قراءة في علم النفس.. “الحزب” بين الصدمة والتكيّف

حجم الخط

الحزب ـ صدمة نفسية

في خضم التحولات السياسية والأمنية التي تشهدها المنطقة، يمرّ “الحزب” بمرحلة غير مسبوقة من التراجع الاضطراري، تتجلى ليس فقط في الخسائر العسكرية والبشرية، بل أيضًا في التحولات النفسية داخله وداخل بيئته الحاضنة. الحرب الأخيرة مع إسرائيل، وما تبعها من ضربات نوعية استهدفت قياداته العليا، والانكماش المالي الحاد، والتغيرات الإقليمية، وضعت “الحزب” أمام واقع جديد يفرض عليه إعادة تعريف دوره وموقعه في المعادلة اللبنانية.

لكن هذه التحولات لا تقتصر على “الحزب” وحده، بل تمتد إلى الدولة اللبنانية التي لطالما كانت رهينة ميزان القوى الذي فرضه. فكل مرحلة من مراحل الصدمة التي يمر بها “الحزب” تُترجم سياسيًا إلى فرصة أو عائق أمام قيام دولة لبنانية حقيقية. إن تراجع نفوذ “الحزب” واهتزاز سلطته النفسية على أنصاره يفتح نافذة نادرة أمام إعادة ضبط المسار الوطني، حيث يمكن للبنان، إن أحسن إدارة هذه اللحظة، أن يبدأ بالخروج من دوامة الارتهان إلى قوة مسلحة غير شرعية نحو بناء دولة ذات سيادة فعلية.

علم النفس الجماعي، الذي يدرس كيفية استجابة الجماعات للأزمات، يقدم نموذجًا دقيقًا لتحليل واقع “الحزب” عبر مراحل الصدمة، مما يتيح لنا قراءة معمّقة في التحولات النفسية والسياسية التي يمر بها، ليس فقط على مستوى “الحزب”، بل على مستوى لبنان الدولة.

 

1 ـ الصدمة النفسية الجماعية: انهيار وهم القوة

تحدث الصدمة النفسية الجماعية عندما تتلقى الجماعة ضربة غير متوقعة تهدد صورتها الذاتية وهويتها. لطالما قدّم “الحزب” نفسه كقوة منيعة، قادرة على الصمود والتكيف مع التحديات. لكن الحرب الأخيرة قلبت هذه الصورة رأسًا على عقب، حيث تعرض لضربات قاصمة طالت بنيته العسكرية وقياداته العليا، ما أدى إلى حالة من الذهول الجماعي في صفوفه.

اغتيال شخصيات بارزة، وعلى رأسها قائده التاريخي، والتدمير الواسع للبنية التحتية العسكرية، إلى جانب الخسائر البشرية غير المسبوقة، شكّل ضربة نفسية ساحقة لمناصري “الحزب”. في هذه اللحظة، يجد الأفراد أنفسهم في حالة من الجمود الإدراكي، غير قادرين على استيعاب حجم الانهيار، فيبدأون بالبحث المحموم عن أي تفسير يُخفف من وقع الصدمة.

المشهد العام خلال الحرب الأخيرة عكس ضياعًا واضحًا داخل بيئة “الحزب”، حيث تحولت المنصات الإعلامية والمجموعات الموالية إلى ساحة من التناقضات، بين نفي الأخبار المؤلمة، والتشبث بروايات غير منطقية حول مصير القيادات، وبين محاولات استيعاب ما يجري. هذه الصدمة الجماعية لا تؤثر فقط على “الحزب” ككيان سياسي وعسكري، بل تضرب عمق ولاء أنصاره، الذين باتوا يواجهون واقعًا لم يكونوا مستعدين لتقبله.

 

2 ـ الإنكار: الدفاع عن السردية المهزوزة

الإنكار ليس مجرد موقف سياسي، بل آلية دفاع نفسية تلجأ إليها الجماعات عند مواجهة حقيقة صادمة تهدد توازنها الداخلي. “الحزب”، بعد الضربات القاصمة التي تلقاها في الحرب الأخيرة، دخل في حلقة إنكار جماعي، محاولًا إعادة إنتاج سرديته القديمة رغم الواقع المتغير.

