كتبت فيرا بو منصف في “المسيرة” – العدد 1551
… وعند الصباح نهض فيكتور بكامل نشاطه كالعادة، لبس بدلته الزيتية، تناول الترويقة، كان يغني بحماس غريب، ودّع أمه ولما أصبح خارج العتبة عاد إليها وقبّلها من جديد وقبّل اخوته “شو باك يمّي هلأ بوستني رح تتأخر ع شغلك”. ضحك وعاد وقبلها للمرة الثالثة “وبلكي ما عدت شفتكن من جديد”؟ وخرج ليعود بإكليل الغار فوق النعش الأبيض إياه، يشقّ عين الرمانة وعين المقاومة ترعاه هو الشهيد… فيكتور يونس زلابية مريم ما زالت بانتظارك…
لما تزوّج فؤاد يونس مريم كليم لم يتوقع أن ينجب عشرة أولاد، سبعة شباب وثلاث صبايا، فابن المؤسسة العسكرية كان كثير التجوال، لكنه لم يشأ الاستقرار إلا في تلك القلعة التي رسمت أبعد من خطوط التماس، خطوط مقاومة لبنانية من المستحيل تجاوزها لأنها تعمدت أولا بالشهادة وثانيا بذاك الحب الذي لا يقارب، حب الأرض.
إذن استقر ابن بلدة مزمورة في الشوف في قلعة الصمود في عين الرمانة، هنا عين الرمانة حيث الشوارع ليست شوارع إنما متاريس، هنا شارع مقطوع ببوسطة خردة ترد الرصاص الطائش عن الناس، وهنا تران عتيق يأكله الصدأ لكنه كفيل بحجب رؤيا قناص يتربص بأعمار الشارع ولا يميّز بين نساء وأطفال وعجائز، كلهم غنائم تلتهمها بندقية غريب ومن يعاونه من أبناء البلد آنذاك، والأهم، كلهم كانوا ورقة صيد ثمين رابحة للمساومة، علّ هؤلاء الذين يطلقون على أنفسهم لقب “مقاومون” يتراجعون عن ذاك العنفوان الغريب، ويستسلمون لإرادة الغريب وليصبح الوطن وطن هؤلاء ونحن الضيوف ولم يحصل.
كانت هنا بيروت وهناك في المقلب الآخر بيروت أخرى لا تشبهنا، وما بينهما ساتر فاصل وكل مشاريع الموت تلك، وكانت عائلة يونس من بين آلاف العائلات تعيش منظومة المقاومة، تصحو أحيانا على هول القذائف لتهرع الى الملاجئ والشباب الى المتاريس، وأحيانا أخرى على أصوات الشباب توقظهم من إغفاءة لتؤمن لهم ما ينقصهم في ليالي الخطر، وأحيانا أخرى تهرول بهم الى ملاجئ الأمان المفترض ولم يكن ثمة أمان، وأحيانا كثيرة كثيرة تصحو على صوت أجراس الكنائس تقرع لقوافل الشهداء والتوابيت البيض تزيّن ساحة كنيسة مار نهرا في فرن الشباك، وهناك تنهمر حكاياتهم. هذه كانت عين الرمانة والمناطق الشرقية، وهنا عاش فيكتور.
لم ينتظر لينهي الثامنة عشرة فالتحق بالمقاومين، ولم يمنعه والده ولا حتى أمه، كان من بدهيات الحياة أن يلتحق الشباب بالمقاومة، فالوالد العسكري المسكون بجنون الثورة، كان الغضب يأكله كلما استوقفه مسلح فلسطيني أو يساري متعاون، وكان ينتظر بفارغ الصبر تحرير تل الزعتر وكل تلك الأراضي التي استباحها مسلحون غرباء، ولم يسأل حين قرر الإبنان، فيكتور وغازي الالتحاق بصفوف الشباب، لم يسأل بداية عند أي جبهة سيكونون وإن كان الخوف سكنه صامتا على فلذات العمر، ولكنه عرف لاحقا أنهما سيكونان في جهاز الأمن التابع للكتائب آنذاك، فاطمأن قليلا الى أنهما بمأمن نسبي بعيدا عن نار الموت المباشر عند الجبهات، وبدأ فيكتور تدريباته العسكرية في مراكز متعددة، وحمل بطاقته ورقمه وصار انتماؤه للبنانه المضيّق عليه ذاك، المحاصر بالاحتلال والغرباء والخطر من كل الجنبات.
