لبنان في العالم ـ طوني ضاهر من البرازيل الى العالم.. ذهنية جديدة للأمراض النادرة

حجم الخط

البرازيل ـ طوني ضاهر
البرازيل ـ طوني ضاهر
البرازيل ـ طوني ضاهرالبرازيل ـ طوني ضاهرالبرازيل ـ طوني ضاهرالبرازيل ـ طوني ضاهر
البرازيل ـ طوني ضاهرالبرازيل ـ طوني ضاهر



لم يكن ينوي طوني ضاهر عندما انطلق من لبنان الى البرازيل، أن يمكث هناك وقتًا طويلاً. لم يخطر بباله أن أبواب ذلك البلد ستفتح بوجهه مجالات وأعمالًا في ميادين مختلفة، ولا توقع أن يُدخل هو بنفسه، ذهنية جديدة في تعاطي البرازيل البرازيليين والعالم مع الأمراض النادرة والمستعصية. طوني ضاهر، واحد من هذا الـ”لبنان في العالم”، هو نموذج واضح من نجاحات شعب يبرع ويحلّق خارج حدود وطنه الجغرافية الضيقة، فيضيف الى هذا الكون لمسة مميزة عنوانها العريض الإنسان وحقوقه.

من العلوم السياسية والإدارية الى صناعة الثياب والتجارة بها، وصولًا الى التألق في المجال الطبي. هذه باختصار مسيرة الشاب اللبناني الذي ترك بيروت بعد تخرجه من كلية العلوم السياسية والإدارية في الجامعة اللبنانية، وقصد البرازيل عن عمر 22 عامًا، بحثًا عن مستقبل أفضل. بحثه هذا وضع في طريقه مجالًا علميًا لم يتوقع أن يصادفه. إصابة ابنه بمتلازمة Hunter، وهو أحد الأمراض النادرة المستعصية، قلب حياة الاقتصادي الناجح رأسًا على عقب، فوجد نفسه ينتقل من عالم الثياب والأزياء الى عالم الطب، باحثًا عن حلول لهذا النوع من الأمراض ومسخرًا عمره لخدمة هذه الحالات. مسيرته في هذا المجال بدأت بإنشاء مؤسسة Casa Hunter في البرازيل التي تهدف الى ضمان الحلول العامة وتعاون القطاع الخاص والمجتمع مع المرضى الذين يعانون من أمراض نادرة، إضافة الى كونها تضم متخصصين في الدراسات الوراثية وباحثين وصيادلة ورجال أعمال مهتمين برفاهية المجتمع وبمجال حقوق الإنسان، بغية تأمين نوعية حياة أفضل للمرضى وعائلاتهم، ليشمل عمل ضاهر مشاريع القوانين الرسمية والسعي الى جعلها قيد التنفيذ، مرورًا بتسريع آلية إدخال أدوية الأمراض النادرة الجديدة الى البرازيل، إذ كانت هذه العملية تستغرق 3 سنوات فباتت اليوم تتم بثلاثة أشهر. البرازيلي ـ اللبناني الذي يكن حبًا كبيرًا لبلده الأم، بقي ناشطًا لبنانيًا وحزبيًا، إن من خلال تجمع اتحاد الأندية اللبنانية وإن من خلال عمله القواتي، وهو يسعى اليوم الى نقل خبرته والجهود التي قام بها في المجال الطبّي الى العالم ولبنان، مُسلحًا بالخبرة والمثابرة والإصرار والصيت الحسن. بحثه ومثابرته في هذا المجال جعله يزور عددًا كبيرًا من دول العالم بغية الاطلاع على الدراسات والمشاريع الجديدة للاستفادة منها.

ولد طوني ضاهر في بيروت قبل أيام من اندلاع الحرب اللبنانية، ومع إغلاق الطرقات وحال الغليان التي كانت سائدة، بقي في المستشفى لمدة شهرين قبل أن يتمكن أهله من إخراجه والعودة به الى قريته في كفرحزير ـ الكورة. طفولة ضاهر كانت شبيهة بمعظم طفولات أبناء جيله الذين عاشوا الحرب واضطروا الى الانتقال من منطقة الى أخرى كي يبقوا بأمان، وبسبب انتماءات والده الكتائبية، اضطرت العائلة الى مغادرة كفرحزير الى جبيل عندما كان طوني في عامه الثالث، حيث أمضى في المدينة الفينيقية الجميلة 10 أعوام، متنقلاً بين مدرستي الفرير والوردية، ليعود بعمر الـ12 عامًا الى قريته الشمالية وينهي سنواته المدرسية في مدرسة البلمند. حبّه للسياسة وولعه بتاريخ لبنان وثقافته، دفعا بطوني ضاهر الى التخصص بالعلوم السياسية، كان ينوي العمل في هذا المجال لإدخال التغيير البناء الى الحياة السياسية، فتخرج من الجامعة اللبنانية مجازًا بالعلوم السياسية والاقتصادية، “كنت أحب أن أرى لبنان بلدًا ديمقراطيًا يفتخر به الجميع، لكن تبيّن أن هناك ما هو أكبر منا، وعلى الرغم من كل ذلك، لن نيأس من محاولة استعادة بلدنا”، يقول ضاهر لموقع “القوات اللبنانية” الإلكتروني، مؤكدًا أن إنقاذ لبنان سيكون من الخارج وليس من الداخل فقط.

