النسيج الوطني يبدأ بصيغة توافقية.. لبناننا باقٍ

حجم الخط

لبنان

لا يختلف اثنان حول مدى سوء الوضع السياسي في لبنان. هذا البلد الذي ما زال قابعًا في سجن الجغرافيا منذ نيّف وقرن على ولادته المؤسّساتيّة، حتّى كادت مؤسّساته أن تتحلّل نتيجة لتداعيات الجغرافيا – السياسيّة، وانغماس بعض الفرقاء بالسياسيّة الإقليميّة إلى حدّ الارتهان. ولم يعد خافيًا على أحد أنّ هذا الارتهان اتّخذ من الأيديولوجيا الدينيّة سبيلًا سرمديًّا، لا رجوع عنه. فبتنا أمام نمطيّة عقليّة انتقلت من المحروميّة إلى الفوقيّة، حتّى صارت الشراكة الوطنيّة عندها ارتهان لعقلها هذا، كما ارتهنت هي نفسها لإيديولوجيا الخارج. فإلى متى سيبقى لبنان الدّولة في معتقله الجغرافيّ هذا؟ وهل قدرنا في هذا البلد أن نبقى أسرى لحكّام محكومين ولا يحكمون؟ وهل هنالك أيّ سبيل لاستمرار الشراكة مع هذا النّوع من الارتهان الاجتماعي لهذا العقل على حساب العقل الكياني؟

 

العودة إلى الوطن تحرّر

الإنسان الحرّ يعتقَلُ قسرًا، ولكن قد يذهب أحيانًا إلى معتقله طوعًا تحقيقًا لهدف سامٍ، ما يشكّل نوعًا من الصمود والمقاومة. وبعضهم مَن يتّخذ من الحروب في حالة المواجهة ذريعة للمقاومة أيضًا مصوّرًا نفسه ديغول العصر، فيما سرعان ما تثبت السّنون أنّه لا يتعدّى كونه العدّاء الأوّل في الهروب. وفي بعض الأحيان يؤثر الإنسان الهجرة والانتقال إلى بعد جغرافيّ آخر، تكون فيه مساحة الحرّيّة أكبر فيعيش قناعاته. وقد يبقى على صلة بجذوره الكيانيّة، وأحيانًا يقرّر الانسلاخ الطّوعي والاندماج في الجغرافيا الجديدة التي هاجر إليها. ولنا في هجرة القديس يوسف هربًا من اضطهاد هيرودس الملك الذي تخوّف من مزاحمة المسيح له في الملك، خير مثال على الهجرة التي يبقى فيها المهاجِر متعلّقًا بوطنه، ويعود إليه عند أوّل فرصة. فحينما فشل هيرودس بقتل الطفل يسوع عبر المجوس، ذبح أطفال بيت لحم ما دون السنتين. فأقام يوسف ومريم في مصر حتّى موت هيرودس، وعادا إلى النّاصرة في الجليل بعد موته، حيث حكم أنتيباس كان أكثر رحمة وعدالة من أرخيلاوس في يهوذا.

والعودة إلى الوطن تحرّر الإنسان من أدران غربته. وتريحه من هذا الصراع الكِياني الذي يعصر نفسه. كما أنّ هذه العودة تمنح للإنسان روحًا متجدّدًا بفعل ما اكتسبه من عمليّة المعاصرة التي اختبرها في غربته؛ ولكنّ عودته إلى وطنه تعيده إلى أصالته أغنى ممّا كان قبل رحيله.

 

الحرّيّة في الجغرافيا أم التاريخ؟

لا شك أنّ المعتقل الأصعب، أو الغربة الأصعب التي قد يعيشها أيّ إنسان هي غربته في وطنه ذاته. ولعلّ هذا أصعب ما قد يخالج الإنسان من أحاسيس ومشاعر، فيُصاب بالكره لما هو فيه نتيجة للحال التي وصل إليها في وطنه. وما من واقع أصعب من ذلك الذي تفرضه الجغرافيا على وطن فيضطر لأن يكتب تاريخ وجوده بارتباطه في هذه الجغرافيا. صحيح أنّ التّاريخ قد يحرّر البشر إذا كُتِب بشكل صحيح، ويعطيهم السلام الجماعي لأنّه يحفظ ذاكرتهم الجماعيّة، لكنّ الجغرافيا أيضًا تستطيع أن تحرّر إذا ما كانت هي بذاتها المكان الحصين الذي يحفظ التّاريخ.

ولعلّ هذا ما خلق إشكاليّة عاصية على الحلول في لبنان. فتاريخنا الجماعي لم يكتب بعد، وذلك لعمق الاختلاف الكياني الذي بات هو نفسه الخلاف الذي يشقّ العقد الاجتماعي الذي بني في ذلك الأوّل من أيلول في العام 1920. أمّا الجغرافيا اللبنانيّة التي حاكها “حويّك” التّاريخ، محاكيًا تاريخ أزمن “الدّويهيّ”، فلم تستطع أن تشكّل هذا الحصن الحاضن للتاريخ، بل على العكس تمامًا، غالبًا ما كانت هي بحدّ ذاتها العامل المزلزِل لهذا التّاريخ المزلزَل أساسًا.

