23 آب بين حنينٍ باكٍ وحنينٍ خلّاق

حجم الخط

يصعب أن تمرّ ذكرى 23 آب 1982، ولا يشعر من ساهموا في صنع هذا اليوم بغُصّة وحُرقة.

الغُصّة أنّهم صرفوا من أجله جهودًا يعرف الله، وحده، عناءها وصعوبتها ومشقّتها. فترجع بهم الذاكرة إلى تلك الخَلوة التي انعقدت بسرّيّة، يوم السبت في 27 أيلول 1980، في دير سيّدة البير (المتن)، في أجواء من روحانيّة المؤسّس الأب يعقوب الكبّوشيّ.

في ذلك اللقاء، وبرئاسة الدكتور شارل مالك وحضور القياديّين في “القوّات اللبنانيّة”، على اختلاف مهمّاتهم ومراتبهم، اتّخذ المجتمعون قرارهم التاريخيّ بإيصال بشير الجميّل إلى سدّة رئاسة الجمهوريّة بعد سنتَين، أي في صيف 1982، انطلاقًا من خطّة واضحة نوقشت بعمق. ثمّ وُزّعت مسؤوليّات التنفيذ التدريجيّ على عدد من المشاركين في اللقاء، كلّ بحسب اختصاصه ومسؤوليّاته الالتزاميّة. وتحقّق الهدف. وصار بشير الجميّل رئيسًا للجمهوريّة في جلسة عقدها مجلس النواب في المدرسة الحربيّة في الفيّاضيّة يوم الإثنين في 23 آب 1982. ولكن ما لبث أن استشهد الرئيس الجديد.

أمّا الحُرقة، فبانهيار الأمل في إنقاذ لبنان، دولة وشعبًا، ممّا كان يتخبّط فيه من موت ومآسٍ ودمار، وفي تحويله إلى واحة أمان وسلام، والمساهمة في نقله إلى الأفضل والأحسن، وقد كنّا على قاب قوسَين من القرن الحادي والعشرين.

 

الغُصّة والحُرقة تولِّدان الحنين

الحنين إلى أيّامٍ تراصَّ فيها المسيحيّون دفاعًا عن قِيَمٍ وكيان استماتوا في إنشائه والذود عنه، وعن مستقبلٍ حضاريٍّ مثالٍ لتعدّديّةٍ مجتمعيّةٍ متآلفة، تعتبر الإنسان-الشخص، أيًّا كان ومهما كان وأينما كان، قيمة مطلقة في ذاته، “وله الأوّليّة على كلّ ما عداه في الكون”.

والحنين، إذا ما استمرّ حنينًا فحسب، بقيَ تأسّفًا على الماضي، وجمودًا فيه، ووضعًا عقيمًا لا خير منه ولا رجاء. إنّه الحنين الباكي.

الحنين الباكي يقطعنا عن الأمل. يحطّ من عزيمتنا. يسدل على بصيرتنا ستارة صفيقة. يشكّل ذريعة نتوسّل بها لنبرّر تقاعسنا وكسلنا ولامبالاتنا. ويؤسّس لخداعِ ذاتٍ يقدّم مسوّغًا لاستقالتنا الإراديّة الجبانة من خوض غمار المستقبل.

الحنين الباكي “صَنَّمَ” بشير الجميّل عند بعضهم، فاعتبره فريد عصره، وفوق البشر في خصاله. ولأنّ الزمان لا يجود كلّ يوم ببشير آخَر. تقوقع الباكون، وكأنّما صار بشير نهاية التاريخ. وما جاء به مات معه. وانتهى الزمان.

ولكن، لحسن الحظّ، للحنين وجه آخَر، ذو طبيعة مختلفة، تجعله خلاّقًا.

الحنين الخلاّق يدفعنا، مهما حصل، إلى المثابرة في بلورة الأهداف وعصرنتها وإثرائها وقيادتها نحو الأحسن والأفضل. يحفّزنا للاستمرار في الالتزام الدائم المعجون بالخُلُقيّة والمخضّب بالتضحية. ويُرسي الأسس للرؤى. وما السياسة، في حقيقة وجودها ومعناها المتسامي، إلّا رؤيا. وإلّا تكون السياسةُ بهلوانيّةَ مصالحٍ وأنانيّات.