بسبب الوجود السوري وفترة الاضطهاد التي تعرض لها اللبنانيون، ترك ضاهر لبنان وذهب لزيارة شقيقته في البرازيل، واستقر هناك، فأسس شركتين مهتمين بصناعة وتجارة الثياب، مسجلًا نجاحًا كبيرًا في هذا المجال، أسوة بنجاحات مئات اللبنانيين في البرازيل.

يتوقف ضاهر عند مرحلة المواجهات والقصف والانتقال من منطقة الى أخرى، معتبرًا أن هذه الصور هي أكثر ما أثّر في حياته، “أذكر أننا كنا في برمانا ولم أكن قد تجاوزت عامي الرابع، عندما تلقى والدي اتصالًا بضرورة ترك المنطقة، فغادرنا على وقع القذائف التي كانت تتساقط أمامنا ووراءنا، ولا تبارح صورة والدتي التي راحت تبكي مرعوبة على العائلة، ذهني. شعرنا باستمرار أننا لا نعيش الأمان والاستقرار”، لافتًا أيضًا الى أن مغادرته لبنان طبعت كثيرًا في أعماقه لدرجة أنه كان يزور موطنه سنويًا 5 مرات.

دخول طوني ضاهر مجال الطب أتى بعد تشخيص ابنه أنطوني بمتلازمة هنتر، “حبي الكبير له دفعني للدخول الى عالم الطب لا سيما الحقل الجيني الذي تخصصت به كي أتمكن من مساعدة المعنيين لا سيما الأطباء أكثر، وإنقاذ إبني. ركزنا عملنا على مشروع بناء نظام صحي جديد للأمراض النادرة في البرازيل وعملنا في شتى الحقول المرتبطة بهذا الموضوع، ومن ضمنها الدراسات الطبية المعمقة، بغية إيجاد جزئية (Molecule) جديدة للبناء عليها، كما عملنا على السياسيات الصحية العامة، والقوانين الجديدة المتعلقة بالأمراض النادرة إضافة الى حملات التوعية، حتى باتت إنجازات هذا المجال خلال السنوات العشر الأخيرة تُسجل باسمنا.  خلقنا نموذجًا عن أول مستشفى في العالم، يُعنى بالأمراض النادرة من الألف الى الياء، وعملنا على آلية إدارية تمكننا من تسريع التشخيص في الأمراض النادرة وتقديم حياة أفضل للمرضى وعائلاتهم”، يقول ضاهر الذي يشدد على أن مجال تخصصه الجامعي يتكامل بشكل كبير مع ما يقوم به اليوم، لا سيما لجهة إعداد مشاريع القوانين والسياسيات العامة، إذ تحتّم طبيعة عمله التواصل الدائم مع الجهات الرسمية في البرازيل من مجلس النواب الى الحكومات المتعاقبة، مرورًا بمجلس الشيوخ ورئاسة الجمهورية، بهدف خلق قوانين جديدة وتسهيل العمل الذي يقومون به، “انجزنا أحد المشاريع المهمة المتعلق بتشخيص 50 حالة من الأمراض النادرة الذي أدخل في النظام الصحي البرازيلي خلال 3 أشهر فقط”.

يعتبر ضاهر أن نجاحه في المجال الطبي وهو مجال بعيد جدًا عن تخصصه، يعود بالدرجة الأولى الى التضحيات الكبيرة التي قدمها في هذا الإطار. “ضحيت بالكثير وتركت عملي في التجارة والثياب وأوكلت المهام الى المسؤولين في هاتين المؤسستين، كي اتفرغ للمجال الطبي، انطلاقًا من الحالة التي عانى منها ابني أنطوني. كان هدفي الأساسي إنقاذه. هذه المثابرة ولّدت عندي الرغبة في تغيير حياة الملايين ممن يعانون من هذا النوع من الأمراض. كان الأمر صعبًا على الرغم من النجاحات التي حققناها. تخيلي أن لدينا في البرازيل 300 طبيب من المتخصصين بالأمراض النادرة على 220 مليون نسمة. برعت جراء الالتزام والحب الذي أكنه لابني والتنظيم والإدارة، من دون أن ننسى أن المؤسسة التي أسستها وأديرها لا تبغي الربح، لذلك من الضروري تأمين الاستمرارية لها، وهذا أمر مكلف جدًا”، يقول ضاهر.

