كتبت فيرا بومنصف في “المسيرة” – العدد 1532
حيث لم يجرؤ آخرون كان أكرم القزح. إسم يعني الكثير، قائد وحدات الصدم يا شباب، قائد أهم الوحدات القتالية في “القوات اللبنانية”، بالضيعة كانوا يقولون “إجا بطل الصدم”، وبطل الصدم ذاك صدمها حين ترجّل عن حصانه في أرض المعركة وقال لرفاقه أنا باق معكم بطلاً والصدم لا يخاف ولا يُصدم بل يكمل الطريق، ينتصر وفي عتمه الخاص له أن يفعل ما يشاء، له حتى أن يبكي المهم أن يكمل وينتصر، أكرم القزح إبن دير الاحمر، من ينسى الأشقر الوسيم المنهمر نضالاً في بيت المقاومة حيث لم يجرؤ يوماً آخرون؟
عندما كان يُترك لوحده أو مع أترابه في البستان القريب أو في ساحة الضيعة، كان لا يلعب الا لعبة الحرب، يحمل البارودة المفترضة، أي عصا أو غصن شجر، يوزّعها على رفاقه وينشرهم خلف الاشجار أو البيوت بعد خطة يرسمها بنفسه ولا يقبل الا أن يتولى قيادة المجموعة بنفسه ويحدد الاهداف: قصف على الفلسطينيين المسلحين خلف التلة، أي البيت، واقتحام للمراكز المجاورة حيث يربض السوريون، أي الجلول، ودائماً يربح. “كان عندو نزعة القيادة ومن زغرو كان نجمو عالي عندو حضور وعندو شخصية استثنائية وفارض حالو ع الكل” يقول شقيقه أنور.
خمسة كانوا في البيت، ثلاثة شباب وصبيتان مع الاهل والكل يغني موالاً واحداً ونغمة موحّدة، التصدي للغرباء، هي دير الاحمر تلك القرية المرابضة على تلة يترامى من تحتها سهل البقاع ومن حولها تحلّق الغربان لنهشها، كانت الضيعة لا تزال تروي حكايات نضالها، أخبار رجالها ونسائها الذين حملوا السلاح لمواجهة الغرباء، كانت جرود الضيعة تخبر كيف لاحق أهلها المحتلين وكم شهيداً سقط لهم وعدد الجرحى الذي فاق التصور والذين رفضوا الخضوع للعلاج ليكملوا مواجهاتهم ضد المهاجمين، عاش أكرم القزح وسط كل تلك الأخبار.
أخبروه عن الممرضة ايفا التي تحولت الى طبيبة في الضيعة بعدما تعذّر وصول الأطباء الى المستوصف، وكيف كانت تتحايل على المسلحين لأبعادهم عن الجرحى، وأخبروه عن السيدات اللواتي حملن البنادق ولحقن الرجال الى الجرود، ليس لمدهم بالطعام وحسب انما للوقوف جنباً الى جنب معهم لصد العدوان، هؤلاء كانوا صدم وصدموا العالم بأخبارهم ومقاومتهم.
عاشت مقاومة دير الاحمر في ضمير الشاب الصغير اليافع الذي عاش مناضلاً قبل أن يحمل بارودته للزود عن كل لبنان، وكانت حانت الساعة. حوصرت دير الاحمر مثل قرى كثيرة بالمسلحين الفلسطينيين منتصف السبعينات، كانت سيدة بشوات ملفى التضرّعات زوادة المقاتل، صعبت الأوضاع وأصبحت مستحيلة، بدأ أهل الضيعة بعدما استنزفوا في الدفاع عن قريتهم، بدأوا بالرحيل، كان مستحيلاً مقاومة المدافع بالبواريد، وما لبثت أن اصبحت المنطقة المحيطة ساقطة عسكرياً بعد دخول الاحتلال السوري اليها.
كان أكرم في الخامسة عشرة من عمره، لم يعد يتحمّل البقاء ليسمع أخباراً عن مقاومة مسيحية لبنانية هناك وهنالك تزرع الدروب من سواعدها وشهدائها وهو يجلس في خنادق الطفولة يعمّر متاريس الوهم. ترك كل شيء، الأهل، المدرسة، الضيعة وذهب ليكون هو، ليلتحق بأول مركز عسكري في بيروت وليخضع للتدريبات اللازمة، وليتحوّل لاحقاً كما شباب ذاك الوقت الى مناضل على جبهات لبنان.
انضم بداية الى مجموعة مقاتلة في الشمال وبدأ يتنقّل من جبهة الى أخرى. صار مقاتلاً في قلب “القوات اللبنانية”، وكانت “القوات” بدأت تستعيد تنظيمها وقوتها وكانت تلك الفرقة المخيفة للأعداء، التي تعلّق وسام قتال وشجاعة على صدر “القوات” والمنطقة الشرقية منتصف الثمانينات، نحكي عن فرقة الصدم، صار أكرم القزح في قلب الصدم وما لبث أن تولّى قيادتها العام 1988، وليس لكل مقاتل أن يكون قائد صدم ما لم يكن يتحلى بصفات أكرم القزح. الوسيم الرقيق مع الفقراء والضعفاء، الذي كان منذ صغره يوفّر من مصروفه الخاص ليشتري دواء لمحتاج أو يتصدّق به على فقير، الوسيم الذي عرف كيف ينسج علاقات اجتماعية واسعة من خلال دماثته وقربه للناس ولطفه ومرحه، كان رجلاً آخر عند الجبهة، كان قائداً بكل ما للكلمة من معنى، “ما كان يتمرجل على الناس كانت مرجلتو ع الجبهة او بس يكون عندو مهمة عسكرية بشي مطرح، هونيك بيصير انسان تاني مختلف عن يللي بيعرفوه الناس بالحياة العادية”.
