ما كان لبنان قد أنتهى بعد من مسألة النازحين السوريين تعدادًا واعتداءات وتداعيات اجتماعية وأمنية وبيئية وغيرها، حتى ظهرت أزمة نزوح اللبنانيين. صحيح أن الأزمتين ناتجتان عن انتقال مجموعات كبيرة من منازلها ومناطقها بسبب المواجهات، إلى أمكنة أكثر أمانًا وتُوفِّر لهم ولو الحد الأدنى من الإيواء. لكن النزوحين يختلفان لناحية النتائج وطرق المعالجة، نظرًا إلى أن ما ينطبق على الغريب لا ينطبق على أبناء البلد الواحد.
فمنذ منتصف أيلول تقريبًا، ومع تصاعد وتيرة المعارك بين “الحزب” وإسرائيل وتدمير أحياء وقرى بأكملها، تصاعدت حركة النزوح من الجنوب والضاحية الجنوبية لبيروت والبقاع باتجاه الجبل والداخل والشمال. المعقّد في المسألة أن أعداد النازحين كانت كبيرة وفترة النزوح قصيرة وسط غياب أي خطة طوارئ جدّية سواء من الحكومة اللبنانية أو من “الحزب”، المبادر إلى استجلاب الحرب والدمار والتهجير!
حتى منتصف تشرين الأول 2024 كان العدد الإجمالي للنازحين المسجّلين في مراكز إيواء، وصل إلى 190698 نازحًا موزعين على 43302 عائلة في 1076 مركز إيواء رسمي منها 885 مركزًا وصلت للحد الأقصى من قدرتها الاستيعابية بحسب اللوائح الصادرة عن غرفة العمليات الوطنية. فيما تستمر حركة النزوح وترتفع الأعداد وتزداد المشكلة تأزمًا. وبالإشارة إلى أعداد النازحين الموزعين على بيوت ضيافة تم استئجارها أو لدى أقارب لهم وأصدقاء، فإن العدد بات يفوق المليون نازح، عدا عمّن نزحوا إلى خارج البلد مثل سوريا والعراق، إذ وصل عدد النازحين من الشيعة الى العراق 8000.
النزوح.. فئات واختلافات
في شهر واحد ولّد النزوح الداخلي ما لا طاقة لمؤسسات مترهلة مثل القائمة في لبنان، على معالجته بما يتناسب مع حجمه وتداعياته، الأمر الذي يُخشى أن يُفجّر العديد من الأزمات وعلى مختلف المستويات، وقد بدأ بعضها يُطل برأسه في أكثر من منطقة. الأجهزة الرسمية تعمل على المتابعة وحفظ الأمن والمساهمة في مساعدة النازحين، وتوزيع المواد الغذائية والمحروقات، وحماية مراكز الإيواء، ومنع عمليات الاحتكار ومراقبة الأسعار، ومراقبة وضبط الحدود. وهذه طبعًا عملية معقّدة وتستلزم إدارة سليمة وخططًا مسبقة وجهودًا جبارة غير متوافرة لدى السلطات والأجهزة بوضعها المتردي الذي هي فيه اليوم.
ينتمي النازحون إلى فئات ثلاث: المسيحيون، والشيعة ممن ليسوا على صلة عضوية بـ”الحزب” وإن كانوا ممن يوصفون بأنهم من البيئة الحاضنة له، ومناصرو الحزب وبعض أعضائه غير الميدانيين. بهذا التقسيم تتوضّح أكثر حال مناطق الاستضافة ومراكز الإيواء. فالمسيحيون مثلًا، في المجمل، لم تتسجّل بينهم حالات نزوح كاملة، ربما لأنهم اعتبروا، من جهة، أنهم غير مستهدفين في مناطقهم، ومن جهة ثانية، قرّروا التشبث بأرضهم وعدم مغادرتها. وإن كانت لذلك أسباب عاطفية، لكن هم يخشون أيضًا في حال فرغت بيوتهم وقراهم، أن تتم مصادرتها واستخدامها من جانب المقاتلين للسكن خارج مناطقهم أو كمراكز عسكرية ومخازن ذخيرة، مما يعرّضها للقصف والتدمير.
يشمل العدد الأكبر من النازحين، المواطنين الشيعة ممن ليسوا على صلة عضوية بـ”الحزب”. وهؤلاء يربو عددهم على المليون نازح، داخل لبنان وخارجه. أما الشريحة الثالثة أي مناصرو “الحزبط وبعض أعضائه غير الميدانيين، فهي مقتدرة واستأجرت شققًا وشاليهات وحتى أجنحة في فنادق. وهي وإن كانت الأقل عددًا غير أنها الأكثر خطورة على مناطق انتشارها لأنها مستهدفة في عمليات الملاحقة والاغتيال، كما حصل في الغارة على بلدة أيطو قضاء زغرتا.