في جعبة ضاهر سلسلة من المشاريع، فإضافة الى إنشاء مركز Porto Allegri المجاني للأمراض النادرة، الذي غيّر تاريخ تشخيص هذه الأمراض من 5 سنوات الى 41 يومًا فقط، يعمل ضاهر على مشروعين: أول وأكبر مستشفى في العالم للأمراض النادرة في ساو باولو والتي تبدأ عملية إنشائه مطلع العام القادم، وإنشاء 3 مستشفيات للأمراض النادرة في منطقة Bel horizon في شمالي البرازيل، تعمل بالطريقة نفسها التي يعمل بها مستشفى Porto Allegri . “30 بالمئة من الأولاد الذين يعانون من الأمراض الجينية النادرة يموتون قبل 5 سنوات، من دون أن يكونوا على علم بأي مرض هم مصابون. نحاول تغيير هذه الذهنية من خلال تعميم ثقافة التشخيص منذ الولادة، إضافة الى العمل على الكثير من مشاريع القوانين التي تمت المصادقة عليها. كانت لوائح وزارة الصحة البرازيلية تضم 6 أمراض نادرة عندما بدأنا نحن في هذا المجال، لكننا تمكنا من خلال مشروع القانون الذي أعددناه ودرسناه أن نلحظ تشخيص أكثر من 60 حالة موجودة. ما نقوم به على صعيد الأمراض النادرة في البرازيل غير موجود في أي مكان في هذا العالم. لا يوجد أي مركز أو مستشفى يعني بالأمراض النادرة بهذا الشكل. فريق عملنا يضم كل الاختصاصات ونتابع باستمرار الدراسات الطبية إضافة الى العلاجات المتقدمة، علمًا اننا بدأنا العمل على مشروع جديد يعتمد على العلاجات الجينية المتقدمة من دون مساعدة أي من الجهات الدولية”، يقول ضاهر الذي يجزم بأن النموذج البرازيلي بات مطلوبًا في العديد من دول أميركا اللاتينية وتحديدًا في كولومبيا والأرجنتين، كما يتم العمل مع منظمة الصحة العالمية لاعتماد النظام الذي أعد في البرازيل وجعله نظامًا عالميًا، يضيف: “لا يوجد في العالم أي مستشفى شامل للأمراض النادرة، والبروتوكولات التي وضعناها نجحت في تغيير تاريخ ونظرة الناس الى هذا النوع من الأمراض وهذه هي النقطة الأساسية”.

لم يتوقف عمل ضاهر عند هذا الحدّ، فإضافة الى العمل الطبي شكّلت التوعية حيزًا كبيرًا من مجال عمله، إذ قامت مؤسسته بإعداد 14 وثائقيًا باللغات الإنكليزية والإسبانية والبرتغالية، بجزئين، (كل جزء يحتوي على 7 حلقات)، عن 7 أنواع أمراض نادرة، تعرض عبر Globo Play، على أن يُطلق كل عام دفعة جديدة من الوثائقيات من 7 حلقات، بهدف نشر الوعي والتوعية عبر العالم وتسهيل فهم هذه الامراض.

“عندما يتم الحديث عن الأمراض النادرة في العالم تكون Casa hunter على الالسن، ولم تقم أي دولة بما قامت به البرازيل في مجال الأمراض النادرة. تمكنّا من خلق أكثر من حلّ. كانت الموافقة على البحوث العلمية تحتاج الى سنتين فباتت اليوم تحتاج الى 3 أشهر فقط. لدينا أكثر من 8000 حالة نادرة في العالم، 100 منها فقط لديها دواء. عندما نتحدث عن الأبحاث، نتحدث عن فرصة ثمينة للمرضى لإطالة أمد حياتهم. عملنا على نشر التوعية، وبعدما كانت الأمراض النادرة مادة لا يتم الحديث عنها في البرازيل، باتت اليوم موضوعًا عاديًا يحمل لواؤها حوالى 400 نائب برازيلي، خلقنا الثقة لديهم وباتوا يشجعون مشاريع القوانين التي نتقدم بها، وهذا الأمر ينسحب أيضًا على مجلس الشيوخ الذي يدعم أكثر من نصف أعضائه عملنا”، يقول طوني ضاهر الذي يشدد على أنه ينوي أن ينقل عمله في مجال الأمراض النادرة الى لبنان.

