كتبت فيرا بومنصف في “المسيرة” – العدد 1538
لم أجد له صورة بالثياب المدنية، لم أجد صورة من دون لحيته الطويلة، أو لعلني لم أشأ ان أبحث جيداً ليبقى الزيتي في بالي، عيناه الزرقاوان والبدلة العسكرية الزيتية تلك هذه صورته الرسمية وغير الرسمية، لبسها ذات مرة وكان في الثامنة عشرة وحتى الآن ما زال يلبسها مع فارق بسيط انه علّق عمره على رأس البندقية وقال “ما بتحرز الدني نعيشها ويكون فيها ذل” وما زال مرفوع الرأس هناك، عبدالله يوسف يونس أنت في غاية الوسامة يا شهيد المقاومة.
لو بقيت بعد يا شب ضيعان هالحلا الا نراه يعيش تفاصيلنا اليومية. لكن لا، ربما هناك أفضل، حيث منحت الرب كل حلاك، أو لعله منحك تلك الوسامة الفائضة ليمتزج أزرق عينيك بسماء يسوع وتصبح معه والرفاق شهود الحياة فوق، شهداء الوطن تحت وليحيا الوطن… لحظة، يحيا الوطن وأنت وأمثالك بالآلاف تنهمرون في الشهادة، يحيا لمن إذن؟
عندما قرر الالتحاق بجبهات الشمال، هو ابن عكار أساساً وسكان الزوق في كسروان، لم يفكّر لحظة بالاجابة عن سؤال مماثل، وقف ذات ليلة على باب وطن تدكّه بنادق الأعداء من كل الجهات، رأى بالعين المجردة شباباً يتركون الحياة والبيوت والأهل والحبيبات، يحملون العمر على كف الموت ويذهبون الى بيوت المتاريس، عزّت عليه الحياة في الملجأ وفي الخباء، هو كما كل اخوته، لم يقبل أن يكون المتفرّج على موت الشباب، على نار وطن يلهبه الاحتلال والعملاء والمسلحون الغرباء، نهض، لبس البدلة، لم يودّع الأهل، هم كلهم كانوا معه الى الجبهات حتى لو بقيت النساء في البيت، ثلاث شباب وثلاثة صبايا والأب والأم، لكل منهم جبهة يقاوم من خلفها.
حمل البندقية وذهب الى جبهة الشمال في شناطة بداية، التحق بثكنة القطارة لاحقاً، جلس الى جبهة العز والكرامة والصمود في دير بلا، عرفته كل جبهات الشمال ليس مقاتلاً شجاعاً شرساً عند الحاجة وحسب، إنما المقاوم الوسيم الملتزم حتى الدماء بقضيته، لم يكن انتماءًا أعمى من دون خلفية تاريخية كبيرة، انما ايماناً عميقاً وقناعة تامة بأن على المسيحيين أن يدافعوا عن أرضهم وشرفهم وإلا لضاع لبنان.
كان يعتبر أن المقاومة المسيحية مسار تاريخي وليست ابنة اللحظة، كان لبنان بالنسبة اليه ذاك العالم الرحب الواسع حتى لو ضاقت المساحات بطموح وأحلام الشباب أحياناً وهو من بينهم، لكنه كان مقتنعاً أن ما لم يحمل الشباب البندقية لصد العدوان لن يتمكن أي شاب فيما بعد من تحقيق أحلامه لأن الوطن سيضيع وستضيع معه كل القيم والأحلام، بالفطرة كان مقتنعا بكل تلك المبادىء النبيلة.