في الغالب ينتشر النازحون من المسيحيين الجنوبيين في المناطق التي كانت تُعرف بـ”الشرقية” سابقًا. فهذه المناطق ضمّتهم خلال فترة الحرب، ولهم فيها بيوت وأهل، انتقلوا موقتًا من الجنوب للسكن فيها، ولا ينطبق عليهم ما تجري متابعته لناحية أوضاع النازحين سواء لناحية المخاوف الأمنية أو مخاوف الاختلال الديموغرافي وسواها من أسباب القلق والمتابعة.
مخاوف وتداعيات
في كل نزوح، وكما في النزوح السوري السابق للنزوح للحالي، تنشأ أزمات وإشكالات ومخاوف وتداعيات. أبرز هذه العناصر الناشئة مع نزوح الجنوبيين وبعض مناطق البقاع تتمثّل بالمخاوف الأمنية، وهي نوعان: خشية أبناء المناطق المستضيفة من أن يكون بين النازحين مسلحون أو مستهدفون فيصيبهم من أية غارة جوية إسرائيلية ما هم في الغنى عنه من موت أو إصابات سواء في الأرواح أو الممتلكات. وخشية أن يتولّد من الاحتكاكات بين النازحين المعبأين بكل أنواع الشحن العقائدي والمذهبي والضغط النفسي بسبب ما يحصل، وبين أبناء المناطق المضيفة، التي وإن استقبلتهم على الرحب والسعة، إلا أنها لا تحتمل التحديات. وقد حصلت في الفترة الأخيرة إشكالات تخلَّلَ بعضها إطلاق نار، واقتصر البعض الآخر على التهديد والضرب بالعصي أو بآلات حادة.
يضاف إلى هذه الصعوبات، مسائل مثل الضغط على البنى التحتية وإشغال مرافق عامة ما يحول دون إعادة تشغيلها لفترة قد تطول، ومن هذه المرافق الجامعات والمدارس الرسمية، ما بات يهدد العام الدراسي. وهناك من يُقيمون في العراء أو في أماكن غير مجهّزة للإقامات الشتوية والطويلة. وتُعدِّد البلديات في مناطق الاستضافة الكثير من عوامل الضغوط غير الأمنية ومنها تفشي الأمراض. وتشير إلى تحذير منظمة الصحة العالمية مؤخرًأ من “أن خطر انتشار الكوليرا في لبنان مرتفع للغاية، بعد اكتشاف حالة إصابة في شمال البلاد”. وإلى كلام ممثل منظمة الصحة العالمية في لبنان، عبد الناصر أبو بكر، عن “أن المنظمة تشعر بالقلق منذ أشهر بسبب تدهور أوضاع المياه والصرف الصحي للاجئين وفي المناطق المعرضة للخطر”، معتبرًا أنه “إذا انتقل وباء الكوليرا إلى النازحين الجدد، فقد ينتشر بسرعة كبيرة”. تنطلق هذه المخاوف بحسب البلديات، من أن العديد من مراكز الإيواء غير مجهّزة لإقامات طويلة ولأعداد كبيرة من النازحين بينهم مرضى وأطفال وشيوخ هم بحاجة إلى دواء وعناية خاصة ربما لا تكون متوفرة في كل مراكز الإيواء، علاوة على أن ثمّة مجموعات تقيم في مناطق مفتوحة ولم يتم تسجيلها بعد لنقلها إلى مراكز تتمتع بالحد الأدنى من المراقبة والخدمة.
إجراءات الأجهزة والبلديات
في جولة لـ”المسيرة” على عدد من مراكز الإيواء وبيوت النازحين في مناطق مختلفة من الشمال إلى المتن فزحلة، يتبيّن أن معظم هؤلاء عائلات لجأت إلى مناطق آمنة لتحتمي من القصف في مناطقها، ولا تريد أكثر من أمانها. لكن في المقابل هناك مراكز شهدت إشكالات مع أبناء المناطق المستضيفة كما في طرابلس. ويتوقع مصدر أمني في الشمال أن تَميل هذه التصرفات المخلّة بالأمن إلى الارتفاع في الفترة المقبلة لأسباب عديدة. لكن يؤكد في المقابل أن الأجهزة الأمنية اللبنانية تعمل بكل طاقتها لضبط الأمن وتنظيم إقامة النازحين بما يُعطّل أسباب التوترات. ويشير إلى أن السلطات اللبنانية وزّعت نماذج على البلديات والمخاتير في المناطق لتعبئتها حول أعداد وأعمار النازحين وحالاتهم الصحية، بهدف تنظيم تأمين المواد الغذائية المعيشية من ناحية، ولكن أيضًا بهدف جمع داتا كافية تساعد على ضبط هذه الإقامات والحد من تداعياتها في حال طال زمن بقائها خارج مناطقها وقراها.
