لم يكن ما سمعناه على لسان المسؤولين الإيرانيين في الأسبوعين الأخيرين من كلام يمس بالسيادة والكرامة الوطنيتين للبنان واللبنانيين، الا تظهيرًا وترجمة لحقيقة نظرة إيران ومشروعها التصديري للثورة منذ العام 1979 وحتى انزعاج بعض اللبنانيين الرسميين المتأخر على الانتهاك المتمادي للسيادة، والذي عبّر عنه رئيس مجلس الشورى الإيراني اسماعيل قاليباف، لصحيفة “لو فيغارو” الفرنسية والذي لم يكن الا تكملة لما قام به أثناء زيارته الى لبنان، وتكملة لما قاله وقام به وزير الخارجية الإيراني ونتائجها المعروفة والمشهودة والمسموعة من كل اللبنانيين.
لم يكن ولن يكون اداء “الحزب” الوكيل الشرعي والسياسي والعسكري لقائد الثورة الإيرانية في لبنان، المنفذ لتعليمات الولاية الايرانية المطلقة، الا نتيجةً “طبيعية”، مع أنها غير لبنانية ولا سيادية ولا منطقية، لعلاقة السيد مع الأتباع أو علاقة الصانع مع الصنيعة.
بدأ الخرق الإيراني للسيادة اللبنانية مع ما أصدره وأفتاه قائد الثورة الإيرانية الإمام الخميني في دستور جمهوريته، بواجب تصدير الثورة الإسلامية في إيران الى دول المستضعفين في العالم، وطبعًا كان لبنان درة تاج مستوردي هذه الثورة، مع إنشاء حزب “الثورة الإسلامية في لبنان” والذي سُميّ لاحقًا بـ”المقاومة الإسلامية في لبنان وباسمه الديني المعروف اليوم… فبعد مواجهة جوية بين سوريا وإسرائيل في اجتياح حزيران 1982، أرسلت إيران إلى حليفتها سوريا 1800 متطوّع يعملون تحت قيادة الحرس الثوري، وأصبح عددهم لاحقًا 10000 على ما اكد المسؤول الإيراني علي رضا العسكري في 24 أيار 1986، موضحا أن انتشار الحرس الثوري الإيراني كان باتفاق عسكري بين سوريا والجمهورية الإسلامية في إيران.
إمعانًا في خرق السيادة اللبنانية للولي وحزبه بالأمس البعيد، الممتد الى الأمس القريب واليوم، نعود الى ما ورد في صحيفة السفير في 3 أيلول 1983، “زعماء الحزب: عباس الموسوي، نصرالله، ومحمد يزبك ترأسوا مسيرة حاشدة إلى ثكنة الجيش في بعلبك، القاعدة الرئيسية للجيش ـ ثكنة الشيخ عبدالله ـ وعقدوا صلاة الجمعة هناك. والقى نصرالله كلمة، ناصحًا قائد الثكنة ورجاله “برفض الأوامر واخلاء القاعدة”.
أخلى قائد الثكنة وضباطه الثكنة. وعلق عناصر “الحزب” لافتة على بوابة الثكنة كتب عليها: “تحرير قاعدة الشيخ عبد الله عبر جماهير الحزب، هو الخطوة الأولى نحو التحرّر من الكتائب”.
أعيدت تسمية القاعدة على اسم الإمام علي وأصبحت المقر الرئيسي للحرس الثوري في لبنان ولميليشيا “الحزب”. وتولى الحرس الثوري تدريب مجندين لـ”الحزب” تحت إشراف علي رضا العسكري، الذي قضى معظم وقته في إيران، لكنه أرسل مدربين في جميع جوانب مجالات القتال وأعمال التفجير وغيرها.
