لبنان الكبير والمسيحيون: حلقة وصل محورية بين الحضارتين الغربية والشرقية

حجم الخط

مسيحيي الشرق

منذ إعلان الجنرال الفرنسي هنري غورو قيام دولة لبنان الكبير في الأول من أيلول 1920، لم يتوقف فريق من اللبنانيين بإعلان رفضه للواقع الذي نتج عن هذا الإعلان عبر الأسس التي يقوم عليها لبنان، وتحديدًا الأسس التاريخية. واتخذت حملة هؤلاء مؤخرًا بُعدًا طائفيًا بسبب انتماء غالبية هذا الفريق الى المقربين من “الحزب” والذين لا يجدون مخرجًا للتعبير عما يعتبرونه انتصارات سوى بالهجوم على المسيحيين من أصحاب التيار الداعم للبنان الكبير بحدوده التاريخية والجغرافية المعروفة. وتتجسّد حملة المقربين الى “الحزب” بكتابات على مواقع التواصل الاجتماعي وبمقالات منشورة في الجريدة الناطقة باسم “الحزب” والتي تهدد بين سطور تلك الكلمات المسيحيين وتشن عليهم حملة تخويف مبطّنة. ويؤازرهم بهذه الحملة بعض المسيحيين الطامعين بمناصب والمحتسبين لأموال قد يمنحها إياهم “الحزب” كتعبير عن شكرهم لتأييده. وتصل هذه الحملة الى خلاصة أساسية مفاداها أن ليس هناك من أسس تاريخية صلبة لدولة لبنان.

بدايةً لا بدّ من الإشارة الى أن المنهجية العلمية في التاريخ تتطلب وجود حدّ أدنى من الموضوعية او ما يُعرف أيضًا باللغة الفرنسية بالـ impartialité وهذه لا تتأمن سوى بالابتعاد زمنيًا وجغرافيًا وفكريًا عن الحدث أو الشخصية المنوي الحديث عنها. كما تتطلب هذه المنهجية وضع الأحداث التاريخية في سياقها التاريخي أي la contextualisation des faits historiques ومن ثم مقاربة المصادر مع بعضها أي la confrontation des sources. وتُعتبر هذه الأخيرة أحد أبرز الطرق التي على المؤرخ الركون إليها لكي تكتسب أعماله الصفة العلمية. لذلك وبناءً على هذه المنهجية، وفي ما يتعلق بالفريق الذي يُنكر وجود أسس تاريخية واسطورة تأسيسية للبنان الكبير، فجزء من هذا الفريق لم يعترف يومًا بلبنان ككيان مستقل ومتجذّر وذات مؤسسات دستورية وأمنية وقضائية. والجزء الآخر منه ينتمي اليوم وباعترافه المتكرر الى مشروع يتخطى حدود لبنان ومشروع ذات أبعاد ظاهرها إسلامية وعقائدية وباطنها توسعية وشمولية. وبالتالي، لا يملك هذا الفريق أي حيثية علمية تخوّله الحديث عن هذه الأسس. ما يجعل بالتالي كلامه مجرد رأي سياسي لا علاقة له بعلم التاريخ.

في وقت كان يتمتع جبل لبنان بحكم ذاتي ووجود مجلس تمثيلي مُنتخب وفق معايير الديمقراطية التي كانت سائدة وقتذاك، كانت بقية مناطق الشرق مُقّسمة الى ولايات عثمانية يحكم غالبيتها قادة عسكريون عثمانيون. أضف الى ذلك ما شكّلته مرحلة تجويع اللبنانيين، وبصورة خاصة المسيحيين منهم، خلال الحرب العالمية الأولى على يد السلطات العثمانية، من دافع لمطالبة اللبنانيين بالاستقلال والحرية. إلى ذلك لعب الاغتراب اللبناني دورًا متقدمًا في هذا المجال، إذ وفي عزّ الحرب العالمية الأولى تداعت مجموعة من المثقفين والميسورين ووجهاء الجالية اللبنانية في أميركا الشمالية الى عقد مؤتمر في أواخر صيف 1917 للبحث في الشؤون الوطنية ولتقرير “خطة عامة نسلكها في هذا الوقت الحرج في حياتنا الوطنية الذي يستدعي جمع الكلمة وتوحيد المساعي… وتعريف اللبنانيين هنا يشمل سكان لبنان الواسع بحدوده القديمة والجمعيات التي يجوز لها التمثيل في المؤتمر هي كل من تؤيد غاية النهضة اللبنانية الأساسية وتوافق على استقلال لبنان بعد أن تُضم إليه الأراضي المسلوخة عنه” (جريدة الهدى في 4 آب 1917). أما محاولات البعض إنكار حدوث مجاعة جبل لبنان الكبرى أو تسخيف أسبابها لتبرئة السلطات العثمانية منها، فكلها محاولات فاشلة، نظرًا لوجود ما يؤكد حصولها وما يؤكد تخطيط السلطات العثمانية لها في أكثر من 50 ألف وثيقة موجودة في أرشيف البطريركية المارونية، والمطرانيات، وجامعة القديس يوسف في بيروت وفي الصحف اللبنانية الصادرة في الولايات المتحدة. كما وردت هذه المطالب والمتعلقة بقيام دولة لبنان الكبير في اجتماعات مجلس الإدارة المنتخب قبل اندلاع الحرب العالمية الأولى والمكوّن من ممثلين عن الطوائف الست الكبرى، وفي كلمات الوفود اللبنانية الثلاث الى مؤتمر الصلح في باريس والعام 1919 الذي ضم ممثلين عن هذه الطوائف.