الحنين الخلاّق يستوحي من بطل، كبشير، إيمانَه بالقضيّة وعدم المساومة عليها، ونضالَه الذي لم يعرف الكلل، وعملَه على تسريع الزمن. يتعلّم منه اقتحام المستقبل. يستنير بإحساسه وعاطفته وبتأثّره البالغ وهو يتأمّل قبرَ شهيد.

الحنين الخلاّق يعتبر أن بشير الجميّل ابن ظروفه، بالإضافة إلى ما حباه الله من طاقات وشخصيّة فذّة. ويَحسب أنّ بين المواطنين بشيرِين عديدِين، إذا ما الظروف ساعدتهم ووضعت قدراتهم على المحكّ.

وفضلّا عن ذلك، فإنّ الحنين الخلاّق يريدنا، اليوم، في ذكرى وصول بشير السياديّ الاستقلالي الحرّ إلى السلطة، أن نطرح موضوع رئاسة الجمهوريّة اللبنانيّة على بساط البحث والتفكير والتأمّل، خصوصًا وأنّها موضوع الساعة الملحّ، متسائلين عن الصيغة الفضلى لقيادة السفينة اللبنانيّة في الزمن الآتي.

•••

 

في شهر أيلول من العام 2004، كتبتُ عن موقف بشير الجميّل ورأيِه في السلطة والحكم. وأوضحتُ، بنصوص لبشير مؤيِّدة، أن رئيس الجمهوريّة، في نظره، “يكون هو المسؤول الأوّل والأساسيّ في حكم الدولة. علمًا بأنّه مقتنع في عمق وجدانه بحقيقة التعدّديّة في المجتمع اللبنانيّ. وقد أعلن ذلك صراحة وعلى نحو مستمرّ”.

كلام بشير الجميّل قد يوحي بأن لا تعارضَ بِنيويًّا بين التعدّديّة المجتمعيّة والنظام المركزيّ الصارم. وهو، من جهة أخرى، مقتنع بأنّه قادر على إقامة “الحكم القويّ” معتمدًا على إخلاصه، وصدقه في توطيد الإستقرار والأُلفة بين اللبنانيّين، وقدرته على النجاح في مهمّته. ألم يردّد غير مرّة “أنا معتاد على تحقيق كلّ أحلامي”؟.

وأضفتُ: “أجزمُ بأن بشير الجميّل، هنا، كان على خطأ. ولطالما ناقشتُه في هذه القضيّة وبحثتُ معه في أمرها من وجوهه المختلفة.

فمن جهة، إنّ بشير الجميّل، ذا الطموح اللامحدود، هو مِثل القادة التاريخيّين الذين يقودهم طبْعُهم إلى تولّي السلطة مباشرة بأنفسهم، بأكبر مقدار ممكن من الصلاحيات، وأقلّ مقدار ممكن من حصر السلطة.

ومن جهة أخرى، إنّ التركيبة المجتمعيّة في لبنان وفي سائر البلاد حيث عدد المسلمين فيها أكثريّ، أو مساوٍ للآخرين، وفاعل في الواقع المحسوس، لا تتحمّل على الإطلاق نظامًا مركزيًّا متشدّدًا يكون على رأسه شخص غير مُسْلِم. ونزعُ الصلاحيات “غير الفاعلة” التي كانت لرئيس الجمهوريّة في لبنان في الدستور قبل تعديلات الطائف كان تطبيقًا لهذه الحقيقة”.

“إنّه أمر مبتوت فيه. وعلينا قبوله واعتباره معطًى أساسيًّا من معطيات النظام السياسيّ اللبنانيّ المستقبليّ. وأعتبرُ أن إصرار بشير الجميّل على “الحكم القويّ”، بالمقوّمات التي أعلنها وقتذاك، هو “حلّ تفجيريّ” عاجلًا أم آجلًا”.