ومرّ عام بسرعة الأحداث، وذات صباح في 25 من شهر آيار شهر مريم العذراء، العام 1982 وفيما كان أخوه الأصغر إرنست عائدا من المدرسة، وصل مدخل البناية حيث يسكنون في عين الرمانة، وفوجئ بأن براميل الرمل والأكياس أزيلت من المدخل، صعد الدرج شاهدته إبنة الجيران ولم تحدثه كما هي العادة، دخل البيت المشرّع الأبواب على بيت الجيران، كان الناس كثرًا يتجولون وثمة صراخ ، نظر الى الدار فوجد فيكتور ببدلته الزيتية ممددا والعمر في جماد فوق الجسد الذي بالكاد بلغ التاسعة عشرة. “عرفت بلحظتها إنو خيي استشهد”، لم يستوعب مارسلينو المشهد وبقي لوهلة، لأيام، يعتقد انه سيرى فكتور من جديد. هو المفضل لديه، لكن عرف لاحقا أنه لن يراه مجددا، وأن اخوته هم من سكان عين الرمانة، ما يعني ان منظومة المكان تنسحب عليهم أيضا، أي أنهم قد يكونون وفي أي لحظة من بين قافلة الشهداء تلك التي توالت على أهل المكان.
هذه عين الرمانة يا عالم، هنا كما الأشرفية وزحلة والشمال، هنا جبهة الحياة حين تنتصب في وجه الاحتلالات، وأول مظاهر المقاومة هو عرس ترسمه الشهادة غالبا في الشوارع حين ترتفع الأشرطة البيضاء زينة وتكلل المكان توابيتهم البيض، وانضم فيكتور باكرا جدا، في التاسعة عشرة وأربعة أشهر الى عرس السماء ذاك “عاش فيكتور كل هالمشهدية للعضم، تأثر بأخبار الشباب هني ورايحين ع الجبهات وكان يتتبع تفاصيل العمليات العسكرية من أقارب أو أصدقاء بالحي، وكان الوالد ثورجي أكتر منو وحتى امي كانت مليانة عنفوان ورافضة للغربا، تأثر فيكتور وتأثرنا نحن وصرنا كلنا بالبيت مقاومين”، يغالب إرنست دمعاته حين يتحدث عن أخيه “تعلمنا بمدارس عين الرمانة ويومها كنا ندرس لغة الشارع قبل الكتاب، ولغة الشارع يعني التصدي والصمود، يعني أخبار الشباب المقاتلين، كان بدو يحارب الكل كرمال بلدو وبالمقابل كان حدن كتير مسؤول ويعتبر حالو مسؤول عنا خصوصا بغياب الوالد بمهامو العسكرية”.
يوم الأحد ورغم انشغاله بمهمامه، كان الوالد يصر على حضور العيلة مجتمعة القداس، يذهبون قافلة ويشاركون، يخدمون الرب، ويرسمون إشارة الصليب قبل أي انطلاقة صباحية وعند آخر إغفاءات الليل “كان الوالد صارم بهيدا الموضوع وفيكتور كان كتير متعبّد للعدرا ومار شربل وعندو إيمان غريب انو بلدنا رح يرجع أحلا بلد”.
عندما يأتي من مهامه العسكرية لزيارة العيلة، كان يرفض التحدث بشؤون عسكرية او ما شابه، ويرفض التباهي أو تعداد ما يفعله الشباب، “كان مؤتمن على أسرار شغلو ويحب العيلة كتير والناس وما يختلف مع حدن أبدا ويعتبر إنو عين الرمانة عيلة واحدة كل واحد مسؤول عن التاني” .
