أحبّوا لبنانَ حتّى النهاية، أحبّوه أكثر من كلّ هؤلاء، أضحى لهم قيمةً عظمى في حياتهم كما في استشهادهم. أخذوا منه هويتهم النضاليّة وأعطوه حياتهم هويّة بطولة، شربوا العنفوان من دفق ينابيعه الغزيرة فأزهروا أرزًا خالدًا على حدوده. تواعدوا على الدفاع عن أرضه وحماية شعبه، فكانوا الأمناء لكلمتهم ولم يُخِلّوا بوعدهم حتّى النهاية. لم يميّزوا بين أسماء الغزاة والمحتلّين بل واجهوا الجميعَ باسمه، وتحت رايتِه اصطفّوا صفًّا واحدًا مرصوصًا لا تفرّق بينهم غائلة ولا تغرر بهم غاوية. حتّى عندما اتّخذ المحتل اسم دولة الوصاية؛ رفضوا التعلّق بأصقاع الدنيا ولم يهاجروا إليها، بل تشبّثوا بأرضه وقاوموا المحتلّ ودحروه كي لا تحسب عليهم خيانةً.
لم يحبّوه لغايةٍ في قلوبهم، بل لأنّ تاريخه تاريخ كنيستهم وتاريخ أجدادهم. توارثوا محبّته عن أجدادهم منذ أربعة عشر قرنًا، إرثًا لم يُكتب في وصيّةٍ أو كتابٍ بل أرضعته الأمهات لأولادهنَّ، ونقشهُ الآباءُ في قلوب الأبناء، رجالٌ أبطالٌ، لا تخفق قلوبُهم سوى لصليبٍ مغروسٍ في قلبِ صخرةٍ من جبال لبنان. لم يتَّكلوا إلّا على قدراتهم الذاتيّة، لأن رجاءهم بالربّ يسوع القائم من الموت منعهم من الاتّكال سوى على قوّة صليبه. آمنوا بأن أرض لبنان أرضُ قداسةٍ وهي نقطة انطلاق المسيحيّة نحو شعب الله، لذا تبنّوا رسالة المسيح وتعليم كنيسته، ووضعوا كلّ قدراتهم في سبيل تحقيق مشيئته، حتّى بذلوا أنفسهم حبًّا بالمسيح وبوطن القداسة. عاشوا في هذا التاريخ اللبنانيّ البعيد والقريب، ناضلوا فيه واستُشهدوا على أرضه، ليكتبوه ملاحمَ بطولةٍ وعبرٍ للأجيال القادمة، فتكون لهم في المستقبل خارطة طريقٍ تقودهم إلى قلب الله.
أحبّوه كبيرًا بمحافظاته الستّة من الشمال حتّى الجنوب ومن البحر إلى أعلى سلاسل الجبال، واحترموا طوائفه الثماني عشرَةَ أمسيحيّة كانت أو إسلاميّة. ناضلوا كي تبقى دولتُه سيّدة مستقلّة على جميع محافظاته، وتبسط سلطتها على جميع طوائفه. أرادوا لوطنهم جمهوريّةً قويّةً تحكم بالمساواة بين أبناء طوائفها، فالكبيرة والصغيرة سواسية، يعيش فيها الناس مواطنين متساوين بالحقوق والواجبات، يقضي قضاتُها بميزان عدل القوانين، ويأخذ كل ذي حقٍّ حقّه من دون منّة من أحدٍ. بيدَ أنَّ حساب بَيدَر الدولة لم يطابِق حساب حَقلَة الأبطال، هم سُجِّلوا في التاريخ أبطالًا، أما هي فتجرّعت كأس سُمِّ مغامراتها القاتلة. لذا يقف اليوم أولادهم وأحفادهم حائرين بين بطولةِ الآباء وبين تقهقر الدولة، فيقودهم عقلهم نحو الاستسلام، لكنّ قلوبَهم تمنعهم من ذلك، لأنهم أولادٌ من سرّ والديهم، قلوبهم لا تخفق سوى لحبّ لبنان، ولا تميل سوى لحمل صليب الوطن حتّى النهاية. كما في التاريخ كذلك اليوم، يولد الأبطال من أرحامِ الأمّهات في لبنان، وهم لا يعترفون بالملاحم والأساطير، فهم مُسجَّلون في السجلات وهويّاتهم لبنانيّة، إنّهم أبطال يعيشون في جغرافيّة الحاضر وسيحجزون لأنفسهم صفحاتٍ في كتب التاريخ.