ولا زلتُ اليوم عند موقفي. وإنّني مقتنع به أكثر فأكثر. ولنلقِ نظرة إلى الماضي، ولنفهمْ ما يجري في الحاضر، ففيهما تأكيد يقينيّ.

•••

 

منذ قيام “الجمهوريّة” في لبنان في العام 1926، ومسألة رئاستها مطروحة بشكل أو بآخر، مع الإشارة إلى أنّ المسلمين كانوا قد اتّخذوا قرارًا بمقاطعة السلطة في لبنان احتجاجًا على ضمّهم إلى دولة لبنان الكبير. كما أنّ الموارنة قبلوا، واقعيًّا ومن غير حماس، أن يتولّى أرثوذكسيّ، هو شارل دبّاس، رئاسة الجمهوريّة، على الرغم من أنّهم كانوا في طليعة من قدّر خُلُقيّة شارل دبّاس ووطنيّته وعلمه ونزاهته.

وفي صراع الزعيمَين المارونيَّين إميل إدّه وبشاره الخوري على الرئاسة في العام 1932، خطر في بال إدّه وعدد من مؤيّديه من النوّاب الموارنة، أن يرشّحوا لرئاسة الجمهوريّة مسلمًا سنيًّا هو الشيخ محمد الجسر، الذي وقف إلى جانب الجنرال غورو لحظة إعلانه “دولة لبنان الكبير” في الأوّل من شهر أيلول من العام 1920.

لم يكن اقتراح إدّه وزملائه محبّةً بـ”الجسر”، ولا سعيًا لإلغاء طائفيّة سياسيّة غير منصوص عليها صراحة في الدستور، بل كان لقطع الطريق على بشاره الخوري. ولم يرُق هذا الاقتراح للأوساط المسيحيّة، وخصوصًا المارونيّة. فاتّخذ الانتداب من موقف المسيحيّين ذاك ذريعة لتعليق الدستور وحلّ الوزارة ومجلس النوّاب. وأعاد شارلَ دبّاس رئيسًا للدولة لأجل غير مسمّى، يعاونه مجلس مديرين.

دام أمر الرئاسة مبلبلًا أحد عشر عامًا، أيْ من 1932 إلى عام الاستقلال 1943، تاريخ انتخاب بشاره الخوري رئيسًا للجمهوريّة اللبنانيّة المستقلّة. وخلال هذه الأعوام، عيّن الانتداب، بالتتابع، حبيب السعد (مارونيّ) وإميل إدّه (مارونيّ) وألفرد نقّاش (مارونيّ) وأيّوب تابت (بروتستنتيّ) وبترو طراد (أرثوذكسيّ) رؤساء للدولة اللبنانيّة. وكان النوّاب الدستوريّون، أيْ أعضاء الكتلة الدستوريّة التي يرأسها بشاره الخوري، قد اعتبروا في العام 1932 أنّ “رئاسة الجمهوريّة علّة العلل”. وفعلًا، كانت رئاسة الجمهوريّة، وبقيت حتى اليوم، “علّة العلل”، لسبب أو لآخر، بما في ذلك مصيبة التجديد والتمديد.

صار عند المسلمين رفض محقّ لأن تُحصر رئاسة الجمهوريّة، وإنْ عرفًا، بطائفة مسيحيّة. وهناك لائحة طويلة بكتب ومقالات وبيانات، وتصاريح ومؤتمرات شعبيّة وصحافيّة، ومواقف علنيّة شتّى، تعكس كلّها رفض هذا الواقع. ودام الرفض حتى “اتفاق الطائف” الذي “حدّ” من صلاحيات رئيس الجمهوريّة/ علمًا بأنّ اتفاق الطائف لم يُنْقِص، عمليًّا، من صلاحيات الرئيس. فقد قونَنَ ما كان العرف السياسيّ يطبّقه، قسرًا وخلافًا لنصوص الدستور الصريحة.