بناءً عليه، تبقى المعطيات التاريخية والمصادر المتعلقة بها ومنهجية تحليلها ومقاربتها أقوى من كل محاولات تزوير التاريخ التي يقوم بها “الحزب” والمقربون منه. كما تؤكد هذه المحاولات المركزّة من قبل هؤلاء أن الهدف من ضرب الأسس التاريخية للبنان ما هي إلا محاولة من قبل “الحزب” لتبرير ما يقوم به من أمور متناقضة مع أي منطق ودستور، وللتعبير عن الفشل الكبير الذي مُني به في عملية إقناع غالبية اللبنانيين بجبهة المساندة التي يقوم بها تنفيذًا لأوامر إيرانية.

أما في ما يتعلق بالأرقام حول الوجود المسيحي. فبدايةً لا بدّ من القول إن كل الأرقام التي تعتمد عليها الأقلام الصفراء في جريدة “الحزب” ومن يدور في فلكه هي أرقام مغلوطة وغير رسمية. فالأرقام الرسمية الوحيدة التي يمكن البناء عليها هي أرقام الناخبين الواردة في لوائح الشطب، وهنا نورد مقارنة بين انتخابات 2018 و2022:

بناءً على هذه الأرقام، ليس هناك من أدنى شك في أن نسبة المسيحيين هي في تراجع، وإنما ليس بالحجم الكبير الذي يتحدث عنه البعض. من هنا يبدو أن الحملة الإعلامية التي تُشنّ في هذا الإطار تندرج حصرًا في إطار تخويف المسيحيين ودفعهم الى الخضوع أكثر الى ما يمليه “الحزب”، وتحديدًا في ما يتعلق بمحاولته الحثيثة لفرض أيديولوجيته في الصراع مع إسرائيل كأيديولوجية رسمية ووحيدة. وانطلاقًا من كون أسس هذه الأيدولوجية هي محض مذهبية متعلّقة بنظام ولي الفقيه في إيران، باعتراف صريح وواضح من نصرالله ومن كافة قيادات حزبه، فإخضاع المسيحيين بهذه الطريقة وفرض هذه الأيديولوجية سيؤدي، وإن حصل، الى تحوّلهم حكمًا الى أهل ذمة.

من خلال هذه المقارنة، نلاحظ تراجع معدل زيادة الناخبين المسلمين من 43971  ناخبًا سنويًا الى 3686  ناخبًا كل سنة، كما نلاحظ زيادة معدل الناخبين المسيحيين من 7927  ناخبًا سنويًا الى 18874 ناخبًا سنويًا. إلا أن ذلك لا يحول دون إستمرار تراجع نسبة الناخبين المسيحيين سنويًا ولكن بشكل طفيف. ولتبيان أسباب هذا التراجع بناءً على هذه الأرقام، يُستدل أن العامل الأول يتّمثل بالحرب الأهلية 1975 ـ 1990 والتي نتج عنها وقوع عدد كبير من القتلى خصوصًا وأن غالبية المجازر وعمليات التهجير التي وقعت إنما حصلت، ووفق المتخصص بتاريخ الحرب اللبنانية الألماني تيودور هانف،  ضد المسيحيين، ولعل أبرزها مجزرة الدامور في 20 كانون الأول 1976. كما أن غالبية المعارك الكبرى وقعت في مناطق ذات كثافة سكانيّة مسيحية مرتفعة مثل بيروت وبعبدا والمتن وكسروان، وكما نتج عن التقاتل المسيحي ـ المسيحي أيضًا زيادة أعداد القتلى والمهاجرين المسيحيين. ومن الأسباب أيضًا ملف التجنيس الذي صدر عام 1994 والذي لم يراع فيه التوازن الطائفي، كما وانكفاء المسيحيين خارج لبنان عن تسجيل عقود الزواج وحديثي الولادة. أضف الى ذلك، تضاعف أعداد المهاجرين بعد العام 2005، وذلك بسبب حرب تموز 2006 وتعطيل عمليات تشكيل الحكومات وتعطيل انتخابات رئاسة الجمهورية لثلاث مرات، وعدم مبادرة الطبقة السياسية الحاكمة، خصوصا بعد العام 2016 الى القيام بأي إجراء إصلاحي يساعد على بثّ الأمل بغد أفضل والشعور بالأمان.

