كتبت فيرا بو منصف في “المسيرة” – العدد 1544
لم يشهد جوزف الياس على تلك اللحظة التاريخية التي عاش وناضل لأجلها، استقلال لبنان الثاني وجلاء جيش الاحتلال السوري عن أراضيه، لكن شهد لبنان على جوزف أنه مناضل زرع الأشرفية وصولاً الى زحلة، حكايات عن مقاتل في صفوف المقاومة اللبنانية حمل مع بندقية الدفاع عن الوجود، إنسانيته على كف نضاله وقال للعالم “أنا مقاتل من لبنان”…
لم يمت جوزف على الجبهة، لم يستشهد في معركة بمعنى الشهادة، لم يعرف جوزف معنى الخيانة يوماً لأنه كان مسؤولاً عن رفاق لم يعرفوا إلا معاني التضحية والوفاء لقضيتهم، لكن خانه قلبه الكبير حين عجز عن تحمّل المزيد من دقات العمر، والعمر كان أُثقل بالكثير من التجارب والنضال فسلّمه الى الحياة الأخرى وهو بعد في الخمسين وقبل عام من التحرير، العام 2004، ولأول مرة يستسلم المقاوم لقدر يغلبه، ولأول مرة خسر معركته فذهب ولكن بقي جوزف الياس أول قائد لسلاح المدرعات في المقاومة اللبنانية ومن ينسى الصامت الكبير صاحب القلب الذي لا يهاب؟
بالنسبة إلينا نقول عنه شهيداً، منذ بداية اندلاع الحرب في لبنان، تناسى جوزف المراهقة وطيش الشباب وأحلامهم وطموحات الرفاهية وذهب في اتجاه هدف واحد، إنقاذ الوطن من الغرباء والمسلحين وأحلام الغزاة بإبتلاع الوطن، ترك البيت ولم يتركه أهله، كانوا ثلاثة شبان وصبيتين، لم يسأل أحداً حين اتخذ القرار الكبير، وأحد في البيت لم يسأله أين يذهب، كانت من بديهيات الحياة في لبنان أن يذهب الشباب الى المقاومة ليكونوا سداً منيعاً في وجه الاحتلال، ودفاعاً عن الوجود المسيحي الحر وعن الشرف والناس والأرض، كلام كبير لكنه أصغر بكثير من أن يعبّر فعلاً عما كان يجري حينذاك وعما فعله هؤلاء الشباب.
إذن كبر فجأة المراهق وصار رجلاً مسؤولا ًفي مقاومة شرسة تجوّلت عند خطوط التماس وفرضت تماسها وخطوطها الحمر على الآخرين، الآخرون كانوا كثراً، منهم من كان من بيننا ومنهم من كان الغريب، والغريب ما غيره كان محرّكاً لكل هؤلاء، لم يعجبه المشهد، لم يتمكن حتى من البقاء والمقاومة في مكان واحد، كل شبر في بيروت والضواحي ولبنان كان يعتبره ملكاً شخصياً له وعليه أن يحرره، أن يقتحم المكان وينزع عنه الأيادي السود، أن ينتشله من فكّ الأسد وكاد الأسد ومعاونوه ان يحكموا قبضتهم بالكامل على الأرض والناس لولاه لولا رفاقه المناضلين، لولا الناس المشجعين المتعاونين، لولا المقاومة اللبنانية.
وقعت حرب المئة يوم في الأشرفية وكان هو ابن الجنوب من سكان الأشرفية، مئة يوم وجيش حافظ الأسد يدك المباني وهو بعيد عنها أمتاراً قليلة، والناس تحت في الأقبية والملاجئ والشباب فوق عند المتاريس على مداخل الأشرفية يقاتلون، يستبسلون، يهدرون العمر ليربحوا أعماراً ووطناً وربحوا المعركة، بضعة شبان يسكنهم وطن بحاله هزموا آلاف الجنود والدبابات والمدافع، جنود يسكنهم الحقد والحسد والطمع، ذهبت الدبابة السورية عن أبواب الأشرفية، خرج جوزف ورفاقه منتصرين.
لم تقف الحرب كانت جبهة أخرى، جبهات في انتظاره، تسلّم مخيم تدريب في قمهز لطلاب الاحتياط، وكان مسؤولاً عن عدد كبير من الثكنات في عين الرمانة وفرن الشباك ودوما وأدونيس وهناك وهنالك، وكل يوم كان يتضاعف عدد الشباب الجدد المتدربين “كان إنسان رائع يتعاطى معنا بأخلاق ومناقبية عالية جداً، وكبر عددنا كتير على أيامو وكان ممنوع علينا التدخين أو شرب كحول أو التصرف بطيش وقلّة مسؤولية، تعلمنا الكتير منّو وأهم درس إلنا كان احترام بلدنا واحترام البدلة التي نلبسها ويللي بتمثل قيم النضال وكنا نحترمه الى أبعد الحدود” يقول طوني موسى أحد رفاق النضال في تلك الأيام، والذي رافقه الى المتراس في حرب زحلة.