وانتقل الرفض بعد الطائف، إلى المسيحيّين، وخصوصًا الموارنة. فهناك جوٌّ مارونيّ عامّ رافض، ولا يزال، للحدّ من صلاحيّات رئيس الجمهوريّة. وجوُّ مسيحيّ غير مارونيّ رافض، وإنْ بصمت، أن يبقى هذا المنصب محصورًا بالموارنة. وأنا على اطّلاع على هذا الموقف في أعماقه، وأحسّ به بوضوح من خلال علاقاتي المباشرة، بحكم إلتزامي الوطنيّ، بكثير من المسيحيّين غير الموارنة، المناضلين، والمتمسّكين بالكيان اللبنانيّ وسيادته وحرّيّته تمسكًا لا أشدّ ولا أروع.

وهكذا، في مراحل لبنان الثلاث: فترة الانتداب، وزمن الصيغة، ومرحلة الطائف، لم تُحلَّ مشكلة رئاسة الجمهوريّة. ولا يبدو أنّها ستُحلّ ما دام يتولّاها فردٌ في دولة ذات بنية دستوريّة بسيطة ومركزيّة، خصوصًا وأنّ في الأجواء الحاليّة تساؤلًا شيعيًّا، أيضًا، حيال “ما” يعتبره الشيعة حقًّا لهم في التوازن العامّ الراهن.

إنّ الحلّ يكمن في بناء دولة لبنان على صورة مجتمع لبنان، أيْ دولة مركّبة بنظام ديمقراطيّ توافقيّ، يحترم التعدّديّة المجتمعيّة، ويعطي اللبنانيّين جميعهم حقوقًا متساوية على الأصعدة كافّة.

فالحكم، عندنا، لن يستقرّ، والشعور بالغبن أو الخوف عند هذا الفريق أو ذاك لن يزول، إلّا بنظام إتّحاديّ (فدراليّ) “ما” ينصّ على مجلس رئاسيّ “ما”، بمناصفة مسيحيّة-إسلاميّة، وبآليّة تتيح أكبر قدر ممكن من التجانس السياسيّ بين أعضاء المجلس. هذه الإتّحاديّة لا تقوم إلّا بإرادة رأي عامّ لبنانيّ حرّ عريض، ومطالبته الصريحة بها. وهذا لا يعني أنّ الإتّحاديّة، بحدّ ذاتها وفي طبيعتها، تتلازم وقيام مجلس رئاسيّ. كلّا! إنّما في لبنان، وبسبب التكوين المجتمعيّ اللبنانيّ وتطلّعات أبنائه، وبسبب أهميّة رأس الحكم في استقرار الوضع الداخليّ وفي الشعور المجتمعيّ بالمساواة، فإن الإتّحاديّة تفترض، حكمًا، أن يتولّى مجلس رئاسيّ، لا فرد، قمّة السلطة الإجرائيّة.

وإذ اعتُبِرَ أنّ الإتّحاديّة يوجدها “رأي عامّ لبنانيّ حرّ عريض”، فهذا يعني أن التحضير للاتحادية يستوجب سنوات غير قليلة، كي تقتنع بها النفوس وترتاح إليها وتطالب بها. وحتى ذلك الحين، ينبغي أن يبقى “اتفاق الطائف” مرجِعًا أساسيًّا للنظام اللبنانيّ، بعدما ظهر حياله، في نهاية الأمر وأقلّه إعلاميًّا، تسليم لبنانيّ أكثريّ. فهو الوحيد القادر، حتى الآن، أن يحول دون تمرير مشاريع مشبوهة، وأخرى كارثيّة الظاهر والباطن. إنّه القاسم المشترك الذي فرض، ويفرض، نفسه في الظروف التي نحيا فيها، بانتظار الاتفاق على الصيغة الأكثر تلاؤمًا وواقعنا المجتمعيّ والأكثر عدلًا.

 

كتب أنطوان نجم في “المسيرة” ـ العدد 1756

 

إقرأ أيضًا

للإشتراك في “المسيرة” Online:

http://www.almassira.com/subscription/signup/index

from Australia: 0415311113 or: [email protected]​​​​​​​​​​​​​

المصدر:
المسيرة

خبر عاجل