الوسيم الذي أحبته الصبايا ورفض أن يرهن قلبه لأي واحدة منهن لأنه رهن حياته لحبه الأبدي، المقاومة، صار قائد وحدة الصدم التي ضجّت أخبارها بين العدو السوري حين حاصر المنطقة الشرقية وحاول اقتحامها بترسانته فوقف عاجزاً عند أبوابها وأسوارها المنيعة، وكان مقاتلو المقاومة اللبنانية هم السور المنيع، وكان عند كل سور أكرم ما، وكان أكرم زرع كل الجبهات من حضوره، ابتداء من معركة الجبل بداية الثمانينات وصولاً الى حرب الألغاء… حرب الإلغاء تلك.
لم يهب أي جبهة، لم يتردد في أي مهمة، ولو لم يكن قلبه أسد رابض على جبهات الشرف، لما كان سمير جعجع سلّمه قيادة أصعب الوحدات القتالية في “القوات اللبنانية” آنذاك، أي الصدم، “كان عسكري ممتاز ممتاز، عندو حنكة عسكرية مخيفة وحرفية عالية جداً، غير انو كان انسان مميز بكل معنى الكلمة واجتماعي بيحب الناس، لكن حياتو كانت للمقاومة وبيتو الثكنة، نفل نحنا ع بيوتنا ويبقى أكرم بالثكنة عم يتدرّب ولولا ذلك لما سلّم قيادة الصدم” يقول رفيق دربه المناضل بيار جبور.
كان ممنوعاً على الصدم أن يخسر أي معركة مهما كانت كبيرة أو صغيرة، ولا معارك صغيرة عندما يتعلّق الامر بحدود الوطن أو مواجهة الاحتلال في حرب التحرير، عرف أكرم أن خطراً ما داهماً بدأ يطرق بقوة على المنطقة المحررة أولاً وتالياً على المسيحيين، حارب لأن الحرب حربه أولاً وزرعت “القوات اللبنانية” مدافعها الطويلة المدى بقلب دبابات السوريين في كل المناطق المحتلة آنذاك، لكن صوت المدفع لم يقف عند تلك الحدود.
كانت فرقة الصدم تتحضّر لتصوير أعلان ترويجي لها عبر “المؤسسة اللبنانية للارسال” حين كانت تلفزيون المقاومين، “حيث لا يجرؤ الاخرون” تذكرون بالتأكيد، كان أكرم في الثكنة في دلبتا واذ تصل رسالة من الحكيم بضرورة الالتحاق فوراً بثكنة نهر ابراهيم، كانت اندلعت “حرب الإلغاء” تلك، كان أكرم مريضاً وحرارته تجاوزت الأربعين وبالكاد يستطيع الوقوف، لكنه رفض البقاء وأصرّ على الالتحاق مع الشباب الى حيث يجب أن يكون “وصلنا ع مركزنا بنهر ابراهيم وكانت بلّشت المناوشات، كنا واقفين عم نتداول بشؤون عسكرية واذ بتسقط قذيفة دبابة بالحرج القريب، تطلعت بأكرم وفجأة رأيته يتهاوى بحضني، فكّرت لوهلة لانه محرور وعم بتصبب عرق انو انصاب بدوخة سألتو “شو باك أكرم؟” جاوبني “آخ آخ آخ” تلات مرات، خزّقت تيابو فسالت الدماء…” أصابت أكرم شظية في رقبته، في الوريد مباشرة، فارتمى في حضن رفيقه وصديقه بيار جبور، نقله الرفاق الى مستشفى عشقوت وعلى الطريق اتصلوا بـ بيار “فقدنا أكرم”، وكان الرفاق وقبل نحو عشر دقائق فقدوا أيضاً الياس حداد وفخري الفخري، تحوّلت الدقائق الى نهر شهداء فأي كلام بعد يكتب؟
أكمل الرفاق المعركة، تولى بيار جبور قيادة الصدم، ممنوع على الصدم أن يُصدم، يتلقى الضربات القاسية، يواجه بحزم وقسوة وينتصر ومن بعدها له أن يحزن. لم يدرك رفاقه أن الحزن على أكرم سيكون بهذا العمق بهذ التأثر بفيض الكرامة، حتى في الحزن كرامة عندما يكون الاستشهاد كبيراً الى هذه الدرجة، أكمل الابطال طريقهم وذهب أكرم في طريقه، منذ البداية عرف أن هذه طريقه في الاساس، كل الضيعة تعرف بطل الصدم ولو كانت لا تعرفه شخصياً، كانت حكاية بدأت عام 1962 وانتهت في كانون الثاني 1990، حكاية كتبت آخر السطور في الثامنة والعشرين، لكن قوس القزح ما زال يرسم وجه أكرم القزح المبتسم بالكرامة.
*لأن الوفاء أقل ما يمكن أن نقدمه لشهدائنا، ولأن كل واحد منهم قصة بطولة وملحمة عنفوان، ينشر موقع “القوات اللبنانية” الالكتروني بالتعاون مع مجلة “المسيرة” ما عرضته في خانة “إن ننسى فلن ننسى” من حكايات رفاق توجوا نضالهم بالاستشهاد لنبقى ويبقى الوطن.
للإشتراك في “المسيرة” Online:
http://www.almassira.com/subscription/signup/index
from Australia: 0415311113 or: [email protected]