لجأ “الحزب” إلى تضخيم انتصاراته الرمزية والتركيز على الأضرار التي لحقت بالجانب الإسرائيلي، متجاهلًا حجم الخسائر غير المسبوقة التي تكبّدها، فيما عمل إعلامه على التشكيك في صحة الأنباء المتداولة عن اغتيالات قياداته، في محاولة لإبقاء جمهوره في حالة تلقين ذهني مستمر. لكن علة الرغم من هذه المحاولات، بدأ التململ يظهر داخل بيئته الحاضنة، حيث تساءل أنصاره عن الجدوى من هذه التضحيات، في ظل التراجع الميداني والتدهور الاقتصادي الذي يعاني منه لبنان.

لم يعد التضليل الإعلامي قادرًا على إخفاء حجم الخسائر، وظهر ذلك في ارتباك إعلامي واضح، وفتور في ردود الفعل الشعبية، حيث بدأ جمهور “الحزب” يواجه واقعًا لم يكن مستعدًا لتقبله. لكن الإنكار، وفق علم النفس، لا يمكن أن يدوم طويلًا، و”الحزب” اليوم أمام خيارين: مواجهة الحقيقة وإعادة التموضع، أو الاستمرار في خداع الذات حتى يصل إلى لحظة الانهيار الحتمي.

 

3 ـ الغضب: البحث عن شماعة خارجية بين صعود الدولة وانكماش الدويلة

مع تلاشي الإنكار، يتحول الإحباط إلى غضب مصطنع، حيث يسعى “الحزب” إلى اختلاق عدو خارجي لتوحيد صفوفه والحفاظ على تماسكه الداخلي. اليوم، نشهد هذه المرحلة بوضوح في الهيستيريا الإعلامية والفوضى الميدانية التي رافقت منع الطائرة الإيرانية من الهبوط في بيروت، حيث حاول “الحزب” شد العصب الطائفي وتصوير الحدث كمؤامرة دولية تستهدفه، وكأنه يحاول تصوير لبنان على أنه ساحة معركة بين “الهيمنة الأمريكية” و”المقاومة”، في محاولة لإقناع جمهوره بأن الضغوط التي يواجهها ليست نتيجة أخطائه السياسية أو العسكرية، بل “مؤامرة كونية” تستهدفه.

لكن هذا التصعيد، الذي كان سلاحه الفعّال في الماضي، بدأ يفقد تأثيره. على الأرض، لم تنجح محاولة إثارة الفوضى وقطع الطرقات في فرض معادلة جديدة، بل على العكس، برزت بوادر صعود الدولة اللبنانية، حيث فرض الجيش الوطني سيطرته على الواقع الأمني، ولم يسمح بترهيب الشارع كما كان يحدث سابقًا.

هذه اللحظة تشكل نقطة تحوّل جوهرية: كلما حاول الحزب افتعال مواجهة، وجد نفسه في مواجهة مع دولة بدأت تستعيد حضورها، وبيئة لم تعد تتقبل خطاب الهيمنة دون مساءلة. ومع فقدان السيطرة التدريجية، يصبح السؤال الأكثر إلحاحًا: إلى متى يستطيع “الحزب” توجيه الغضب نحو خصوم مختلقين، فيما يواجه خطر التآكل من الداخل؟

 

4 ـ المساومة: محاولة شراء الولاء بين استنزاف الموارد وضيق الخيارات

قبل الانتقال إلى مرحلة الغضب المصطنع، كان “الحزب” قد بدأ بمحاولة امتصاص غضب جمهوره عبر مساومة خجولة، تمثّلت في تعويضات رمزية لا توازي حجم الدمار والوعود السابقة. كان الهدف تهدئة غضب النازحين العالقين خارج منازلهم، لكن سرعان ما تبيّن أن “الحزب” لا يملك الموارد الكافية للوفاء بالتزاماته، ما زاد من حالة الاستياء في بيئته.