جدير ذكره أن هذه التطورات الاجتماعية تزامنت مع مطالبات سياسية بضرورة تعديل صيغة النظام السياسي اللبناني نظرًا للنمو الديموغرافي الكبير الحاصل عند السنّة والشيعة، وذلك بهدف إلغاء المناصفة بين المسيحيين والمسلمين والاتجاه بالنظام السياسي اللبناني نحو المثالثة.

أول من تحدث عن هذا الموضوع رئيس مجلس النواب نبيه بري 1983 عندما طالب بالانتقال الى الديمقراطية الأكثرية، كذلك الأمر خلال مفاوضات الاتفاق الثلاثي وذلك عندما أعلن عن خيارين على المسيحيين القبول بأحدهما: إلغاء نظام النسبة أو إجراء تعداد سكاني لوضع نظام نسبة جديد. لم يكن “الحزب” بعيدًا من هذه المطالب، إذ أعلن عن ذلك صراحةً في ورقته السياسية الأولى الصادرة عام 1985، والتي تضمنت ما يلي: “فإننا ندعو الى اعتماد النظام الإسلامي على قاعدة الاختيار الحر والمباشر من قبل الناس، لا على قاعدة الفرض بالقوة كما يُخيّل للبعض”. كما أعاد “الحزب” التذكير بهذا الأمر وإنما باستخدامه لمفردات جديدة في وثيقته السياسية الصادرة عام 2009، والتي تحدث فيها عن ضرورة إلغاء الطائفية السياسية بهدف تحقيق ديمقراطية صحيحة، التي على ضوئها، ووفق تلك الوثيقة، أن تحكم الأكثرية المنتخَبة وتعارض الأقلية المنتخَبة. إلا أن هذه الورقة تُخفي نوايا “الحزب” في استبدال المناصفة بالمثالثة في كافة مناصب الدولة، والذي كان هو أول من تحدث بها، وإن بطريقة شبه رسمية، خلال مؤتمر حوار دعت إليه فرنسا في تموز 2007 في مدينة سان كلو الفرنسية، حيث طرح فكرة المثالثة مقابل تخليها عن السلاح.

أمام هذه المعطيات والوقائع لا بدّ من قيام النخب السياسية والثقافية المسيحية من بلورة صيغة جديدة يتحدد فيها دور المسيحيين في المئوية الثانية للبنان الكبير. يجب المبادرة الى الحدّ من تأثير صراع الأحزاب والقوى السياسية المسيحية على السلطة على المجتمع. كما يجب تطوير العمل الحزبي عبر تطوير معيار الارتقاء الحزبي من خلال الانتقال من المديح والتأليه le style panégyrique الى جعل التنافس مبنيًا على البرامج والعمل الميداني. كما على الأحزاب أن تعمل وبالاشتراك مع الكنيسة على استثمار أراضي الأوقاف لإعادة ربط المسيحيين بقراهم عبر تنشيط العمل الزراعي. وعلى الأحزاب والقوى المسيحية والكنيسة أن تقوم بحملة كبيرة لدفع المغتربين الى تسجيل أولادهم في سجلات النفوس، والقيام بحملات دعائية لجذب المغتربين لزيارة لبنان وتشجيع أولادهم على الالتحاق أقلّه في فصل جامعي واحد في إحدى الجامعات المسيحية. هذا عدا عن العمل على المحافظة على الأراضي والممتلكات المسيحية. كما والعمل مع الاغتراب المسيحي على تأمين أموال ضرورية لتمويل مشاريع استثمارية صغيرة في القرى والبلدات والمدن وبكافة الاختصاصات والمجالات، ومنها بشكل أخصّ على الصناعة الإبداعية والثقافية the culture and creative industries.

يبقى أن تحديد دور المسيحيين في التعددية ومحاربة التطرف لا يمكن تحقيقه من دون عودة المسيحيين في لبنان الى تاريخهم، لأن الشعوب التي تواجه أزمات وجودية تعود الى تاريخها لاستنباط الحلول ولبثّ روح الأمل بغد أفضل لجيلها الصاعد، وهذا ما على المسيحيين العمل عليه. فكما كان المسيحيون خلال القرن التاسع عشر رواد النهضة العربية وحاملي شعارات التحرر والديمقراطية والحرية من الغرب بوجه سياسة التتريك العثمانية، عليهم اليوم أن يكونوا رواد التعددية ومحاربة التطرف، ليعودوا حلقة وصل محورية بين الحضارتين الغربية والشرقية. أما تغييّب أنفسهم عن لعب هذا الدور فسيساهم أكثر فأكثر في انحسارهم ديموغرافيًا وفي اضمحلال دورهم.

د. مارك م. أبو عبدالله ـ أستاذ جامعي وباحث في تاريخ الشرق الأوسط في جامعة Illinois في الولايات المتحدة الأميركية

إقرأ أيضًا

“المسيرة” ـ العدد 1754​

 

للإشتراك في “المسيرة” Online:

http://www.almassira.com/subscription/signup/index

from Australia: 0415311113 or: [email protected]​​​​​​​​​​​​​

المصدر:
المسيرة

خبر عاجل