“لحد هلأ ما حدن نسي عبدالله لأن كان كتير قريب من أصحابو ومهضوم وكريم وبيحب الحياة وبيساعد وقت لـ”بيقدر” يقول أخوه جورج المناضل الثاني في بيت المقاومين ذاك، الذي كان يغيب عنه عبدالله أحياناً لأيام طويلة لان الثكنات والمتاريس لا تعرف الدوامات، ولأن معارك الشرف لا تخضع لروزنامة الحياة اليومية العادية، خرج عبدالله عن هذه المنظومة لينضم الى مواعيد الجبهات التي يرسمها الأعداء أحياناً وفي أحيان أخرى يرسمها المقاومون أنفسهم، لكن ما أن يتسنى له الوقت، كان يهرع الى الزوق ليرى أمه ووالده واخوته، يطمئن الى أحوالهم، يجالسهم، يحذرهم من التجوال عند اشتداد الخطر، وما يلبث أن يعود الى حيث قرر أن ينتمي، الى قلبه، الى قناعاته “كان حنون كتير وضحى بالكتير، هو اختار هالطريق وهيدي كانت قناعتو وكان كأنو عارف حالو بدو يموت بوقت قصير بس بقي مكفي طريقو اللي رسمها لنفسه” يتحدث عنه اخوه باعتزاز.
لم يترك عبدالله عيلته بعد، هو يسكن قلب البيت وفي كل تفاصيله أيضاً، لم يذهب الى الجامعة لكنه تخرّج برتبة المناضل المؤمن من الدرجة العالية “ما في دم بيروح هدر إذا كانت الشهادة إيمان وإلاّ دماء المسيح بتكون راحت هيك” كان يردد أمام رفاقه.
جاءت حرب الجبل تلك وكان أيلول العام 1983، هو في الخامسة والعشرين يضجّ بالدنيا كلها، يتنقّل وسيماً على الجبهات يزرعها من قوته وصلابته وشجاعته ولا يسأل عن مكان أو زمان، حسبه انه مقاوم الى جبهة تزود عن وطن بكامله، عند جبهة عين الحور في الشوف كان واقفاً، وصله خبر من دير القمر أن المعارك انتهت والقتال توقف والشباب عائدون الى بيوتهم، وبالتالي على الجميع التزام وقف النار والعودة، ففعل، أرخى بندقيته، ابتسم لرفاقه “شو خلصت الحرب شباب”؟ قال ممازحاً وخلع الطاسة عن رأسه معتبراً أن الرصاص لا ينطلق حين تُرفع الرايات البيض ويعلن النفير صفارة النهاية، صرخ بوجهه رفاقه جميعاً “عبدالله ما تشيل الطاسة عن راسك ما حدن بيعرف شو بيصير” ضحك لهم ساخراً “خلصت الحرب شو بدو يصير يعني ما بتحرز”… ولم يكمل جملته، سقطت قذيفة قريباً منه وطارت شظية وحولت الربيع الى غياب، الحياة الى شهادة، ارتفع الوسيم على مذبح يسوع بعدما قاوم لنحو شهر في المستشفى، لكن الرب قرر انه يجب أن ينتقل إليه، فذهب، ذهب أكثر وسامة، أكثر شباباً، أكثر كرامة بعدما زرع أرضه من مواسمه، من عنفوانه ومن عينيه الزرقاوين كل ذاك الحب، ولتتحول الأرض حيث استشهد الى غصن عز غرزه ذات عمر مقاوم لبناني حلو، صار أكثر وسامة لأنه لبس البدلة الزيتية ذات مجد، ولأن البدلة إياها صارت حكاية وطن وليس أي وطن…
يا شب الوسيم أين زرعت كل هذا الأزرق الجميل الآن؟
ببيتنا، يجيب، عنّا صار في شهيد وأهلي ورفاقي بيخبروا عني بفخر، بعدني هون ما فليت ومش رح فل، انا شهيد بـ”القوات اللبنانية” وشهيدنا ما بيموت، نحن سنبلة القمح في حقول لبنان ما تنسوا…
*لأن الوفاء أقل ما يمكن أن نقدمه لشهدائنا، ولأن كل واحد منهم قصة بطولة وملحمة عنفوان، ينشر موقع “القوات اللبنانية” الالكتروني بالتعاون مع مجلة “المسيرة” ما عرضته في خانة “إن ننسى فلن ننسى” من حكايات رفاق توجوا نضالهم بالاستشهاد لنبقى ويبقى الوطن.
للإشتراك في “المسيرة” Online:
http://www.almassira.com/subscription/signup/index
from Australia: 0415311113 or: [email protected]