كذلك في السياسة، اتخذ “الحزب” النهج ذاته، عبر التنازل التدريجي عن امتيازاتٍ كان يصرّ عليها سابقًا. فقد تخلى عن موقع رئاسة الجمهورية ورئاسة الحكومة، وتراجع عن مطلب حصر التمثيل الشيعي بالثنائي، وقَبِل بحكومة دون الثلث المعطل. هذه التنازلات لم تكن خيارًا، بل نتاج واقع جديد لم يعد يسمح له بفرض شروطه، فاضطر إلى التراجع لتجنب خسارة أكبر.

لكن هذه المساومات لم تُترجم إلى استعادة النفوذ، فانتقل “الحزب” إلى مرحلة الغضب المصطنع، كما شهدنا في الأحداث الأخيرة على طريق المطار، محاولًا إعادة توحيد صفوفه بشد العصب الطائفي. غير أن هذا التصعيد لن يلغي الحاجة إلى مزيد من التنازلات المقبلة، التي سيحاول تغليفها بإخراج سياسي يجنّبه الاعتراف بالتراجع.

في المرحلة القادمة، سيسعى “الحزب” إلى تمرير تنازلاته على أنها “انتصارات تكتيكية”، لكنه يدرك أن جمهوره بدأ يلمس الفجوة بين الخطاب والواقع، ما يضعه أمام معادلة لم يعد يملك مفاتيحها بالكامل.

 

5 ـ الاكتئاب: فقدان السيطرة بين تآكل النفوذ وصعود الدولة

لم يدخل “الحزب” بعد مرحلة الاكتئاب السياسي الكامل، لكنه يقف على أعتابها، محاولًا لملمة ما تبقى من نفوذه المسموح به وإعادة ترتيب أوراقه قبل أن ينهار خطابه بالكامل. بعد التنازلات التي قدّمها والمناورات التي لجأ إليها، يجد “الحزب” نفسه أمام معادلة غير مألوفة: أدواته التقليدية لم تعد تحقق التأثير المطلوب، والشارع الذي كان خاضعًا لسطوته بدأ يعبّر عن نفاد الصبر بدل الولاء المطلق.

هذه المرحلة، وإن كانت سلبية لـ”الحزب”، فإنها إيجابية على المستوى الوطني، حيث إن انحسار نفوذ الدويلة يوازيه تثبيت تدريجي لسلطة الدولة. كلما فقد “الحزب” قدرته على ضبط بيئته، برزت مؤسسات الدولة كمرجعية أمنية وسياسية، لتُعيد فرض التوازن الذي اختل لعقود. اليوم، نشهد معالم هذا التحول، حيث لم يعد “الحزب” قادرًا على استخدام الترهيب المطلق، والفراغ الذي يخلّفه في تراجعه لا يعود إليه، بل يُملأ تدريجيًا بهياكل الدولة الشرعية.

السؤال لم يعد ما إذا كان “الحزب” سيتراجع، بل إلى أي مدى يمكنه تأخير المرحلة الحتمية القادمة، حيث تصبح الدولة هي الحاكم الفعلي، ويصبح “الحزب” مجرد فاعل سياسي ضمن حدود لا يستطيع تجاوزها.

 

6 ـ التقبّل: انحسار الدويلة وصعود الدولة

إذا تجاوز “الحزب” مرحلة الاكتئاب السياسي دون انهيار كامل، فسيجد نفسه مضطرًا إلى التقبّل القسري للواقع الجديد، حيث لم يعد السؤال ما إذا كان سيتراجع، بل كيف ومتى؟ لم يعد النفوذ المطلق خيارًا، بل ستفرض الدولة اللبنانية نفسها كمرجعية وحيدة، ليس عبر التفاوض، بل كحتمية سياسية وأمنية.

