في مسيرة التيار الوطني الحر ومساره منذ انطلاق الحالة العونية وحتى موقف جبران باسيل الأخير من الرئاسة و”الحزب” والسيادة والأحلاف في ربط وثاقها وفكه، نادرًا ما كنا نرى ثباتًا على مبدأ أو على موقف، أو نزاهةً في الأداء، من دون ارتفاع الشهية لمنصب في إدارة أو سلطة. وغالبًا ما كنا نرى تناقضات وتكذيبات وتوضيحات وتبريرات بعد المواقف الملتبسة وما أكثرها والتي تصب جميعها في مصب واحد وهي المصالح الشخصية والعائلية والحزبية الضيقة.
إن موقف جبران باسيل الأخير بحق “الحزب”، والمُلتقي الى حدّ كبير مع مواقف السياديين المعارضين الثابتين لسلاح “الحزب” وسطوته والاستفادة السياسية من تأثيره المباشر ووهجه، لم يفصله المراقبون والمتابعون عن التكتيكات والتكتكات السياسية التي بدأها التيار الباسيلي حصرًا، بعد تبني الثنائي الشيعي، ترشيح سليمان فرنجية لرئاسة الجمهورية، كما لم يفصله العارفون الملمّون ببواطن رئيس التيار وظواهره، عن انتهازيته بتنصيب نفسه من “سلاخي” الحزب بعد إضعافه وتلمس سقوطه.
يكفي في هذا الإطار التذكير بموقف جبران باسيل الأولي في الأمس، بعيد انجرار “الحزب” الى جبهة الاسناد والتي جرّت على لبنان الويلات، على ما ورد في موقف باسيل اليوم، إذ يقول جبران باسيل عندما كان “الحزب” قويًا وكان تياره مستقويًا بـ”الحزب” في 15 تشرين الأول 2023: “اذا سألَ سائلٌ ما علاقة لبنان بكل هذا، لنقحِمَه ضدَّ اسرائيل، نُحيله الى شهداء الاعلام وجرحاه في جنوبنا منذ يومين، ونذكّرُّه بكل اعتداءات إسرائيل على وطنِنا التي ردعتها بسالة المقاومة، وما كنا لنتكلّم عن قوّة لبنان وثروته وغازه ونفطه، ونعمل لكي لا تطال المؤامرة حقل قانا حيث هو أفضل نموذج لتطبيق الاستراتيجية الدفاعية التي نريد؛ وندعو الى عدم التسرّع باستنتاجات خاطئة حول عدم وجود غاز في بحرنا، ونذكّر بمعادلتنا الثابتة، انّ لا غاز من كاريش من دون غازٍ من قانا، ومخطئ جدًا من يتصوّر او يصوّر لنا انّ شرق المتوسّط عائمٌ على بحر من الغاز الطبيعي فيما الشاطئ اللبناني منقوص أو محروم منه”، ليتبنى لاحقًا سردية “الحزب” والممانعين بقوله في 30 تموز 2024: “لم تحتج إسرائيل يومًا إعذارًا كي تعتدي على لبنان”، ليعود ويقول في 22 تشرين الأول 2024: “إن الحرب القائمة بدأت بهجوم الحزب على اسرائيل”، مؤكدًا في السياق عينه أنه، “طبيعي أن تكون حالة المقاومة عابرة”.
ولنتذكر بعضًا من المحطات التي كان فيها مؤسس التيار مستقويًا، مفتخرًا بـ”الحزب”، إذ قال في 14 آذار 2013 “نحن أقوياء بالسلاح إذا شاؤوا”، ليعوج ويشدد علنًا في 30 تشرين الأول في 2017، مؤيدًا مؤبّدًا بقاء تلك المقاومة: “الحل في الشرق الأوسط يؤدي الى حل سلاح الحزب”.
لم يكن ملفتًا موقف جبران باسيل برفض فتح جبهة الإسناد بعد خراب البلاد، بقدر ما كان ملفتًا تساهل وتراخي وتسامح “الحزب” وإعلامه وأبواقه وناشطيه في جيشه الالكتروني مع باسيل ومع ما اقترفه بحق المقاومة وبحق بيئتها ونضالها، تمامًا كما كان ملفتًا التساهل والتراخي السابق مع مواقف لباسيل، متماهية مع العدو الإسرائيلي، إذ يقول باسيل على سبيل المثال في 28 كانون الاول من العام 2017: “لا خلاف ايديولوجيًا بيننا وبين إسرائيل التي يحق لها العيش بأمان كما يحق لنا العيش بأمان”، ليكون التعليق الإسرائيلي الذي جاء على لسان الناطق باسم وزارة الخارجية الاسرائيلية في 29 كانون الأول من العام 2017، أكثر تساهلًا: “إسرائيل تلقت بإعجاب ومفاجأة موقف وزير خارجية لبنان الوزير باسيل”، كذلك مع دور باسيل وتياره وقضاته في إطلاق عميل إسرائيل عامر الفاخوري.
قد يكون تعاطي “الحزب” المتلقف لطلعات ونزلات باسيل وتسامحه حتى مع ما تسرّب عنه في لقائه مع البطريرك بشارة الراعي من قول انتهازي من “أن من كان يؤيد فرنجية راح”، جوابًا حاسمًا عن اصطفاف باسيل الحقيقي في قلب محور “الحزب”، وقد تعزز اطمئنان هذا الأخير من حقيقة تموضع باسيل من ما قاله أيضًا مؤخرًا للرئيس نبيه بري بعد استهداف نصرالله في 27 أيلول 2024 “نريد رئيسًا من يَمّنا”، على عكس تعاطي “الحزب” المستشرس مع المتمادين في معارضته الحقيقية المبدئية الوطنية وفي مقاومته لسطوة سلاحه منذ أن كان في أوج قوته وحتى بعد فقدانه لقسم كبير من قواته وقياداته.
… ولن تغطي قبوات شعبوية باسيل سموات تبعيته للمحور.