لقد عوّدنا “الحزب” من خلفية اعتقاده واقتناعه بفائض قوته على اللبنانيين، على محاولة تعميم سردياته وأدبياته وخططه على بقية شركائه في الوطن والتعتيم على ما يعلنون ويطالبون، ولن تكون آخر هذه السردية جدوى انخراط “الحزب” ومحوره في مواجهات غزة، مُصمًا آذانه مخرسًا الأصوات المعارضة لقراره. وانطلاقًا من شعور فائض القوة هذا، أباح “الحزب” لنفسه تغيير وتبديل أدبياته وسردياته وقناعاته، متبنيًا ما فتئ يحرّمه على شركائه من المعارضين.
على الرغم من “عظمة” ما قامت به حركة ح. في السابع من تشرين الأول من العام 2023 من إنجاز نوعي وتكبيد كمّي وخرق جدّي لإسرائيل وأمنها واستخباراتها وأرضها وعمقها، تهيّب الكثيرون ـ ومنهم من هلل واحتفل بالإنجاز ـ الانتصار، لما قد يلحق بهذه العملية من “استغلال” و”استثمار” إسرائيلي قد يدفع أثمانها الشعب الفلسطيني إزهاقًا للأرواح وتدميرًا وتهجيرًا وقضاءً وتقويضًا لقضيته المحقة.
لم يكن اللبنانيون إلا على رأس المتهيّبين من نتائج هذه العملية، عليهم وعلى وطنهم، انطلاقًا مما أعلنه قائد العملية الراحل، الذي لم يُعلن عن رحيله بعد، من دعوة لوحدة الساحات، في إشعال جبهات المحور الإيراني وعلى رأسها الجنوب اللبناني.
الكل يتذكر كيف اجتهد الغيارى على المصلحة اللبنانية العليا في محاولة ثني “الحزب” عن الانخراط في المواجهات الدائرة في غزة تجنبًا لتوريط اللبنانيين بما ليس لهم فيه، داعين إياه الى الحكمة والتروي وتغليب المصلحة اللبنانية على أي مصلحة أخرى، والكل يتذكر أيضًا كيف رُشق “الغيارى” بالافتراءات والتجني وتهم العمالة والخيانة بسبب هذه المواقف.
أما ونحن على أبواب ذكرى العام الأول على العملية الإنجاز وعلى إشعال جبهات الإشعال والإشغال والإسناد، وعلى تمادي “المُشعِلين المُشغِلين المُسنِدين” في تخوين الغيارى والحريصين على الوطن وأمنه واستقراره، وبعد أيام على رد الحزب “المدروس” على النيل من قائده العسكري الأمني فؤاد شكر، ها إن الممانعين من مسؤوليهم و”أخبارهم” ومحلليهم، و”الحزب” وعلى الأخص أمينه العام، يتبنون رأي واستراتيجية مَن ما انفكوا يخونوهم ويتهموهم بالعمالة والخيانة. فبماذا يختلف على سبيل المثال لا الحصر ما قاله سمير جعجع ووليد جنبلاط وحتى جبران باسيل، عن ما باتت تقوله الممانعة، بدءًا بنصرالله، مرورًا برئيس مجلس النواب نبيه بري، تشعبًا لنواب وشخصيات أخرى في الخط الممانع؟
في 11 تشرين الثاني 2023 شدد جعجع على “وجوب أن نثني لبنان عن الانجرار إلى حرب إقليميّة لا تحمد عقباها، في ظل مرحلة صعبة جدًا تتطلّب دقّة فائقة في التعامل مع ما نشهده، بغية تجنيب لبنان مرّ هذا الكأس. المسألة لا تتعلق بان كانت للحزب مصلحة في جرّ لبنان إلى حرب إقليميّة أم لا، بل إن المعضلة تكمن في تدرّج الأحداث، ما يمكن أن يودي بنا إلى حرب إقليميّة”، ليستكمل الفكرة السابقة في 2 آذار 2024 بقوله: “أكيد إسرائيل تتحمل المسؤولية، بس حقك مش على عدوك، حقك على يلي عم يسهل لعدوك الحاق الأذى فيك. فنحن كلبنانيين وحكومة وسلطة ودولة يجب أن يكون هدفنا الحفاظ على الأراضي اللبنانية وأمن اللبنانيين، قبل التفكير بالآخرين ومساعدتهم وفق قدراتنا وليس العكس”. جو جعجع لاقاه موقف وليد جنبلاط في 27 تشرين الأول 2023 الذي دعا الى “منع إعطاء إسرائيل الذريعة”. توجُه الرجلين انسجم الى حد بعيد مع مواقف كل المعارضين، لما سماه “الحزب” إشعال جبهة الإسناد والإشغال من الأحزاب السيادية والشخصيات المستقلة، وحتى مع مواقف الخصوم السياسيين، إذ اعتبرت الهيئة السياسية للتيار الوطني الحر التي انعقدت برئاسة جبران باسيل في 27 آب 2024، “أن استمرار المشاركة في مواجهات غزة تحت عنوان الإسناد أو غيره ومن دون أفق زمني، هو استنزاف لقدرات اللبنانيين ومن شأنه أن يعمّق الشرخ الحاصل بينهم”.
المواقف المعارضة المنددة لإعطاء الذريعة لإسرائيل، لا تختلف بأي شكل من الأشكال عن موقف رئيس حركة أمل المنخرطة في الإسناد، الرئيس نبيه بري، الذي قال مثلًا في 8 نيسان 2024: “التصعيد العسكري الإٍسرائيلي غير المسبوق ضد لبنان، يأتي في سياق استدراجنا للدخول في حرب مفتوحة لن ننجر إليها”، ليكشف مقرب نافذ من “الحزب” لـ “الأنباء” أيضًا في 12 آب 2024، عن أن “الحزب يتفادى منح إسرائيل الذريعة لقصف مناطق مدنية”.