العام 1981 وجّه الشيخ بشير نداءه الشهير للالتحاق بجبهات زحلة وأعلن الحرب على الغزاة، ذهب جوزف مع رفاقه وكان قائد سلاح المدرعات، استلم هناك الجبهة، لم يعرف ليله من نهاره، لم يستكن، لم ينم إلا لماماً، لم يكن ليهنأ له بال قبل أن يعرف أن الناس في الملاجئ تحصل على الطعام والدواء والمواد الأولية كافة، وكان شباب المقاومة يزرعون الجبهات من أعمارهم ويجولون على الناس يزرعون الاطمئنان في كرامتهم بأن زحلة عائدة إليهم ولن تمسّها الأيادي الملوّثة الغريبة، ولم يكن جوزف أيضا ليهنأ له بال قبل أن يعرف أن زحلة ستعود زحلة الكرامة وأن جيش حافظ الأسد سيعود ذليلاً عن أبواب زحلة وهذا ما حصل. قائد وحدة المدرعات وبعد نحو ثلاثة أشهر من القتال الضاري، عاد الى بيروت على ظهر الدبابة يرفع إشارة النصر وراية الكرامة، ووقف الاحتلال عند الأبواب يراقب المشهد مكسور الشرف، كما هي العادة، ومتوعداً بالمزيد كما عاد وفعل بلبنان وبالمناضلين الشرفاء.
“هيدي رسالة ولازم نكمّلها للآخر” كان يقول لرفاقه ولأهله حين يسألونه عن الأوضاع “ما كان يخبّرنا أي شي عسكري أو عن مهماته بس كان يتطمّن عنا، كان كتوم جداً بالأمور العسكرية وبالوقت ذاتو كان صاحب قلب طيب وكبير وإنساني الى أبعد الحدود وكريم وهادي يشتغل كتير بصمت ومن دون استعراض لأنو كان صاحب قضية ومسؤولياتو كانت كتير كبيرة” يقول أخوه الأكبر سمير، ويتذكّر حين كان يسأله أن يرتاح من هذا الهمّ وهذه المسؤوليات المرهقة فيجيب جوزف بحزم “في ناس بدها تقشطك بلدك وفي حدن بدو يحافظ على بلدو ويحميها وهودي الناس هني نحنا”.
لاحقاً استلم جوزف أمن المجلس الحربي، وكالعادة لا ينام الحرّاس، لا ينعسون، لا يتعبون ولا يهملون، كانت الجبهات تشتعل هناك وهنالك، وكانت المنطقة الشرقية هي الوحيدة الحرة المحررة من الاحتلال السوري وأعوانه، وبقي جوزف الى جبهته يناضل لأجل منطقته تمهيداً لتحرير كل الوطن، لكن الوطن في مكان ما خذل القلب الكبير، وبدل أن يسعى الى تحرير باقي الأراضي، دخل الاحتلال الى كل لبنان ووقع الوطن في قبضىة الأسر قبضة الأسد، خلع المناضل البدلة الزيتية، خلع المناضلون جميعاً بدلاتهم الزيتية، كان حان وقت النضال من دون سلاح، من دون جبهات وعسكر وبدأ غير نضال في الليل، وتحت جناح الملاحقة والاعتقال والموت في معتقلات الأمن العسكري السوري ـ اللبناني. خلع المناضل بدلته الزيتية ورفض حتى الزواج، بقي عازباً بعدما تزوّج قضيته “أنا دمي على كفي لشو عذّب بنات الناس معي” كان يقول لأهله عندما يطالبونه بالزواج، ودم المناضل توقّف عن قلبه في ذاك العام صحيح، ولم يكحّل كرامته بمشهد ذل المحتلين وهم يخرجون، لكنه كان يعرف أنهم سيفعلون قريباً وقريباً جداً، كان مؤمناً بذلك وبأن هذه الأرض هي كما دائما مقبرة الغزاة، حسبه أنه رآهم من حيث هو، وفوق يحتفل معهم دائما بثورة الأرز، هو من حمل الأرز فوق القلب الكبير والقلب الكبير لا يحتمل عادة كل هذا الحب فينفجر ليتحول شعاعا من نور السماء.
“خيي شهيد والعيلة بتفتخر كلها بجوزف هيدا شرف إلنا منحملو العمر كلو” يقول أخوه وتقول أيضاً المقاومة اللبنانية، هو شهيد بالنسبة إلينا حسبه أنه وقف الى جبهة وزرع الغار حيث كان وسيكون دائماً.
*لأن الوفاء أقل ما يمكن أن نقدمه لشهدائنا، ولأن كل واحد منهم قصة بطولة وملحمة عنفوان، ينشر موقع “القوات اللبنانية” الالكتروني بالتعاون مع مجلة “المسيرة” ما عرضته في خانة “إن ننسى فلن ننسى” من حكايات رفاق توجوا نضالهم بالاستشهاد لنبقى ويبقى الوطن.
للإشتراك في “المسيرة” Online:
http://www.almassira.com/subscription/signup/index
from Australia: 0415311113 or: [email protected]