وفي هذا الإطار كان محافظ الشمال، (على سبيل المثال) أصدر تعميمًا طلب بموجبه تسجيل النازحين اللبنانيين خارج مراكز الإيواء، والذين هم بحاجة إلى المساعدة، عبر استمارة تم توزيعها الى القائمقامين والبلديات في الشمال. وفي بعض المراكز رصدت القوى الأمنية حيازة البعض أسلحة ولو خفيفة فعملت على مصادرتها. ومع ذلك، يبقى لدى الأهالي أقله هاجسان: الإشكالات الأمنية أو الاستهداف الإسرائيلي، وأيضًا خطورة ألا يعاد إعمار الجنوب في فترة منظورة ما يجعل إقامات النازحين طويلة في المناطق. وهذا يُخشى أن تنتج عنه نزاعات من نوع آخر مثل رفض الإخلاء ورفض أو عدم القدرة على دفع بدلات الإيجار. مع الإشارة إلى أن العديد يقيمون في بيوت ضيافة ومطاعم ودور عبادة ومنازل لا يستطيع أصحابها الاستغناء عنها لفترات طويلة.
يزبك يوضح ويحذّر!
عضو تكتل “الجمهورية القوية” النائب غياث يزبك الذي كان أصدر بيانًا ناشد فيه القوى الأمنية والسلطات المحلية مراقبة وضبط مسألة النزوح لتبقى مناطق استضافتهم آمنة لهم ولأهلها، أوضح لـ”المسيرة” أنّ “أسباب النزوح ما زالت قائمة والحركة إلى ازدياد، وهي مستمرة. والتعاطي بشأنها يتم في شقين: الرسمي والأهلي. ففي الشق الرسمي يجب ألّا يغيب عن بال القيّمين أن هذه الأزمة تُضاف إلى أزمات تقع تباعًا على رأس حكومة وضعها مهترئ. الدولة تتحرك بما يتيسّر لها وهو غير كاف، والوزيرين هيكتور الحجار وناصر ياسين يعملان صح نظريًّا. غير أن الوضع على الأرض يتطلب أكثر، فالمساعدات تأتي من الدول الشقيقة، لكن يبقى الكثير مما يجب فعله. مثلًا لا ملاجئ ولا دور رعاية ولا خطة متكاملة للمستقبل”. ويلفت الى ضرورة التنبُّه إلى أن عودة الناس عند انتهاء هذه الحرب لن تكون شبيهة بعودتهم بعد وقف النار في صيف الـ2006، حيث كانت مواكب العائدين تسابق قوافل الجيش المتوجهة الى الجنوب. فإسرائيل تمارس سياسة الأرض المحروقة فيما لبنان بلا إمكانات ولا دول تساعدنا اليوم.
ويضيف: “أما بخصوص الشق الأهلي فقد برهن اللبنانيون عن كِبرهم وإنسانيتهم وعدم الخلط بين سوء التعاطي السياسي تجاههم وحسن التعاطي الإنساني تجاه النازحين، علمًا بأن أبناء المناطق المستضيفة يعانون أيضًا من أزمة اقتصادية كبيرة. أما الـ NGOs فقد غابوا عن الساحة كون أداءهم السابق ما عاد يُشجِّع الجهات المانحة على دعمهم، فاقتصر الأمر على بعض الجمعيات المحلية”.
وعما إذا كنت هناك مخاوف من تداعيات أمنية سواء باستهدافات إسرائيلية أو بخلافات بين الضيوف والمستضيفين، يرى يزبك “أن جزءًا من خلفيات النزوح هو خلق بلبلة بين اللبنانيين، والأجهزة الأمنية تعلم بكل التفاصيل لكن إمكانياتها قليلة”. ويشدد أن “على الإخوة النازحين أن يحترموا البيئات المستضيفة، إذ ليس مقبولًا أن يَظهروا مسلحين ويرفعون شعارات مستفزة، بل بالعكس يجب أن يكون من مصلحتهم أن تبقى مناطق إقامتهم آمنة. ونحن نعمل طبعًا على التخفيف من الاحتكاك، وبما استطعنا تجنُّب تكرار مثل عملية أيطو. فهناك حقًّا خطر أمني داهم”.
ويلفت الى “مسألة مهمّة لا بد من تداركها باكرًا، وهي أننا اليوم ما زلنا في طقس خريفي مقبول، فماذا سيحصل غدًا وبماذا نتحضّر عند بدء فصل الشتاء والأمطار، وهناك عائلات وأعداد كبيرة من النازحين تقيم حاليًّا في العراء؟”
وتوجه يزبك “إلى الجهات الرسميّة وإلى ضمير الحزب بأن يسمح للدولة بالتقاط وقف إطلاق النار، علمًا بأنه حتى لو تمّ ذلك فمن يضمن أن يقبل به الإسرائيلي”. وأبدى خشيته من أن تطول فترة النزوح “ما يخلق واقعًا ديموغرافيًّا عندما يتحول النزوح الموقت إلى إقامة طويلة أو دائمة، ما يشكِّل ضغطًا على المناطق المسيحية والسنية والدرزية. كما يُخشى أيضًا من أن يكون الإسرائيلي يتوسّل من ذلك حدوث حرب أهلية، فنكون عندئذ قد سقطنا في الصوملة”.
كتب سيمون سمعان في “المسيرة”ـ العدد 1758
للإشتراك في “المسيرة” Online:
http://www.almassira.com/subscription/signup/index
from Australia: 0415311113 or: [email protected]