رغم الابتعاد لم يترك فيكتور ضيعته، كان يعشقها، يحب أن يجالس شجرها وزهرها ورائحة التراب فيها ولذلك اشترى أرضا هناك، حيث ملاعب الطفولة مسيرة الغيم والبراءة والزهر وربيع الأيام، كان يحب التين والزيتون والعنب ويريد أن تمتلىء أرضه من كل تلك الخيرات، ويحب حلوى الزلابية على عيد الغطاس، وكان يحب صبية جميلة، سكنت قلبه ولم يتسنَّ له أن يسكنها عمره، كان الوقت قصيرا لكل شيء، للحياة والمقاومة والحب والعمر كله، فعل في سنيه القصيرة ما لا يفعله عمر بحاله. من أين استمد القوة ذاك المقاوم الشجاع؟
“مقدام وما يخاف من شي وكريم كتير يوزّع علينا معاشو ويساعد الوالد بأعباء البيت، وعاشق كبير للحياة بدو يعمل كل شي بأسرع وقت وكأنو كان عارف إنو الوقت رح يهرب منو بسرعة” يقول إرنست، وهرب الوقت، ذهب الشاب الرجل المعتّق وهو بأول درجات العمر “كان عمري أربع سنين وما صدقت وبعدني لهلأ بحس حالي مش مصدق إنو فلّ فيكتور” يقول جيتاني الأخ الأصغر في شجرة العيلة. وحتى الآن وبعد أربعة وثلاثين عاما، ما زال فيكتور يسكن العائلة، لم يترك الشهيد بيته بعد، يشاركهم في كل شيء وبكل التفاصيل، يوم استشهاده وبسبب الأحداث الأمنية والحروب، وكما غالبية شهداء المنطقة، دفن فيكتور بداية في مقابر كنيسة مار نهرا، لكن العائلة رفضت بقاءه هناك، فكان له مدفن خاص في ضيعة قلبه مزمورة، لكنه ما زال في قلب البيت الذي صار بيوتا وعائلات وأحفاد، صوره على حيطان القلب تتربع، والبخور رائحة من رائحة يسوع تتناثر في أرجاء الذكرى، ذكراه الحلوة المعطّرة بالكرامة، كيف لا؟ أليس مقاتلا مناضلا في قلب المقاومة اللبنانية؟
كلهم في العيلة يعرفون أن ثمة نعمة هنا ترفرف اسمها فيكتور، ثمة فخر تُرفع له قبعات الشرفاء اسمه فيكتور، ثمة حب انهمر شهادة مبللة من دمع وفخر وانتماء ربيع مقاومة لمجد وطن هو فيكتور، “صار قديس العيلة” يقول الأخوان، وقديس العيلة انضم الى قوافل قديسين أحبوا الأرض وتماهوا معها ليصيروا منها ولها ومعها حكاية نور من نور الكرامة، وعندما نحكي بالنور لا نرى سوى ضوء إله شاب هو أول الشهداء وأعظمهم، كنا له ولأجله وسنبقى في عرسنا، عرس الاستشهاد للأبد، الى حين تلك القيامة والقيامة معهم ولأجله صارت قريبة، أليس كذلك فيكتور؟…
*لأن الوفاء أقل ما يمكن أن نقدمه لشهدائنا، ولأن كل واحد منهم قصة بطولة وملحمة عنفوان، ينشر موقع “القوات اللبنانية” الالكتروني بالتعاون مع مجلة “المسيرة” ما عرضته في خانة “إن ننسى فلن ننسى” من حكايات رفاق توجوا نضالهم بالاستشهاد لنبقى ويبقى الوطن.
للإشتراك في “المسيرة” Online:
http://www.almassira.com/subscription/signup/index
from Australia: 0415311113 or: [email protected]