بعد استفحال وتوسع ممارسات الحرس الثوري في لبنان، أمهلت الحكومة التي كان يرأسها الرئيس الراحل شفيق الوزان إيران لسحب “الحرس” ومتطوعيها، ثلاثة أيام في أواخر تشرين الثاني من العام 1983، لتقطع العلاقات الدبلوماسية بعد انقضائها مع إيران، والتي دام انقطاعها حتى انقلاب 6 شباط 1984، لتعود تحت ضغط سلاح المنقلبين.كان مضمون ما ورد في الإعلان عن تأسيس حزب “الثورة الإيرانية” في لبنان في 16 شباط 1985، على لسان السيد ابراهيم امين السيد، رئيس المجلس السياسي في “الحزب” والمرشح لمنصب الأمين العام خلفًا لخليفة نص
رالله السيد هاشم صفي الدين، ولا يزال، إثباتًا ومضبطة اتهام لمدى الانتهاك لفكرة السيادة والالغاء لوجود الوطن والتخطي للحدود الجغرافية له إذ يقول: “نحن في لبنان لا نعتبر أنفسنا منفصلين عن الثورة في إيران… نحن نعتبر أنفسنا وندعو الله أن نصبح جزءًا من الجيش الذي يرغب في تشكيله الإمام من أجل تحرير القدس الشريف”.
ويقول أمين عام “الحزب” العتيد لاحقًا، مؤكدًا على ما سبق في 5 آذار 1987: “نحن لا نقول إننا جزء من إيران، نحن إيران في لبنان، ولبنان في إيران”.
هذا الاداء المفروض، ينسجم مع ما يُقال ويُصرَّح به حديثًا، فعلى سبيل المثال، قال قائد سلاح الجو في الحرس الثوري الإيراني علي حاجي زاده في 2 كانون الثاني 2021: “كل ما تمتلكه غزة ولبنان من قدرات صاروخية تم بدعم إيران، وهما الخط الأمامي في أي حرب مقبلة مع طهران، حيث يمتلكان تكنولوجيا صناعة الصواريخ”، ليلاقي زاده، قول وزير الخارجية الأيراني حسين أمير عبد اللهيان في 12 كانون الأول 2023: “ايران ولبنان في حصن واحد”.
ومنذ تصدير إيران لثورتها وحرسها وحزبها، كان هناك مدافعين عن السيادة، مقاومين معارضين لخرقها وانتهاكها، فإضافة الى موقف شفيق الوزان وحكومته في العام 1983، شدد الدكتور سمير جعجع في 3 آذار 2008 على “أن من أتى على ظهر الحرس الثوري الإيراني أي الباسدران، هو الذي سيغادر معهم، نحن أتينا مع مار يوحنا مارون، ولن نترك هذه الأرض”، وفي السياق عينه، عبّر البطريرك الماروني بشارة الراعي في 11 أيار 2022 عن انتهاك إيران لسيادة لبنان بقوله: “لبنان منفتح على كافة الدول ويحترم سيادتها لكن إيران تنتهك سيادة لبنان بسبب وجود ميليشيا تابعة لها أي الحزب”.
وانطلاقًا من ما تقدم، أتى موقف رئيس حكومة تصريف الاعمال نجيب ميقاتي ولو متأخرًا في 18 تشرين الأول 2024، ليضع الإصبع الرسمي على جرح السيادة النازفة، والذي اعتبر تصريح محمد باقر قاليياف عن مفاوضة طهران عن لبنان بشأن تطبيق القرار 1701، “تدخلًا فاضحًا في الشأن اللبناني ومحاولة لتكريس وصاية مرفوضة على لبنان”، مُكملًا لما عبّر عنه ميقاتي من حزن في 17 ايلول 2021 على ما وصفه “انتهاكًا لسيادة لبنان”، في موضوع إدخال “الحزب” للمحروقات الإيرانية الى لبنان، كما أكد في التصريح نفسه، “أنه لا يخشى عقوبات على بلاده لأن إدخال المحروقات الإيرانية جرى بمعزل عن الحكومة، لتصدر الخارجية الإيرانية في اليوم نفسه بيانًا تقول فيه: “إن شحنة الوقود المُرسَلة الى لبنان كانت بطلب من السلطات اللبنانية”، وكأن الخارجية الإيرانية على خطى قاليباف، تعتبر السلطات منوطة بها وبوكيلها في لبنان حصرًا.
ولأن تاريخ إيران حافل بالخروقات والاختراقات للسيادة والأوطان، من الضروري أن نضم صوتنا الى صوت الرئيس ميقاتي، بدعوته القيادات الإيرانية لأن يخففوا العاطفة “المدمرة” على لبنان.