في هذه المرحلة، سيضطر “الحزب” إلى إعادة تموضعه داخل الإطار السياسي الرسمي، والقبول باللعب وفق قواعد الدولة بدل فرض المعادلات عليها. كما أن إعادة الإعمار في المناطق المنكوبة نتيجة سياساته ستدخل حيّز التنفيذ، ولكن بإدارة الدولة وليس بشروطه، مما يعزز فقدانه للسيطرة على مناطقه التقليدية.

هذا التغيير لن يكون مجرد تنازل تكتيكي، بل إعلان نهاية زمن الدويلة وبداية تثبيت سيادة الدولة. “الحزب” أمام معادلة لا يتحكم بها: إما الانخراط في الدولة بشروطها، أو مواجهة عزلة ستجعل وجوده العسكري والاقتصادي عبئًا لم يعد قادرًا على تحمّله.

 

بين انحسار الدويلة وقيام الدولة

“الحزب” اليوم في مواجهة مع واقع لا يمكن إنكاره. أدواته التقليدية لم تعد كافية لإعادة فرض هيمنته، ولم يعد تعطيل الدولة خيارًا مستدامًا. الدويلة تنهار والدولة تفرض وجودها خطوة بعد أخرى، حيث باتت المعادلة الداخلية والإقليمية تميل لصالح تعزيز سيادة الدولة على حساب النفوذ المسلح.

لكن إذا اختار “الحزب” إطالة أمد المواجهة مع الدولة بدلًا من التكيف مع الواقع الجديد، فإنه يفتح الباب أمام سيناريو أكثر خطورة: الانتحار السياسي والأمني. محاولة إفشال مسار الدولة بالقوة لن تؤدي إلى استعادة النفوذ، بل إلى استنزافه بالكامل، وربما دفعه نحو مواجهة داخلية لا يمكنه التحكم بعواقبها. فالمعادلة تغيّرت، ولم يعد “الحزب” في موقع يتيح له إعادة إنتاج الفوضى لصالحه، بل أصبح هو الطرف الأكثر تهديدًا بالسقوط تحت ضغط الأوضاع الداخلية والخارجية.

في المشهد الإقليمي، لم يعد النفوذ الإيراني مطلقًا كما كان، حيث تواجه طهران ضغوطًا متزايدة من المجتمع الدولي، وتحديات داخلية واقتصادية تقلّص قدرتها على دعم حلفائها بنفس الزخم السابق. “الحزب”، الذي لطالما مثّل ذراع إيران الأكثر نفوذًا في المنطقة، يجد نفسه اليوم عالقًا بين تراجع داعمه الأساسي والواقع اللبناني المتحوّل.

مع تصاعد العقوبات الغربية وتنامي التحديات الاقتصادية داخل إيران، لم يعد بمقدور طهران تمويل شبكاتها الإقليمية كما في السابق، ما يجعل “الحزب” في وضع الانكماش القسري. إذا استمر “الحزب” في التعامل مع نفسه كورقة تفاوض بيد إيران بدلًا من إعادة تموضعه سياسيًا داخل لبنان، فإنه لن يخسر نفوذه فحسب، بل سيصبح جزءًا من صفقة إقليمية لا يملك زمامها، حيث يكون ثمن بقائه مرتبطًا بمصالح طهران وليس بحساباته الداخلية.

هذا التراجع الإيراني يفرض معادلة جديدة على “الحزب”: إما أن يستبق التطورات ويتكيّف مع مسار الدولة اللبنانية قبل أن يُفرض عليه ذلك بالقوة، أو أن يبقى ورقة تفاوضية تستنزف نفسها، حتى يأتي اليوم الذي تجد فيه إيران مصلحة في التخلي عنه ضمن تسوية أكبر.

لبنان يتحرك بثبات نحو مرحلة ترسيخ سلطة الدولة، و”الحزب” أمام خيارين: التكيف مع التغيير والقبول بالتحول إلى لاعب سياسي ضمن الحدود الشرعية، أو الانجرار إلى مواجهة خاسرة مع دولة تستعيد زمام الأمور ولن تتراجع بعد اليوم.

إقرأ أيضًا

المصدر:
فريق موقع القوات اللبنانية

خبر عاجل