نأتي إلى حضرتهم كلّ سنةٍ في الأحد الأوّل من شهر أيلول، نصلّي في ذكراهم كي يسمع اللهُ صوتَ الحبّ فيرضى عنّا. نأتي من كلّ حَدبٍ وصَوبٍ من أقاصي العالم من خلف البحار ليس للذكرى وحسب، بل لأنّهم أبطالٌ وإكرامهم فرضٌ وواجب علينا، فهم استُشهدوا كي نحيا بسلام. إنّه موعدٌ ثابتٌ في وجدانِنا لا نغيب عنه، لأنّ رهبة حضرتهم ترفع منسوبَ الوطنيّة والولاءِ للدولةِ في نفوسنا، همُ الّذين أحبّوها بكلّ جوارحهم، لا لنسلّمها اليوم إلى مغتصبها وجلادها. وعندما نحدّق في عيون الحضور نردّد في قلوبنا “أجيال تسلّم أجيال”، إنّه الإرث الّذي لا ثمن له في الأسواق التجاريّة، إنّه صليبٌ ولكنَّ عشقه أعظمُ من أيّ حبٍّ في الدنيا. لا نعرف منبعَ هذا العشق، بيد أنّنا نسمع نبضاتِه في قلوبنا ونتلمّس أثارَه في وجداننا، نتقدّم في العمر والسنين وهو دائم الدفق في الشرايين، لا تستطيع قوّة إرهابٍ لجمه أو صدّه، إنّه شريان دمٍ لا يجفّ إلّا متى توقَفَ القلب عن النبض. بالتالي لن يكونوا ذكرى لنا حتّى لو جئنا إلى ذكراهم، ولن يكونوا صورًا نعلّقها في المنازل، إنّهم الأمثولة الّتي جعلتنا نحمل الصليب وسط جيلٍ معوجٍّ لا يعرف معنى التضحية، ولا يحبّ خارجًا عن ذاته، ولا يتعلّم من الماضي لا القريب ولا البعيد، أمّا نحن فهكذا سنبقى على هذه الأمثولة عاشقين هذا الصليب حتّى النهاية.
نسير صوب المذبح في موكبٍ حاملين القرابين إلى قدسِ أقداس الربّ يسوع، ليقبلها عربون وفاء لهؤلاء الأبطال من جهة أولى، ورحمةً بلبنان وبشعبه من جهة ثانية. استُشهد الكثيرُ من اللبنانيين حبًّا بهذا الوطن، بينما يبقى كثيرون أيضًا يتاجرون حبًّا بثرواته. إنّه وطن الرسالة والقداسة ولن يتركه الله وحيدًا، لأنّ هناك شهداءَ كثيرون ساكنون في الأخدار السماويّة ويصلّون من أجله يوميًّا. بالإضافة إلى قدّيسين صحبة مار شربل يتشفعون به دائمًا، والله يستجيب لجميع الصلوات والشفاعات لأنّه محبّة وقلبه يخفق لأهل المحبّة. سنصلّي لهم بكلّ رجاءٍ بالربّ يسوع القائم من الموت ليكافئهم على محبّتهم وتضحايتهم، ونطلب منه أن يضع يده في هذا البلد الّذي يرزح تحت جشع الكثرين وأطماعهم، ليمنحه الله الآب بركاته ونعمه، ويبعد الحرب عنه ويزيل البؤس والهمّ عن شعبه. ونحن سنبقى على الذكرى والوعد مع شهداء القوات اللبنانيّة الّذين أحبّوا لبنان حتّى النهاية.
كتب الأب مارون عوده في “المسيرة” ـ العدد 1756
شهداؤنا أمثولة تضحيات في صفحات التاريخ
ليبقى لبنان أرضًا للأجيال
للإشتراك في “المسيرة” Online:
http://www.almassira.com/subscription/signup/index
from Australia: 0415311113 or: [email protected]