وبالطبع الاقتلاع الجغرافي مستحيل. لذلك، يجب تحييد لبنان في جغرافيّته عن محيطه الذي يؤثّر في وجوديّته سلبًا، وذلك لا يكون إلّا عبر إعلان حياده الإيجابي. فلا يمكن راهنًا للبنان أن يوقّع السلام مع إسرائيل، فهذا موضوع إشكاليّ في السياسة الإيديولوجيّة لتركيبة أكثر من نصف مكوّنات الشعب اللبناني. كما لا يمكن للبنان أن يعادي النّظام الموجود في سوريا اليوم لأنّ هذا ما يشكّل امتدادًا فكريًّا لقسم من اللبنانيّين.

وهذا ما يثبت ضرورة التوصّل إلى إعلان صيغة سياسيّة حياديّة تحاكي هذه العقليّة المحتمعيّة لمكوّنات الشعب اللبناني الحضاريّة. لأنّه إذا نجح قسم بفرض قناعاته السياسيّة على اللبنانيّين جميعهم، فسيأتي “مومنتوم” إقليمي ما أو دولي  ما ويقلب هذه الموازين؛ فيعود القسم الآخر فيفرض قناعاته السياسيّة. وفي كلتا الحالتين يبقى أكثر من نصف اللبنانيّين في حال غبن سياسيّ. وهذا ما سيخلق مناخًا من عدم الاستقرار، وسيُترجم صدامًا بين مكوّنات الوطن عندما تسنح الظروف لذلك.

ولا يمكن للواقع الجغرافي أن يتواءم مع الواقع الديموغرافي في حال قرّر أيّ نصف أو قسم من الشعب اللبناني تحقيق مبدأ السلام العادل مع أيّ محيط جغرافيّ، إلا إذا حصلت عمليّة “ترانسفير” ديموغرافي لمن يعارض هكذا مشروع على الحدود مع الجارين اللدودين للبنان. وهذا بالطبع ما يبدو مستحيلاً في ظلّ هذا التداخل الديموغرافي بين مختلف المكوّنات اللبنانيّة. يبقى أنّ أيّ مخطّط دوليّ ما أكبر من الواقع اللبناني بكثير قد ينجح بتحقيق هكذا مشاريع إذا وجدت لها حاضنة وطنيّة. وهذه الحالة شبه مستحيلة للأسباب التي فنّدناها. وعليه، يبقى الحياد هو الحلّ الوحيد.

 

نموذج لبنان 1986 – 1990 المؤسّساتي النّاجح:

أمّا لبنان السياسي، أو الصيغة والنّظام، فلا يستطيع أن يكون بعيدًا من واقعه المجتمعي. تركيبتنا الطوائفيّة هي مصدر الغنى الذي يميّز لبنان ويجعله متقدّمًا في فرادته على محيطه الآحادي. ولا يعني وجود هذا الصدام “المكوّناتي” في لبنان أنّ الانفصال الكياني قد يشكّل حلًّا. صحيح أنّه قد يكون حلًّا في مرحلة ما كما حدث في الفترة التي امتدّت من العام 1986 حتّى العام 1990. يوم نجحت المقاومة اللبنانيّة في بناء منطقة حرّة تعيش فيها مجموعة حضاريّة واحدة متجانسة حضاريًّا. وشكّلت يومها هذه المنطقة نموذجًا من الاستقرار والازدهار حتّى صارت قبلة الأنظار، إلى أن وافاها الدّمار على أيدي مَن يُفترض أن يكونوا حماة لهذه الدّيار.

ولقد شكّل النّموذج في حكم هذه المنطقة حالة فريدة في الجغرافيا اللبنانيّة المشلّعة وقتذاك. فكان الحاكم حاكمًا. وصار الذين عاشوا في هذه المنطقة شركاء في الحكم عبر التزامهم بالأمن العسكري والاجتماعي والاقتصادي والصحّي والبيئي لهذه المنطقة. وبالتّالي تحرّر سكّان هذه المنطقة من عقدة الحاكم المحكوم بالتوازنات الإقليميّة، وبالإرتهانات الإيديولوجيّة، أو حتّى المعاهداتيّة على قاعدة ضمان الصفقات أو الأمن أو أيّ شيء آخر مقابل استمرارية هذا الحكم.

من هذا المنطلق، لن يتحرّر الحاكم في لبنان إلّا عندما يصبح حاكمًا ندّيًّا في محيطه الإقليمي الواسع وفي رحابه الدّولي الأوسع. عندها يستطيع هذا الحاكم أن يفرض ما يريد لا أن يُفرَضَ عليه ما يُرادُ. وعندها فقط ينجح هذا الحاكم بالحصول على احترام الشعب اللبناني. ولنا في أنموذج الرئيس الشهيد بشير الجميّل خير مثال. هذا الرئيس الذي حصد احترام الشعب اللبناني، على اختلافه وتنوّعه، فنجح في أقلّ من عشرين يومًا ويومًا واحدًا فقط باستعادة هيبة الحكم، والإنتظام المؤسّساتيّ.

