها في سجن وزارة الدفاع، من دون أن ينحني لها جبين، مكابِرةً على الألم والظلم، بما أثار مزيجًا من الدهشة والغضب المكتوم لدى أهل الأمر بغير المعروف.

لقد غادر الحكيم المعتقل، ليجد القوات بخير مقاومةً وحركيةً ووفاءً، فحبّة الحنطة التي دُفنت في الأرض استحالت سنبلة، وما كان خفيًا قد ظهر.

في عز التزوير الذي تجلّى بخاصة في المحاكمات، بكّرَت قلّة قليلة من الضالّين في السعي إلى وراثة سمير جعجع، وتركيب أمر واقع بديل، الأمر الذي ولّد مواجهات محدودة مع الرفاق الذين رفضوا هذا الرهان، وكنت واحدًا منهم. صحيح أن دوري مع زملائي في إذاعة لبنان الحر كان الحفاظ عليها مهما كان الثمن لأن توريطها كان يحتمل مخاطر جمة، لكن النضال الإعلامي العملي إذا جاز التعبير كان في مكان آخر، إيمانا من المعنيين بأن الحكيم سيخرج عاجلاً أم آجلاً، وأن ستريدا وأهل الحكيم ووكلاء الدفاع هم الذين يملكون الحقيقة من خلال مقابلاتهم الدورية له، فضلاً عن أنه رفض الإغراءات وعمليات الابتزاز على اختلافها وردّ أصابحها خائبين.

لقد دأبتُ في حينه على كتابة سلسلة صفحات كاملة في جريدة الديار عن الحكيم وسيرته ومواقفه، بالتوازي مع تناول مسار قضيته وظروف اعتقاله، وتمكنتُ من نشر حديث له من خلف القضبان، كما فعلت أيضا مرة أخرى عبر صفحات مجلة الدبور، واللافت أن الجريدة والمجلة نجحتا في مضاعفة الأعداد المباعة منهما، وأشهد أن شارل أيوب صاحب الديار، طمأنني قبل ذلك في مرحلة أولى خلال المحاكمات، إلى أن لا محاذير حيال ما أكتب من مقالات تضمنت وقائع وملاحظات تفنّد مسار المحاكمات، حتى تلقيت اتصالا بعد مقالة حول قضية تفجير الكنيسة وتفاصيل تتعلق بجرجس الخوري وبعض الشهود، لإبلاغي بأن “الامور وِرمِت وصار راسنا بالدق”.

والمؤسف في المقابل، أن بعض من استسلم للنظام الأمني وادعى الحرص على القوات، اتهمني بالتخريب وبأنني حصان طروادة، لأنني كنت من الرفاق الذين رفضوا ذاك التوجه، و”أتولى تجييش الإعلام والصحافة عليهم”، ولم يخل الْأمر من تهديد وتهويل ذهبا أدراج الرياح.

ولم يصح إلا الصحيح، وهذه العبارة تصلح أيضا لأيامنا الحاضرة. فلبنان اليوم في حالة حصار يحاول أهل الممانعة تحويله إلى حالة اعتقال، وسمير جعجع والقوات اللبنانية مع عدد من الأحزاب والقوى والشخصيات السيادية في موقع المواجهة، وإن بدت غير متكافئة.

ولذلك لا تراجع ولا تهاون، لأن التجارب أكدت دائما أن الحق لا يمكن أن يُزهَق طالما أن وراءه من يؤمن به ويطالب به ويدافع عنه. يقول كثيرون لم يبقَ في الساحة إلا سمير جعجع ومن معه من سياديين، والأدهى أن بعضا ممن لا تستهويهم خيارات جعجع وتاريخه، يعتبر مع ذلك أن لا خوف بوجوده والقوات، كتلك الفئة التي لا تتورع عن الحملِ على القوات وانتقادها، وعندما “تحزّ المحزوزيّة” ينبرون إلى الصراخ: وين القوات؟

سمير جعجع ليس قدريا، بمعنى الاستسلام لما يبدو أنه أمر محسوم وقدر محتوم، بقدر ما يؤمن بأن الإرادة والإيمان يغيّران الكثير وبأن للتاريخ مسارا منطقيا لا يمكن تعديله ولو بدا ذلك ممكنا مرحليا. ولذلك، أثمر الإصرار على رفض هيمنة الثنائي، عرقلة لوصول مرشح الممانعة لرئاسة الجمهورية، على رغم ما يلجأ إليه الثنائي من مناورات وابتزاز وتهويل وتخوين. كما أثمر الثبات في الموقف تصحيح ما بدا من انحراف لدى اللجنة الخماسية في لحظة ما، وليس أدل على الواقع نفسه إلا نتائج الإصرار على مكافحة النزوح السوري غير الشرعي، لاسيما بعد اغتيال باسكال سليمان. ولذلك إن الحجة القائلة إن العين لا تقاوم المخرز لا تصح دائما، وإن يوما سيأتي ينتصر فيه لبنان والأحرار فيه على حالة الحصار، كما انتصر سمير جعجع الضحية على الجلاد، لأن الأهم أن تبقى الخميرة هي الذخيرة.

أنطوان مراد ـ مستشار رئيس حزب “القوات اللبنانية” لشؤون الرئاسة

 

كتب أنطوان مراد في “المسيرة” ـ العدد 1754​

للإشتراك في “المسيرة” Online:

http://www.almassira.com/subscription/signup/index

from Australia: 0415311113 or: [email protected]​​​​​​​​​​​​​

إقرأ أيضًا

المصدر:
المسيرة

خبر عاجل