طبعًا لم يختلف موقف كل هؤلاء مع ما كتبته أخبار “الحزب” في 18 آب 2024 قبل رد “الحزب” نفسه على اغتيال شكر في الـ25 منه تحت عنوان “قوة المقاومة في منع الحرب”، إذ اشارت الى أن “خيار الحرب، ابتداء، يتعارض مع ماهية المقاومة، وأن موازين القوى لا تُحسب فقط في مواجهة العدو الإسرائيلي، وإنما أيضًا في مواجهة حلف شمال الأطلسي (وعلى رأسه الولايات المتحدة) الذي سيهبّ لنجدة إسرائيل كما اتضح”، لننتقل الى موقف نصرالله نفسه الذي اعتبر في 25 آب 2024 “ان أهلنا في الجنوب والبقاع والضاحية، يحملون العبء الأكبر في هذه المواجهة من 11 شهر في جبهة الإسناد لغزة وفلسطين والقدس”… كما اعتبر في الاطلالة نفسها، أن “العدو تجاوز كل الخطوط الحمراء، باعتدائه على الضاحية الجنوبية… مما ادى الى استشهاد مدنيين من نساء واطفال واغتيال شكر”، مقرًّا مع المعارضين أن “اعتبارات الوضع في لبنان والوضع الداخلي ووضع الناس والأجواء المحيطة أملت على الحزب توقيت وشكل الرد… وضعنا ضوابط أو عناوين للرد، أن لا يكون الهدف مدنيًا، نُريد ضرب هدف إسرائيلي ولكن لا نريد ضرب مدني، مع العلم أنه هناك شهداء مدنيّون في الضاحية الجنوبية ويحق لنا أن نستهدف المدنيين هناك، فالمدنيين بين هلالين وتحتها خطين هناك، لكن لأننا نعمل على معادلة بالحد الأدنى من 1992 بعد شهادة السيد عباس (رضوان الله تعالى عليه) وتكرّست بتفاهم نيسان 1996 هو حماية المدنيين في لبنان، فمن أجل تأكيد حماية المدنيين في لبنان وتجنيبهم أي أذى قد يُلحقه العدو بهم فضّلنا أن نتجنّب المدني عند العدو. وهذه المعادلة هي التي حَمت حتى الآن، على الرغم من 11 شهر على عملية 7 أكتوبر، بالأعم الأغلب، المدنيون، والشهداء المدنيون رغم أنه هنا بخصوص الشهداء لا يوجد قليل وكثير، لكن مع ذلك بالحسبة نستطيع أن نقول أنه تأمّن نسبة كبيرة جدًا جدًا من حماية المدنيين في لبنان، إذًا أولًا أن لا يكون الهدف مدنيًا وأن لا يكون الهدف أيضًا بنى تحتيّة”. كما اقر نصرالله باستعماله “صواريخ الكاتيوشا (ضعيفة الفعالية) التي ما زلنا نستخدمها منذ 11 شهر”.
وانسجامًا مع مصلحة “الناس” التي لطالما كانت أولوية القوى المعارضة للحرب، أكد نصرالله “المؤكد المُستَجِد” في كلمته التي أعقبت “الرد ـ المدوي”، في 25 آب 2024، إذ قال: “خلي الناس يريحوا أعصابهم، من يُريد أن يرجع إلى بيته فليعد إلى بيته، البلد يرجع يهدأ من جديد، لأن البلد كان كله متوتر بطبيعة الحال… إذا لاحقًا قررنا أن هذا الرد الأولي غير كافي ويحتاج إلى استكمال، هذا يأتي وقته إن شاء الله لاحقًا في وقت متأخر ولاحق، بالمرحلة الحالية البلد يستطيع أن يأخذ نفس…”
آخر الإلتقاءات في الموقف مع “المخوَنين العملاء”، ورد في كلمة الوزير والنائب السابق محمد فنيش في 28 آب 2024، إذ أكد “أن الفضل في تحقيق إنجازات المقاومة يعود لتضحيات الشهداء وللصبر والوعي الذي يمارسه مجتمع المقاومة، التي تعاملت بكل حكمة ودراية وشجاعة في اتخاذ القرار بالرد… ومن منطلق حرصها على عدم تمكين العدو او إعطائه ذريعة بأن يستهدف أمن مجتمع المقاومة أو مرافق الوطن أو المدنيين عمومًا… إن هذه العملية لا تخرج عما رسمته قيادة المقاومة لنفسها من أهداف أو عن حسابات المصلحة لمجتمعها وبلدها ومشروعها، ولا تبادر بانفعال، فالعملية ليست عملية مواجهة بين قبيلتين أو مسألة ثأر، إنما هي كفاءة في إدارة الصراع”.
بعد مرور أقل من عام بقليل على تورط “الحزب” وتوريط اللبنانيين في الحرب الصغرى وجرهم الى حافة الحرب الكبرى، حبذا لو ينسحب ما تمتّع به “الحزب” مؤخرًا وما أظهره للعدو من حكمة ودراية ومسايرة ومهادنة وحرصًا على مُدنه ومدنييّه، على من لا ينفك يخونهم من شركاء في الوطن، لاتخاذهم نفس الموقف الذي اتخذه وتبنّاه متأخرًا، مضيفًا هذا الموقف الى سلسلة انتصاراته “المدوّية”.