 

صمودنا أساس في تصويب المسار الكياني

يقيننا أنّنا لن نبقى أسرى داخل وطننا لحكّام مرتهنين من الصفقات إلى العمالة وليس انتهاء بالإيديولوجيا، لأنّه ما زال في لبنان قسم كبير من أبنائه يؤمنون بقدرة هذا الوطن على الحياة. وقد نجح هذا القسم ببناء جسم معارضاتيّ سليم داخل المؤسّسات السياسيّة لما تبقّى من دولة. كما نجح هذا القسم بالذات بتكريس مبدأ احترام الدّستور والمؤسّسات عبر تعطيله المسار الذي انتهجه فريق إيران في لبنان، والذي حاول فرض أعراف لتخطّي الدّستور.

الى أن تأتي اللحظة السياسيّة المناسبة لتصويب المسار التمثيلي الدّستوريّ، يصمد الفريق المعارض وسط أتّون الحرب الإقليميّة التي زجّ فريق الممانعة فيه لبنان كلّه في 8 تشرين الأول 2023. وهذه اللحظة لا بدّ آتية ليس فقط إيمانًا منّا بأنّ التاريخ يستطيع تصويب مساراته، بل لأنّنا قرّرنا أن نعيش في لبنان، ونُحيي معنا مَن قرّر أن يموت خارجه.

 

الشراكة المستحيلة تصبح واقعًا عبر تجدّد الصيغة بالصيغة نفسها

هذا كلّه يسلّط الضوء على قابليّة استمرار الشراكة الوطنيّة في وطن يلفظ أنفاسه الكيانيّة الأخيرة. إمّا أن نعيد إحياءه على قاعدة كيانيّة ثابتة، وإمّا فلنعمل جميعًا على إعادة إنتاج كيانيّة لبنانيّة نقيّة، خالية من الشوائب الوطنيّة. نعلم جميعنا أن العقليّة التي تتّسم بالفوقيّة والعنجهيّة نتيجة تفوّقها بامتلاك السلاح هي التي يجب إسقاطها. وهذه المسألة لا تتمّ إلا بتسعير النّمذجة الكيانيّة بين اللبنانيّين أنفسهم بأنفسهم. ولعلّ ما نشهده من هجمة من بعض الشيعة المنضوين في بيئة الممانعة قسرًا أو طوعًا على المناطق التي ما زالت محافظة على نمطيّة الحياة فيها، على رغم الطريق التي حفرها الممانعون صوب القدس؛ إلا أنها خير دليل على تمسك هذا القسم من اللبنانيّين بمبدأ حبّ الحياة، ولذلك اختار اللجوء إلى هذه المناطق.

هذه الشراكة لن تسقط لأنّها عماد النسيج الوطني اللبناني. ولكن يجب صون هذا النّسيج بتحييك صيغة سياسيّة توافقيّة تبدأ بلامركزيّة حضاريّة، لتتوّج بأوسع شكل من أشكال الاستقلالية الحضاريّة في صلب الكيانيّة اللبنانيّة. ولا نخفي سرًّا إن جاهرنا بذلك.  فبنهاية المطاف، الدّستور الذي ارتضى اللبنانيّون على تعديله في اتّفاق الطائف ينصّ على ذلك. وهذا ما تعارف عليه باللامركزيّة الموسّعة.

ولن نستطيع التوصّل إلى هذا المقام من الصيغة السياسيّة إلا إذا تحرّر العقل المرتهَن لإيديولوجيا التفوّق الحضاري – المذهبي. وهذا التحرّر لا يتمّ إلّا متى استطاع الجزء المختطف من المكوّن الشيعي الشّعور بحرّيّته في التعبير. وهذا لن يحصل إلا إذا عاد “الحزب” طوعًا إلى صلب التركيبة الكيانيّة اللبنانيّة، فيعيد بذلك لبنانيّة مَن نجح بإخراجهم من لبنانيّتهم معه.

هذه المسألة ما زالت حتّى الساعة صعبة، ولا نقول مستحيلة، لأنّ رهاننا هو على حبّ اللبنانيّين للحياة. وإن حقّق الباطل تقدّمًا ما، فنحن والحقّ أكثريّة؛ ولا بدّ أن ننتصر إذا حافظنا على استقرارنا في استمرارنا بصمودنا. آنذاك سيكون الغد لنا حتمًا!!

 

كتب د. ميشال الشمّاعي في “المسيرة” ـ العدد 1756

النسيج الوطني يبدأ بصيغة توافقية حضارية

لبناننا باقٍ واستحالة الوجود باطلة

إقرأ أيضًا

للإشتراك في “المسيرة” Online:

http://www.almassira.com/subscription/signup/index

from Australia: 0415311113 or: [email protected]​​​​​​​​​​​​​

المصدر:
المسيرة

خبر عاجل