اعتمد ضاهر في مجال عمله على الشفافية وعلى الخدمة العامة فاقتنع المعنيون الرسميون بأن التغيير الذي تسعى اليه Casa hunter هو بهدف تحسين المجتمع وآلية العمل الرسمية، فحتّمت مسيرته في هذا المجال، التعاون بين القطاعين العام والخاص. “لأنني لبناني، ساعدتني الدولة البرازيلية كثيرًا وتعاملت معي على أني برازيلي وليس لبنانيًاٍ مهاجرًا. لا يمكن أن تجد دولة في العالم تحترم اللبناني كما تفعل البرازيل، من دون أن ننسى أن 30% من الكونغرس البرازيلي من أصل لبناني”، يقول ضاهر، مضيفًا: “فتحت لنا البرازيل مجالات عمل كثيرة، وعندما تلمس الدولة البرازيلية إنجازاتنا، تدعمنا. مشروع Porto allegri خاص بامتياز، ومع نجاح هذا المشروع، قدّمت لنا الدولة اليوم الأرض في سان باولو لبناء المستشفى، وهذا يعني مساهمتها معنا”.

يبدي ضاهر أسفه لعدم الاستقرار السياسي في لبنان الذي يؤدي الى عدم استقرار اقتصادي. يتابع: “الظروف في لبنان تعيق الانتشار من العودة للاستثمار فيه. حبي لوطني الأم يجعلني دائمًا أفكر بالعودة للاستثمار وقضاء بعض الوقت فيه، لكن طالما دولتنا رهينة، لا يمكننا تحقيق ما نسعى اليه، لأن النجاح لا يتعلّق فقط بالنجاح المادي، إنما بتحسين وتغيير المجتمع الذي نعيش فيه، وهذا ما أعطتني إياه البرازيل. النجاح مرتبط بنجاح المجموعة، ونجاح الفرد يأتي من ضمن نجاح المجموعة”.

ماذا يعني لطوني ضاهر أن يكون من أصول لبنانية؟ يجيب: “هذا يعني أنني جزء من الحضارة، التي يعود تاريخها الى 5000 سنة خلت، عندما نقل الفينيقيون حضارة التجارة الى العالم وابتدعوا الصفر وحروف الأبجدية، من دون أن ننسى أن أول جامعة للحقوق في العالم كانت في بيروت. وعندما أقول أنا قوات لبنانية فهذا يعني أن القوات تمثل حضارتي وأصولي اللبنانية التي تربيت عليها. القوات تعني لي المحافظة على أرزتنا وهويتنا. نحن من بيت كتائبي تهجرنا من الكورة عام 1978، وغادرنا لبنان فيما بعد لكن القوات بالنسبة الينا هي مدماك الدفاع عن حقنا كلبنانيين. لا أخاف على الحجر الذي إن تهدم نعاود بناؤه، أنا أخشى على البشر، ونحن مؤمنون بالقوات وبمسيرتها لأنها الوحيدة التي تدافع عن حقنا بالعودة يومًا ما الى لبنان للعيش بكرامة”.

كرم ضاهر مرات عديدة من أرفع الجهات البرازيلية، وأكثر ما افرحه قول المُكرِّمين: “انتظرنا أن يأتي أحد من لبنان ليغير كل قوانين الأمراض النادرة في البرازيل ويعطي كرامة لكل العائلات التي يعاني أحد أفرادها منها”.

“هذه الشهادة ترفع اسم لبنان وتفرحني، فأينما حل اللبناني، رفع لبنان وجعل بلده الام في قلبه ووجدانه وصورته التي يطل بها الى العالم”، يقول ضاهر الذي يضيف: “لبنان هو كل شي جميل، هو ذكراياتي وأهلي وعاطفتي ومراحل طفولتي وعلمي وحياتي الاجتماعية. أتمنى العودة، لكن الاستقرار الدائم فيه شبه مستحيل، نظرًا لطبيعة عملي ومشاريعي الكثيرة في البرازيل ووضع عائلتي. من المؤكد أنني سأزور لبنان سنويًا وأمكث فيه بضعة أشهر، واستثمر فيه، لكن الاستقرار الدائم هنا شبه مستحيل”.​

إقرأ أيضًا

المصدر:
فريق موقع القوات اللبنانية

خبر عاجل